12-مارس-2018

أنقاض مسرح النورس في غزة

أثار توقيعُ كتابٍ يحتوي مجموعةً من الصورِ لشخصٍ يُدعى كرم أبو زنادة زوبعةً كبيرةً بين أوساط الكتّاب والمثقفين في قطاع غزة، حيث ثارتْ ثائرةُ مجموعةٍ من الكتّاب الذين لم يجدوا في الكتابِ ما يُشيرُ بطريقةٍ أو بأخرى إلى شيءٍ ما يُمكن فهمه، أو أخذه بعين الاعتبار، أو وضعه في إطار مجدٍ، غير كونه تجمعية من صور لشخصٍ يبدو مولعًا بفكرة الظهور والاستعراض.

    شهد قطاع غزة في الفترة الاخيرة حالةً من تصاعد لشكلٍ من أشكالِ التسطيح والسماجة   

ما زاد الطين بلة أن الكتاب تم توقيعه في "المركز الثقافي الفرنسي"، المكان الذي من المفترض أن يُعير الأنشطة التي يتم تنفيذها داخِلهُ الاهتمام الكافي، كما يشرف على ما تقدمه هذه الأنشطة من محتوى، بالإضافة إلى مشاركة لكل من غريب عسقلاني وفايز السرساوي، وهما من الأشخاص الذين يفترض أن يُشار لهم إذا ما كان الحديث متعلقًا بالمشهد الثقافي في قطاع غزة.

اقرأ/ي أيضًا: غزة.. حصار للكتب أيضًا

الحقيقة أن قطاع غزة في الفترة الأخيرة شهِد حالةً من تصاعد لشكلٍ من أشكالِ التسطيح والسماجة، وهنا يمكن الحديث عن مجموعة من الحالات الفردية الموجودة والتي أثارت شكلًا من أشكال الرفض حينًا، أو الدهشة حينًا آخر، ويمكن الحديث عن عادل مشوخي مثلًا، وهو حالة تُجسد مستوى من مستويات الانحطاط والتراجع والرغبة في الظهور بكل الطرق الممكنة، التي أعتقد أنه يُدرك تمامًا أن أكثرها جدوى ما يكون أكثرها تطرفًا في تقديم مستوى منحدر من محتوى فقير وغير مفهوم.

في النظر إلى السياق الموضوعي لقصة عادل مشوخي الشخصية ومسار معايشته الحياتية، نجد أنه شاب من تلك الفئة التي سحقها واقع غزة المؤلم، وصفعتها تجارب غزة غير الطبيعية مرارًا، ما نتج عنه حالة من حالات الهذيان. إنها بلا شك صورة جلّية عمّا يمكن أن ينتج عنه استمرار واقع العبث الموجود والمتصاعد في القطاع الذي يعاني وما زال أشد انواع الظلم والبؤس وانسداد الافق، كان عادل مشوخي إفرازًا طبيعيًا لواقع دفعه بكل قوة إلى الهذيان والعبث، وتصديق هذا الهذيان إلى الدرجة التي لا يمكن له الانفصال عنه. ما أريد قوله أن نموذجًا كهذا لا يختلف كثيرًا عن كرم أبو زنادة من حيث النتيجة، فالنتيجة واحدة لكن المسببات الموضوعية تبدو مغايرة، فحين ننظر إلى المسار الذي سارت تجربة كرم أبو زنادة فيه، نرى أن ظروفًا معيشيةً أكثر ملاءمة مكنته من خلق مناخ أكثر حيوية لإسباغ الرغبة النفسية الجامحة في الظهور والاستعراض.

فنرى أن كرم أبو زنادة يستطيع إنتاج أفلام تتناول محتوى ضعيفًا وفقيرًا بأداء سيئ لنفسه، ويستطيع أيضًا الترويج لهذه الأفلام السيئة بنفسه، والإعلان عنها ودعوة الناس لها، كما أن لديه القدرة على وضع نفسه في إطار يجعله أكثر أهمية. ففي النظر إلى البعد السيكولوجي نجد أننا أمام حالة من حالات البارانويا أو جنون الظهور.

في سبيل ذلك يبذل كرم أبو زنادة كل ما يمكن بذله من مال لإشباع هذه الرغبة المتنامية، ويستطيع أيضًا إيجار قاعة  "المركز الفرنسي" ودعوة شخصيات لطالما قدّمت نفسها على أنّها علامات فارقة في المشهد الثقافي. الحقيقة أني لم أعد قادرًا على التفاعل مع حالة الامتعاض من شكل الفساد المستمر لدى ما يسمى المشهد الثقافي في غزة، لأنني أعتقد أنه يجب علينا التفكير ألف مرة إذا ما كان هناك مشهد ثقافي أصلًا. فمنذ أكثر من ستة أعوام كنت فيها جزءًا في الكثير من التجارب التي أرست لدي قناعة مبرهنة أن ثمة ترهلًا مثيرًا للاشمئزاز لدى رقعة ممتدة من جيل سابق مدعٍ للثقافة، إلا أن ما يمارسه فعلًا هو الاتجار بها واستخدامها لإشباع مناح اجتماعية ونفسية.

   توفقوا عن تصنيع التفاهة وجعلها منتجا استهلاكيًا لإشباع رغبة الفضول وإثارة أجواء السخرية   

اقرأ/ي أيضًا: صنّاع النكبة الفلسطينيون

الحقيقة هي أن الموجود في غزة ليس مشهدًا ثقافيًا، إنها مجموعة من الحالات الفردية الجيدة المستقلة لا أكثر ولا أقل. ما أريد قوله هو أن الأجدر بنا بدلًا من محاولات تصنيع التفاهة والإشراف عليها ومساندتها، الأجدر بنا التعامل مع هذه الحالات وفقًا لما تقتضيه الضرورات المرضية، كونها حالات بحاجة إلى العرض على مختص في الصحة النفسية، ما أريد قوله إنه يجب أن نتوقف عن صناعة التفاهة والاحتفاء بها، سواء كان ذلك بشكلٍ مقصود أو غير مقصود، وسواء كان ذلك بواسطة مثقفين مدعين أو جمهور يهلل ويصفق لكل ما هو تافه.

توفقوا عن تصنيع التفاهة وجعلها منتجا استهلاكيًا لإشباع رغبة الفضول وإثارة أجواء السخرية.


اقرأ/ي أيضًا:

الخطف.. آخر أساليب التجّار لاسترداد ديونهم!

أزمة الأونروا على طاولة 90 دولة في روما

في "واد عقربا".. الثورة تصطاد كبار جيش الاحتلال