تاريخُ جسر الكرامة: معبرٌ واحدٌ لثلاثة ملايين فلسطينيّ
24 سبتمبر 2025
جسر الكرامة، المعروف إسرائيليًا بجسر ألنبي، وأردنيًا بجسر الملك حسين، ليس مجرد ممر حدودي بين الأردن والضفة الغربية، بل عقدة سياسية–أمنية مركّبة. فهو الممر الوحيد لحوالي ثلاثة ملايين فلسطيني إلى العالم الخارجي، ويعمل كأداة للضبط الاستعماري وفق مبدأ الثواب والعقاب، إضافةً إلى كونه شريانًا اقتصاديًا تمر عبره نحو ربع تجارة الضفة الغربية، وآلة لجني الرسوم والغرامات التي تدر على إسرائيل مبالغ كبيرة.
يشكّل الجسر حالة استثنائية في منطق الحدود، إذ لا يخضع للمعادلة الثنائية التقليدية التي تفترض وجود دولتين على طرفي الحدود، بل يشكل منذ توقيع اتفاق أوسلو نقطة تجمع ثلاث جهات: إسرائيل (عبر هيئة المطارات)، السلطة الفلسطينية (عبر هيئة المعابر والحدود)، والأردن (عبر المخابرات وأمن الحدود). هذا التداخل غير المألوف إداريًا وسلطويًا يحوّله إلى فضاء معقد للسيطرة. ومع ذلك، تظل السيادة الفعلية بيد إسرائيل التي تحتفظ بالتحكم الكامل في حركة ملايين الفلسطينيين نحو العالم الخارجي.
يشكل جسر الكرامة معضلة جوهرية في أي نقاش حول الدولة الفلسطينية. فكيف يمكن لكيان يُفترض أنه "دولة" أن يعيش بينما شريان حياته الوحيد إلى العالم الخارجي يبقى تحت سيطرة خصمه الاستعماري؟
تاريخ الجسر يكشف طبقات مؤلمة خلفتها الحكومات المتعاقبة. في عام 1885 شيدت السلطنة العثمانية في متصرفية القدس جسرًا في هذا الموقع، ثم أعادت بريطانيا بناءه عام 1918 ضمن مشروعها الهندسي لربط فلسطين بالأردن بعد احتلال القدس على يد إدموند ألنبي. كان الجسر حينها مبنى خشبيًا–حديديًا تعرّض للتدمير عام 1927 بفعل زلزال أريحا، ثم مرة أخرى عام 1946 على يد قوات "البالماخ" في إطار عملية "ليلة الجسور"، التي استهدفت قطع خطوط التواصل العربية وإرباك الإدارة البريطانية. وأُعيد ترميم الجسر بعد ذلك ليصمد قرابة عقدين، حتى جاء عام 1967.
في أعقاب نكسة 1967 دمّرت إسرائيل الجسر من جديد، ليس كإجراء عسكري فحسب، بل كأداة سياسية لمنع اللاجئين الفلسطينيين المهجّرين شرقًا من العودة إلى ديارهم. حاول عشرات الآلاف عبور النهر سباحة، لكنهم اصطدموا بكمائن إسرائيلية أطلقت النار عليهم، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص، وإعادة آلاف آخرين قسرًا إلى الأردن. وفي الوقت نفسه، رتّبت إسرائيل ما عُرف بـ "عملية عودة اللاجئين" التلفزيونية، التي سمحت بعودة نحو 14 ألفًا فقط، في خطوة هدفت إلى تخفيف الضغط الدولي، بينما ظلّت الغالبية محرومة من حقها في العودة.
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي طبق موشيه ديان ما عُرف بسياسة "الجسور المفتوحة"، التي سمحت في بدايتها للفلسطينيين بالسفر إلى الأردن دون الحاجة إلى موافقات مسبقة. لكن هذه السياسة سرعان ما خضعت لتقييدات متزايدة، إذ فُرضت تصاريح خروج ورسوم عبور، كما جرى استهداف فئة الشباب الذكور (بين 16 و35 عامًا) بمنع بعضهم من استخدام الجسر لفترات تراوحت بين ستة وتسعة أشهر. ومع اندلاع الانتفاضة الأولى (1987–1991)، أصبح لزامًا على كل فلسطيني الحصول على موافقة مسبقة لعبور الجسر، فيما فرضت إسرائيل حظرًا عشوائيًا وجماعيًا على السفر كأداة للعقاب الجماعي. وفي عام 1991، أثناء حرب الخليج الأولى، أغلقت إسرائيل جميع المعابر أمام الفلسطينيين لمدة تقارب الشهر والنصف، ما أدى إلى شلل كامل في حركة السفر.

