جدران غزة.. ذاكرة الدمار والصمود
11 فبراير 2025
لطالما كانت الجداريات في فلسطين شاهدًا حيًّا على الثورة، تُخلّد نضال الشعب ضد الاحتلال، وتحوّل الجدران إلى لوحات ناطقة تروي ملاحم الصمود. أما في حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فاكتسبت الجداريات بُعدًا جديدًا أكثر إيلامًا، حيث لم تعد تقتصر على توثيق الثورة، بل أصبحت شاهدة على واحدة من أكثر المآسي دموية في التاريخ الفلسطيني.
في حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، اكتسبت الجداريات بُعدًا جديدًا أكثر إيلامًا، حيث لم تعد تقتصر على توثيق الثورة، بل أصبحت شاهدة على واحدة من أكثر المآسي دموية في التاريخ الفلسطيني
تحولت الرسومات على الجدران إلى مرآة للواقع، تحمل رسائل الشهداء الذين سقطوا تحت الركام، وأسماء العائلات التي أبيدت بالكامل، وكأنها تُخلّد ذكراهم في قلب المدينة التي تأبى أن تنسى. تلك الجدران، الملطخة بالغبار والدماء، باتت تنزف حزنًا، تحكي عن بيوتٍ سُوّيت بالأرض وشوارع أصبحت غريبة عن ماضيها. لكنها أيضًا، رغم الحزن، تصرخ برسائل تحدٍّ وصمود، ترفع راية الأمل أمام كل من يمر بها.

جدارية الصبر
على أطراف مخيم النزوح، تقف خيمة براء صبري، الشاب العشريني الذي فقد منزله في الحرب الأخيرة. لم تكن مجرد قطعة قماش تحتمي بها أسرته من البرد والريح، بل تحولت إلى مساحة يخطُّ عليها كلماته، وكأنها جدارٌ بديل لمنزله الذي تلاشى تحت الركام.
على القماش المهترئ كتب "سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري" سألته: لماذا اخترت أن تكتب هذه الكلمات على جدران خيمتك؟، فنظر إليّ بابتسامة تحمل وجعًا دفينًا وقال: "لأنني لم أعد أملك جدرانًا، هذه الخيمة هي بيتي، وهي جدار صبري الوحيد. كنت أريد أن أذكر نفسي وأطفالي أن الصبر هو السلاح الأخير الذي لم يستطع الاحتلال انتزاعه منا. كلما نظرنا إلى هذه الكلمات، نشعر أننا أقوى من الدمار، وأننا لن نُهزم ما دام فينا أمل".

رسائل الحياة
يجلس الشاب محمد النجار، وقد تعلقت عيناه بحائطٍ خُطّت عليه عبارة: "خيرُ الله قادم، فلا يحزنك مرُّ الحياة". يتأملها بصمت، كأنها تحمل له رسالة خفية، قبل أن أقطع شروده بسؤال: بماذا تفكر وأنت تقرأ هذه الكلمات؟ فأجاب: "في رسائل تبعثها لنا الحياة، كأنها لمسة طمأنينة من الله تُربّت على قلوبنا التي أنهكها الحزن، كلما قرأتُ هذه الجملة، أقول لنفسي: هذه الدنيا زائلة، وما نحن فيها إلا عابرو سبيل. المهم أن نصبر حتى النهاية، والله وحده قادر أن يمنحنا القوة لنمضي رغم هذا الألم الذي استوطن حياتنا".

وبينما يتنقل الشاب محمد السقا بين أنقاض بيته المُدمَّر في حي الرمال وسط غزة، يمر بجدار لا يزال صامدًا وسط الدمار، كُتب عليه بخط عريض: “هنعمرها”. يقف للحظات، يتأمل الكلمة، ثم يمرر يده فوق الحروف كأنه يتحسس وعدًا بالحياة وسط كل هذا الموت.

وعن شعور محمد حين قرأ "العبارة" يقول: "كأنها كُتبت لي شخصيًا، كأنها تقول لي: محمد، لا تستسلم!، كنت في تلك اللحظة أنظر إلى بيتي الذي تحول إلى كومة حجارة، إلى الشارع الذي كان يعج بالحياة وأصبح اليوم صامتًا، ورغم ذلك، فقد أيقظت هذه الكلمة في داخلي شيئًا يشبه الأمل".
وعن إيمانه بعبارة "هنعمرها" يضيف: "الإيمان ليس خيارًا، بل ضرورة، إذا توقفنا عن الحلم، سنصبح نحن أيضًا جزءًا من هذا الدمار، ربما لن يكون الإعمار غدًا، وربما لن يكون سريعًا، لكنه سيحدث. ففي كل مرة تهدمت فيها غزة، عادت أقوى، وهذا ما سنفعله الآن".
شاهدٌ أخير
على بقية جدارٍ وحيد صمد وسط الركام، خطّ أحدهم: "هنا تحت الأنقاض يرقد الشهداء أحمد الصفدي وعائلته، أمه وأولاده وزوجته". لم يبقَ من العائلة أحد، مُسحت بأكملها، ولم يبقَ سوى هذا الجدار شاهدًا على رحيلهم.

