01-مايو-2019

صبيحة الأول من أيار/مايو 1921، دخل اليهود الشيوعيون الذين هاجروا حديثًا إلى فلسطين حي المنشية متظاهرين ورافعين أعلامهم، فتصدّى لهم أبناء الحي ووقعت اشتباكتٌ كانت الشرارة التي فجّرت غضب الفلسطينيين المتراكم منذ سنواتٍ بسبب الهجرات اليهودية والدعم البريطاني المفتوح لليهود، لتكون أول ثورة مسلحة للشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال.

لم تحدث هذه الثورة فجأة ولم تكن حدثًا غير متوقع، فقد تنبه الفلسطينيون لخطر الحركة الصهيوينة مُبكرًا، وأدركوا تواطؤ الاحتلال البريطاني مع المشروع الصهيوني لتثبيت أقدامهم والتمكين لهم في البلاد. ولذا ظهرت هبّاتٌ وثوراتٌ شعبيةٌ تُطالب بصون الحقوق العربية ورد الأطماع الصهيونية، ومن تلك الهبّات: ثورة القدس 1920، وثورة يافا 1921، وثورة البراق 1929، وانتفاضة الـ1933، والثورة الفلسطينية الكبرى 1936- 1939.

كانت ثورة يافا 1921 أول ثورة مسلحة للفلسطينيين وقد جاءت نتيجة الدعم البريطاني المفتوح لليهود المهاجرين

قامت ثورة يافا في العام 1921 كنتيجة لتواصل الهجرات الصهيونية لفلسطين وإغراق يافا بالمُهاجرين اليهود، ومحاولاتهم الدائمة لرفع أعلامهم وفرض وجودهم بالقوة، الأمر الذي تنبهت له "الجمعية الإسلامية المسيحية" في يافا التي تزعمت النضال الوطني في المدينة خلال تلك الفترة، فقدمت العرائض والاحتجاجت المكتوبة رفضًا لهذه الهجرة، مُطالبة بالحد من التغول الصهيوني في المدينة، إلا أن السلطات البريطانية أقفلت آذانها ولم تُصغِ للمطالب العربية.

اقرأ/ي أيضًا: موسم النبي موسى.. سيرة أمة مقاتلة

في وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية التي أوردها المؤرخ أكرم زعيتر، يتبين أن الجماهير العربية تداعت للميادين وبدأت بمُظاهراتٍ واحتجاجاتٍ سِليمة، كان منها إضراب ومسيرة يافا بتاريخ 27 شباط/فبراير 1920 الذي عنونت له الصحف قائلة: "يوم الجمعة 27 شباط قامت جمعية بلدة يافا المسلمة والمسيحية وملحقاتها بمظاهرة سلمية فأقفلت جميع الدكاكين والمخازن، وتعطلت الاشغال برًا وبحرًا على فكرة جعل فلسطين وطنًا قوميًا للصهيونيين والسماح لهم بالهجرة".

ثم تتباعت المسيرات والاحتجاجات، فاستخدمت حكومة الاحتلال القوة في قمع المتظاهرين وملاحقتهم والتعدي عليهم، وقد أورد المؤرخ الفلسطيني أكرم زعيتر عددًا من البلاغات والأخبار عن تلك الاعتداءات التي طالت أهالي يافا من البوليس واليهود والجند البريطانيين.

تواصلت هجرة اليهود إلى يافا، وقدّمتهم حكومة الاحتلال في كل الأشغال والوظائف الحكومية، وأجبرت العرب على تشغيلهم في الميناء والصيد والمحاجر، ودعمتهم في السيطرة على الأراضي العربية جنوب يافا، وتوسَّع الاستيطان على حساب الأراضي العربية، فتبيّنت المخططات الصهيونية الساعية لتحويل فلسطين إلى وطنٍ قوميٍ لليهود، وهكذا بدأت الأوضاع بالتأزم وصارت يافا على وشك الانفجار.