منذ اللحظة الأولى للاحتلال، تحوّل الجسر من معبر مادي إلى أداة للسيطرة الديموغرافية والحبس الجماعي. فكل فلسطيني يسعى للسفر مضطر لعبوره، لكن المرور مشروط بتصاريح أمنية وتصنيفات تحددها أجهزة المخابرات الإسرائيلية. تُستخدم هذه التصاريح كآلية ضبط أساسية، حيث تُرفض أو تُلغى مئات آلاف الطلبات بذريعة "الأمن"، دون بروتوكول واضح أو معايير معلنة. الإغلاق المفاجئ، المنع التعسفي، والتفتيش المهين يحوّل الجسر إلى فضاء لإعادة تشكيل الفلسطيني كـ"مواطن مطواع" للسياسات الإسرائيلية.
في عام 1993 أدخلت السلطات الإسرائيلية ما عُرف بـ"إجراءات الاستعلام"، التي أتاحت للفلسطينيين التحقق مسبقًا مما إذا كانوا خاضعين لـ"منع أمني" يحول دون سفرهم. غير أن الردود كانت بطيئة، وكثيرون لم يكتشفوا المنع إلا عند وصولهم إلى الجسر، حيث كان يُحرم مئات الأشخاص سنويًا من السفر دون أي تفسير.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية (2000–2004) جُمّدت هذه الإجراءات كليًا، وأصبح الفلسطينيون يكتشفون منعهم فقط عند المعبر. لم تُنشر إحصاءات رسمية، حول منع السفر، لكن منظمات حقوقية تحدثت عن آلاف حالات المنع. وفي عام 2008 فُرضت نسخة أكثر صرامة من الإجراءات حول استعلام منع السفر، تضمنت مرحلتين: التوجه شخصيًا لمكاتب الارتباط لتقديم الطلب، ثم انتظار أربعة أيام للرد الأولي، وإذا كان سلبيًا، ستة أسابيع إضافية لتلقي الأسباب. هذه المدد الطويلة أهدرت فرص الدراسة والعلاج والعمل، فيما استمر المنع على نطاق واسع ولم يُرفع غالبًا إلا بعد التماس للمحكمة العليا الإسرائيلية.
بين عامي 2010 و2011 دفعت سلسلة التماسات قضائية إسرائيل إلى تعديل إجراء المنع جزئيًا، في آذار/مارس 2011. لكن القرارات التعسفية استمرت وظل رفعها غالبًا مرهونًا بالضغط القضائي. وفي عام 2014، عقب خطف ثلاثة مستوطنين في الخليل، فرضت إسرائيل في إطار عملية "عودة الأخوة" عقوبات جماعية شملت منع 30 ألف فلسطيني من السفر، وهو أكبر منع موثق خلال سنة واحدة. بين عامي 2015 و2016 واصلت السلطات فرض القيود على الأفراد، حيث قدّمت مؤسسة "هموكيد" 24 التماسًا انتهت جميعها برفع المنع. حتى المحكمة العليا انتقدت هذه الممارسات، معتبرة أن المنع يُفرض بشكل اعتباطي وروتيني.
هذا التاريخ يعكس ما يمكن تسميته بـ"الهندسة الديموغرافية"، حيث يتحول المعبر إلى أداة لتشجيع الهجرة السلبية أو لإبقاء المجتمع الفلسطيني محاصرًا داخل "سجن مفتوح". النساء، والطلبة، والمرضى، وحتى الأطفال، جميعهم يخضعون للمنطق الأمني ذاته الذي يقرر من هو "مستحق للعبور" ومن هو "ممنوع أمنيًا". هكذا يُعاد إنتاج علاقات قوة استعمارية يكون فيها الحق في التنقل نفسه مُصادَرًا. ليس غريبًا إذن أن يصبح الجسر رمزًا يوميًا لانعدام الحرية الفلسطينية، ومكانًا تتجسد فيه علاقة الاحتلال بالجسد الفلسطيني بشكل مباشر.
وفي السياق السياسي الأوسع، يشكل الجسر معضلة جوهرية في أي نقاش حول الدولة الفلسطينية. فكيف يمكن لكيان يُفترض أنه "دولة" أن يعيش بينما شريان حياته الوحيد إلى العالم الخارجي يبقى تحت سيطرة خصمه الاستعماري؟
إغلاق الجسر في 24 أيلول/سبتمبر 2025 وحتى إشعار آخر، لم يكن مجرد إجراء "أمني" عقب مقتل جنديين إسرائيليين على يد سائق شاحنة أردني في 18 من الشهر نفسه، بل رسالة سياسية صريحة مفادها أن مصير الفلسطينيين يظل رهن القرار الإسرائيلي وحده. وحتى الخطط التي تُطرح أحيانًا لتطوير مناطق صناعية قرب الجسر وتوسيع الصادرات الفلسطينية بمليارات الدولارات تبقى مرهونة بالموافقة الإسرائيلية، بما يحوّل "التنمية" ذاتها إلى امتداد للهيمنة. بهذا المعنى، يغدو الجسر حجر عثرة أمام أي سيادة فلسطينية، لا مجرد عقبة تقنية قابلة للحل عبر ترتيبات إدارية.
الكلمات المفتاحية

النص الكامل لكلمة د. عزمي بشارة في افتتاحية مؤتمر "فلسطين وأوروبا" في باريس
بلغت فظائع الحرب الإسرائيلية على غزة حد إحراج حلفاء إسرائيل. لذلك، فإن وقف الحرب أوقف الحرج

قوة الإنفاذ الدولية... هل تعني عودة الاحتلال لغزة؟
التحوّل من "الحفظ" إلى "الإنفاذ" يُثير مخاوف فلسطينية مشروعة من أن تتحول هذه القوة إلى ذراعٍ أمنية دولية تعمل بما يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية

إسرائيل تشرع بتسوية الأراضي في مناطق "ج" وتسجيلها كملكيات خاصة للمستوطنين.. أي سياق؟
في أيار/مايو 2025، قررت الحكومة الإسرائيلية "إبطال" عمليات التسوية التي أجرتها السلطة الفلسطينية في المنطقة "ج"، والبدء بتنفيذ مشروع تسوية شامل لتسهيل التوسع الاستيطاني

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن
قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

الإعلام الحكومي: 288 ألف أسرة بغزة لا تملك أبسط مقومات الحياة
قطاع غزة يحتاج 300,000 خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأساسي للسكن الإنساني.

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"
في 10 شباط/فبراير، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس نقل صلاحية صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى إلى مؤسسة "تمكين"، تحت عنوان "إصلاح النظام المالي" واستعادة المساعدات الدولية المعلّقة

