04-أبريل-2017

تصوير: هشام أبو شقرة

لم تكن تعرف تلك الفتاة التي تقطن مدينة غزة، أنّ ما ينتظرها هو أكبر من مجرّد حدود وجنود، فهي مجرد شابة يانعة أودعت قلبها في مدينة رام الله المُسطّرة لقصص الهائمين، عشقت كادحًا بقلبٍ طُفولي، قلبها البريء لم يدرك حينها حجم الأسى والوجع الذي قد تختلقه تلك الحدود الفاصلة بين غزة ورام الله.

أربع سنوات مرّت على ميلاد حبهم، والحدود كما هي لم تتغيّر، الذي تغيّر أنّ قلب تلك الفتاة تسرّب له العديد من جرعات اليأس

لذلك أحبّته، وألغت كلّ تلك الحدود اللعينة التي وضعها عدوّ الحب، تخيّلت لسنين أنّ هذا العدو سيملُّ عمّا قريب، ويتعب من محاربته المستحيلة لقوة الحب، قضت سنة تلو الأخرى وحُبّها مقيّد لم يتعلّم الطيران بعد.

عنيدة تلك الفتاة، لا تستسلم أمام ظروف واقعها الشبه عقيم، دائمًا تغلب لحظات اليأس بمزيد من الأمل، من أين لها كل جرعات الأمل هذه؟! هل الحب فعلًا يجعلنا أقوى؟ أم نحن نختار أن نعيش على أوهام أحلامنا؟!

تعلّمنا وسمعنا دومًا أنّ "البعد جفاء" و"البعيد عن العين، بعيد عن القلب"، لكن هذان العاشقان لم تمنعهما المسافات التي اختلقها لهما عدوهما من غزل العيون التي لا تتلاقى، من بسمة الخجل واحمرار خديها عند همسه لها بكلمة "أحبك"، من الاهتمام بجمالها كي يراها دومًا جميلة، من عمله في وظيفتين يوميًا كي يجمع الكثير من المال ويعيش به لاحقًا معها، من تسمية مولودهم الأول الذي قد لا يأتي، من رؤيته لها في وجوه جميع النساء، ومن رؤيتها له في وجوه جميع الرجال، من عيش كلاهما في أحلام الآخر.  تلك المسافات التي أبعدت الشخص عن روحه، عن نصفه الآخر، لم تكن سوى اختبار لحبّهم البريء أمام كل تناقضات وقسوة هذا العالم البائس.  

مرّت أربع سنوات على ميلاد حبهما، والحدود كما هي لم تتغيّر، الشيء الوحيد الذي تغيّر هو تلك الفتاة اليانعة الحالمة، فقلبها الصغير الذي احتوى حُبًّا أكبر من حجمه، تسرّب له العديد العديد من جرعات اليأس، لم تستطع أن تتحمل ألم البعد الطويل، ولم تقدر على أوجاع الحرمان من روحها التي لا تقترب، فكلمة "أُحبك" كل دقيقة لم تعد كافية لتُغنيها عن اللقاء بحبيبها المنتظر، أرادت مرارًا أن تُنهي هذا الحب وتنزعه من قلبها؛ لكي لا تكون أنانية باسم الحب، وتحرمه من بناء عائلة صغيرة، لكنّها في كلّ مرة كانت تفشل، ليس فقط لعشقها له، بل خوفًا عليه من لحظات الضعف التي قد لا يقدر عليها؛ فهو ترك لها خيارين: إما هي أو الشهادة، فهو لم يرد هذه الحياة بدونها وهي لم ترد أن تتنفس هواءً هو لا يتنفسه، لم ترد أن تجعل هذا العالم القاتم يخسر لونًا زاهياً آخر، لذلك لم يكن أمامها سوى أن تختار أن تمضي معه ذاك الطريق المجهول الذي لا تعرف نهايته. 

أحبّته، وألغت كلّ تلك الحدود اللعينة التي وضعها عدوّ الحب، تخيّلت لسنين أنّ هذا العدو سيملُّ عمّا قريب، ويتعب من محاربته المستحيلة لقوة الحب

هي الآن ما زالت تنظر إلى ذات السماء التي ينظر لها حينما يشتاق لها، تحب ذات الأكل الذي يحبه، تشاهد ذات المسلسل التلفزيوني الذي يشاهده، وفي كل مرة يقول لها فيها "أحبك" تزداد خجلًا، وكأنّها المرّة الأولى، هذا طبيعي حينما يكون الحب خاليًا من شتّى المظاهر الزائفة، حينما يكون الحب "حُبًا" بكل ما تحتويه الكلمة من معاني جميلة. 

ما أجمل ذلك العالم الافتراضي الذي جمعهما وما أقبحه في نفس الوقت، قبيح جدًا كقبح تناقضه؛ يجمع بين القلوب ثم يدعهم يصارعوا هذه الحياة لوحدهم، ويكأن هذا البلد الغارق بأوجاعه بحاجة إلى قصةٍ أخرى من الكثير من الحب والكثير من الوجع والوجع والوجع، تُرى هل سيدوم ذاك الأمل الذي يحييان عليه إلى حين اللقاء؟ هل سيكون لقصتهم نصيب من السعادة؟ أم سيُقتل هذا الأمل كما قُتِلت الأرواح والأحلام والعديد من الآمال؟ ففي بلادي كل شيء يُقتل عدا الحب.

كثيرًا ما أشعر بأن هذا الذي يحدث للعاشقين عبر حدود هذا البلد التعيس هو لعنة أحد العاشقين الذين لم تكن نهاية قصة عشقهم نهاية سعيدة؟! فهل كتب علينا نحن بأن تكون جميع قصصنا يغلبها الوجع أكثر من الفرح؟! هل أحلامنا ستظل أحلامًا وتذهب معنا إلى القبر؟!

عشنا جميع أشكال الوجع والفراق والألم، نعيش مع الموت كل يوم، يرغبنا ولا نرغبه؛ لأنه، ورغم كل تلك الأوجاع التي تكتسي قلوبنا، ما يزال بوسعنا أن نحب ونحب ونحلم، فالحب هو أسلوبنا للحياة، واللغة التي لا ولن يفهمها عدونا.


اقرأ/ي أيضًا:

غزة: زوجات مغتربين بين تضييق الأهل ونار الشوق

المرأة الغزية والوجه الآخر لتحدي أزمة الكهرباء

عن أي حصار يتحدث الغزيون؟