يؤكد المؤرخ عيسى السفري، أن شرارة الثورة صبيحة الأول من أيار/مايو 1921، بعد انتهاء اليهود الشيوعيين من احتفالهم بعيد العُمال الذي لم يكن مَعروفًا في البلاد، ويقتصرُ الاحتفال به على اليهود الوافدين لفلسطين، ثم خُروجهم في مُظاهرة إلى الشوارع، فوقع خلافٌ بينهم وبين الحزب اليهودي الاشتراكي المتطرف "الموبس"، تدخلت على إثره الشرطة وفرقتهم، فاجتمعوا جهة الشاطئ وهناك رفعوا أعلامهم وتحركوا في مظاهرة نحو حي المنشية، وأثناء دُخولهم للحي بشكل استفزازي تَعرضوا لبعض السكان العرب واعتدوا عليهم، ما أحدث ضَجَّة في يافا انفجرت على إثرها الأحداث.

اعتبر العرب أن هذه المظاهرة كانت مُوجهة ضدهم، وأن الاعتداء كان مُدبرًا ومُرتبًا له، الأمر الذي دفع الشباب للتصدي للصهاينة ورد اعتدائهم ومهاجمة منزل الوكالة اليهودية، فدار قتالٌ في الشوارع أقفلت على أثره المدينة وعمّت بها الفوضى لعدة أيام.

اليوم الأول من ثورة يافا 1921 أسفر عن 10 شهداء مقابل مقتل 30 يهوديًا، قبل أن يرتكب اليهود مذبحة أودت بحياة 50 فلسطينيًا

وبحسب البلاغ الرسمي الصادر عن حكومة الاحتلال البريطاني، والذي أورده المؤرخ زعيتر، فإن الجيش تدخل بعد استدعاء نجداتٍ من اللد ثُمّ القدس لأجل فرض الأمن، ثم استُعينَ بالوُجهاء وأعيان المدينة لأجل تهدئة الأوضاع. وأفاد الجيش بأن اليوم الأول انتهى بمقتل أربعين شخصًا منهم 30 من اليهود و10 من العرب، بينما أُصيب 142 يهوديًا و42 فلسطينيًا تلقوا العلاج في المستشفيات.

اقرأ/ي أيضًا: اغتيال عند باب الأسباط

ويورد زعيتر، أن الأيام الثلاثة الأولى من الأحداث بدأ فيها الجيش يفرض سيطرته على المدينة ونواحيها، إلا أن اعتداء اليهود على العُمال العرب في منطقة ملبس -المعروفة حاليًا باسم بتاح تكفا- وتناقل الأخبار عن قتل 50 فلسطينيًا بعضُهم قُتل بطريقة بشعة، جَدّد الأحداث وأخرج الفلسطينيين عن طورهم، ونقل الثورة لطورٍ مُسلحٍ من غير إعدادٍ مُسبق.

وجاء في نص الكتاب المُوجّه من الجمعية الإسلامية المسيحية في يافا للحاكم العسكري وصفٌ لتلك الأحداث المريرة: "قد أثرت الأخبار بأن الخمسين قتيلاً من المسلمين الذين قتلوا في داخل قرية ملبس وجوارها يوجد بينهم من قُتلَ حَرقًا بنيران الفضة وبالقنابل اليدوية وبالآلات القاطعة، وكثيرٌ منهم مُشوهٌ وَمُعذب، وأن بينهم أطفالاً وبناتًا ونساءً هُتكت أعراضُهن وبُقرت بُطونهن وجُرّدن من ملابسهن وَطُرحنَ بين اليهود عاريات الملابس".

يقول عبد الوهاب الكيالي: "أمام تناقل هذه الأخبار ثارت ثائرة العرب، وبدأ جوارُ يافا يَغلي، فتسارعَ الفلاحون والبدو إلى دائرة الأحداث للانتقام من المستعمرات اليهودية، فالأمر لم يقف على الاستيطان وسرقة الأرض بل تعدى ذلك للقتل والاغتصاب وتشويه جُثث القتلى".

ويبين في كتابه تاريخ فلسطين الحديث، أنه في الخامس من أيار تجمع نحو 3 آلاف شخصٍ عربيٍ إلى الشمال من ملبس التي تبعد عن يافا نحو 10 أميال، وتجمع حشدٌ آخر جنوب المستعمرة يتألف من عدة مئات من الرجال، وذلك على إثر اجتماع الشيخ شاكر أبو كشك بالقرب من نهر العوجا.