يقول محمد الصفدي، صديق العائلة وقريبها: "هذه ليست مجرد كلمات.. هذه شهادة بأنهم كانوا هنا، بأن لهم أسماء ووجوهًا وذكريات، بيت كان يضج بالحياة، وأطفال لم تُكتب لهم أعمار طويلة، قرر الاحتلال أن يمحوهم بضغطة زر".
يتابع بصوت متهدج يثقلُه الحزن: "لم يستطع أحدٌ أن يُخرجهم من تحت الركام، فكتبوا أسماءهم كي لا يُنسَوا، ولكي لا يظنَّ أحدٌ أنهم لم يكونوا هنا يومًا. هذا الجدار هو شاهدهم الأخير، وهذه الأحرف قبورهم حين لم يتبقَ لهم قبر".
يضيف: "ربما لن يعودوا، لكنهم باقون في ملامحنا، في أصوات أطفالنا التي تردد أسماءهم، في هذه الحروف التي ستظل ما دام هذا الجدار واقفًا".
حضنٌ آمن
"سلام عليكم بما صبرتم". "ادخلوها بسلامٍ آمنين". "غزة ترحب بكم". هذه المقولات ستجدها أيضًا مكتوبة على في شمال قطاع غزة، يستقبل بها أهل الشمال الذين ظلوا فيه حتى اللحظة الأخيرة أحبابهم العائدين من النزوح في جنوب القطاع بعد أكثر من عام من التهجير القسري والمعاناة والحرمان. كانت الكلمات بمثابة عناق صامت، يواسي الأجساد التي أنهكها الفقد، ويعيد الدفء إلى الأرواح التي اعتادت الترحال القسري.

وسط الحشود التي تدفقت إلى شوارع غزة، كان الخمسيني أحمد الدلو يحمل حقيبة صغيرة بين يديه، لكنها لم تكن تحمل سوى بقايا رحلة النزوح الطويلة. وقف يتأمل إحدى الجداريات التي كُتبت عليها عبارة "ادخلوها بسلام آمنين"، وعيناه تغرورقان بالدموع.
يقول بصوت مرتجف: “كأنها تخاطبني أنا.. كأن غزة تفتح لي ذراعيها من جديد. عام كامل وأنا أحلم بهذه اللحظة، أعود إلى بيتي، إلى شارعي، إلى ذكرياتي التي بقيت هنا عندما أُجبرت على الرحيل.هذه العبارات ليست مجرد حروفٍ على الجدران، بل هي صوتُ من بقوا، يخبرنا أننا لم نكن وحدنا، وأن غزة رغم الألم، ما زالت تحتضن أبناءها".
بجانب أحمد، كانت "أم محمد" عاشور، سيدة أربعينية، تضع يدها على جدار كتب عليه "غزة ترحب بكم" وكأنها تود لو تعانقه، وقالت بحسرة: "لو كان ابني معي الآن.. لكنه لم يعد. خرجنا معًا، وعُدت وحدي". ثم ابتسمت رغم دموعها: "لكنني عدت.. وهذا بحد ذاته نعمة".
هكذا تظل الجدران في غزة أكثر من مجرد حجارة، تظل ذاكرةً لا تنطفئ، تسجل التاريخ بدماء أهلها، وتحمل وجعهم وأملهم، حتى وإن هُدّمت.. فهي، مثل أهلها، تنهض دائمًا من جديد.

الكلمات المفتاحية

قصف عنيف من الجو وتوغل على الأرض: عشرات الشهداء في غزة
شهد قطاع غزة ارتقاء عشرات الشهداء أكثر من 60 شهيدًا، في غارات عنيفة على الشمال والوسط والجنوب، يوم الأربعاء

جيش الاحتلال يتوغل باتجاه محور نتساريم وسط تهديد للمدنيين بتدمير غير مسبوق
قال متحدثٌ باسم جيش الاحتلال، إن الجيش نفذ عملية برية محدودة في وسط قطاع غزة وجنوبه ووسع انتشاره حتى وسط ممر نتساريم

6 من موظفي الأمم المتحدة بين قتيل وجريح إثر قصف إسرائيلي على دير البلح
تسبَّب قصفٌ إسرائيليٌ على دير البلح وسط قطاع غزة بسقوط 6 موظفين بين قتيل وجريح، يوم الأربعاء

قصف عنيف من الجو وتوغل على الأرض: عشرات الشهداء في غزة
شهد قطاع غزة ارتقاء عشرات الشهداء أكثر من 60 شهيدًا، في غارات عنيفة على الشمال والوسط والجنوب، يوم الأربعاء

جيش الاحتلال يتوغل باتجاه محور نتساريم وسط تهديد للمدنيين بتدمير غير مسبوق
قال متحدثٌ باسم جيش الاحتلال، إن الجيش نفذ عملية برية محدودة في وسط قطاع غزة وجنوبه ووسع انتشاره حتى وسط ممر نتساريم

نقابة المهندسين تصعد ضد الحكومة وتطالب بتعديل الموازنة العامة
طالبت نقابة المهندسين، مجلس الوزراء الفلسطيني بتعديل قانون الموازنة العامة بما يضمن إضافة بنود تتعلق بتطبيق التفاهمات بين النقابة والحكومة.

6 من موظفي الأمم المتحدة بين قتيل وجريح إثر قصف إسرائيلي على دير البلح
تسبَّب قصفٌ إسرائيليٌ على دير البلح وسط قطاع غزة بسقوط 6 موظفين بين قتيل وجريح، يوم الأربعاء