ويشرح المؤرخان نمر سرحان ومصطفى كبها، أن الجموع العربية من عربان أبو كشك وبلدات عزون وقلقيلية وسلمة وكفر ثلث ومسكة والطيرة والطيبة وقرى عربية أخرى وبدو الرمال (الساحل) والمحيطين بيافا عمومًا، وقد خرجوا وبيدهم ما تيسر من سلاح ناري أو عصي وشواعيب وأدوات زراعية، وكانت الجموع تتلقى أوامرها في هذه الهبّة من الشيخ شاكر أبو كشك، ونجيب عبد المنان من الطيرة، وعثمان شبيطة من عزون.

تقدمت الجموع نحو ملبس ودارت مواجهاتٌ عنيفةٌ بين الطرفين، فعمّت فوضى داخل المُستعمرة، وكان العرب يُصرّون على اقتلاع اليهود واسترداد أراضيهم المسلوبة والثأر للشهداء العرب، وكانوا يهتفون:

هلا ويا ميت هلا .. الموت ما برحم حدا

هلا ويا ميت هلا .. وذبح اليهود محلّــلا

والفرسان ما يسوسها .. إلا فارس معددا

والخيل ما كان يقودها .. إلا قمح مغربلا

يؤكد المؤرخ الكيالي، أن الجيش البريطاني تدخل في المعركة لصالح اليهود منفذًا عملية ضارية في مُلاحقة الثائرين العرب، فوقعت معارك في ملبس وأخرى على ضفاف نهر العوجا، وبدأ الجيش يُلاحق العرب مُطلِقًا النار بلا هَوادة تجاههم، فقتل أكثر من 60 شخصًا، وقيل إن جُثثهم بقيت مُلقاة على الأرض لخمسة أيام قبل أن تُدفن في قبرٍ جماعيٍ بالقُرب من سكة الحديد.

تدخل الجيش البريطاني في ثورة يافا 1921 لصالح اليهود ولاحق الثوار الفلسطينيين

ويروي المؤرخ السفري، أن القوات البريطانية لاحقت الثائرين حتى مضارب عرب أبو كشك، فأمهلتهم ساعتين لتسليم أنفسهم مع سلاحهم، ولما امتنعوا عن ذلك اعتقلت الشيخ شاكر أبو كشك، ونسفت بيته بما فيه من مُقتنيات، وفرضت غرامة مالية قدرها 6000 جنيه على كل من: قلقيلية وطولكرم وقاقون ووادي الحوارث وكفر سابا وعرب أبو كشك.

ويضيف، أن سلطات الاحتلال البريطاني حاكمت قائد الهبّة الشيخ أبو كشك في محكمة عسكرية بالقدس، ثم قضت بسجنة 15 سنة مع الأشغال الشاقة لقيادته الهجوم على ملبس، ثم خُفّض الحكم إلى 10 سنوات، أمضى منها سنتين قبل أن يُفرج عنه بعد تدخل الوُجهاء ومشايخ عربان بئر السبع.

على إثر ذلك شُكلت لجنة للتحقيق في الأحداث برئاسة القاضي توماس هيكرافت الذي أنصف الفلسطينيين في تقريره، وَحَمَّل الصهيونية وحكومة الاحتلال المسؤولية عن هذه الأحداث، وهو ما وثقه المؤرخ بيان نويهض في كتابه القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين.

  انتهت ثورة يافا بعد أن استمرت 16 يومًا دون تحقيق أهدافها، غير أنها كانت انتفاضة في السياق الطبيعي لشعبٍ يرفض الاحتلال ويقاوم لمنع سيطرة الحركة الصهوينة على أرضه ووطنه. وكان يُمكن لهذه الهبّة الشعبية العَفوية أن تُغير واقع الاستيطان في منطقة يافا، لولا تواطؤ الاحتلال البريطاني ولجوئه للقوة المُفرطة في قمع العرب انحيازًا للصهيونية.


اقرأ/ي أيضًا:

استعادة من الأرشيف: فعل الجيش البريطاني السافل في حلحول

التشويه الاستعماري للبنيات الفلسطينية قبل النكبة

صور | 70 عامًا على هزيمة الهاغاناه في شعفاط