23-يناير-2025
محور نتساريم.jpg

(Getty)

الحاجّة الستينيّة أم محمد فرج الله تجلس على باب خيمتها المهترئة في مواصي مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، وقد كبرت في العمر عشرات السنوات؛ بفعل ما عاشته هي وغيرها من سكان قطاع غزة من أهوال الحرب، وكلها شوق وحنين إلى أبنائها وبيتها وشوارع مخيم الشاطئ الضيقة التي كانت تقطن فيه.

نزحت أم محمد إلى جنوب القطاع في بداية الحرب على قطاع غزة بعد خروجها من مخيم الشاطئ هي وبناتها وأحفادها، في الوقت الذي بقي أبناؤها الأربعة في شمال قطاع غزة، ومنذ لحظة وصولها إلى الجنوب، وهي تعيش حالة نفسية صعبة؛ بسبب بُعدها عن أبنائها وتجرّعها ظروف الحياة القاسية التي تعيشها في الخيام.

مع انتظار تفكيكه.. ماذا كان يعني إغلاق محور نتساريم على أهالي قطاع غزة؟

كادت الحاجّة أم محمد أن تفقد حياتها لحظة سماعها نبأ استشهاد أحد أبنائها وإصابة الآخر في استهداف مباشَر لمنزلهم في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، في وقت نجا فيه الآخرون، حيث نُقِلَت للمستشفى بعد إصابتها بذبحة صدرية حادّة، ولكنها تعافت منها بعد عدة أيام من مكوثها داخل غرفة العناية المكثفة داخل المشفى.

اشتياقٌ مُؤجَّل

ولم تُودّع أم محمد ابنها فحسْب، بل ودّعت بيتها أيضًا الذي قصفه الجيش الإسرائيلي، وهو الذي لم يمضِ عامٌ واحدٌ على تشيّيده، ثم جاءها خبر قصف منزل أهلها، فأُضيف إلى قائمة اشتياقها ضيفٌ معنويٌّ جديد.

وتقول: "أشتاق إلى أبنائي كثيرًا، عام كامل لم أتمكن من رؤيتهم أو عِناقهم، والاحتلال الإسرائيليّ فرّق بيننا وشتّت جمعنا، ولم أتمكن من العودة إليهم ورؤيتهم، وهم الآن موزّعون كل منهم في مكان بمدينة غزة وشمال القطاع".

وتشير إلى معاناة العائلة، خلال أقلّ من شهرين، نزحت ثلاث مرّات: في المرّة الأولى إلى مخيم المغازي، والمرّة الثانية إلى مدينة رفح، ثمّ إلى منطقة المواصي غربيّ مدينة خانيونس الجنوبية، فضلًا عن عدم توفّر الأغطية والملابس الشتوية في حينها، واضطرارها إلى استخدام أغطية بالية من أجل التدفئة من البرد القارص.

وتخشى أم محمد أن تفارق الحياة قبل أن تُطفِئَ الشوقَ بداخلها، وأن تحتضن ما تبقّى من أبنائها في شمال قطاع غزة، فهي متشوِّقة لسماع أيِّ خبر يعلن انتهاء الحرب؛ لتعود إلى شمال القطاع، وإلى بيتها المدمّر في مخيم الشاطئ.

في 13 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2023، أجبر الاحتلال الإسرائيلي سكّان غزة والشمال، بالنزوح نحو الجنوب، ونزح أكثر من مليون نسمة وفقًا لما أوردته الأمم المتحدة، فيما رفض عملية الإخلاء نحو 700 ألف آخرين، بحسب جهاز الإحصاء الفلسطيني.

عائلات فلسطينية كاملة قطَّعَ الاحتلال أوصالَها بسبب الحرب، الأب والأم في مكان، والأبناء في مكانٍ آخر، الزوجة والأبناء في مكان والأب في مكانٍ آخر، تعدّدت القصص والألم واحد، وما زالت معاناة الفراق مستمرة حتى هذا اليوم.

القرارُ الصعب

ولم تغِب مشاهد يوم السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي عن مُخيّلة ملك رجب (23 عامًا) للحظة واحدة، بعد قرارها النزوح جنوبًا واللحاق بشقيقها وشقيقتها وترْك والداتها ووالدها وأختها وأطفالها في شمال قطاع غزة، بعدما بدأ الاحتلال عملية موسّعة في شمال قطاع غزة، وتحديدًا مخيم جباليا وإجباره السكان على النزوح جنوبًا، لتكون بجوار شقيقتها طالبة التوجيهي التي نزحت في بداية الحرب مع شقيقها إلى مدينة خانيونس.

قرار ملك النزوح جنوبًا جعلها تعيش بين نارَيْن، فهي لا تريد أن تترك شقيقتها الصغيرة التي في أمسِّ الحاجة إليها؛ لتكون بجوارها لمساعدتها على دروسها أو حتى في ظروف الحياة اليومية القاسية، ومن ناحيةٍ أخرى لا تريد ترْك والداتها ووالدها المريض في شمال القطاع غزة وحدهما يصارعان الخوف والرعب الذي يعيشه سكان شمال القطاع وحدهم.

وبعد يومٍ طويل مع المعاناة والسَيْر على الأقدام وحالة من الخوف الشديد الذي تعرّضت له جرّاء إطلاق النار والحجز لأكثر من ثلاث ساعات على الحاجز، سُمِح لها بالدخول لجنوب القطاع، ومنذ ذلك اليوم ما تزال تعيش صدمة نفسية نتيجة ما تعرّضت له؛ جرّاء تعمُّد جنود الاحتلال إرعابهم على الحاجز.

وعند وصولها إلى مدينة خانيونس والالتقاء بشقيقتها وشقيقها، شعرت ملك بحالة خوف واشتياق كبيرَيْن لنصف العائلة الأخرى الذي بقِيَ في شمال القطاع في ظل اشتداد القصف وتعمُّق التوغل حينئذ.

لم تنسَ ملك يومَ عدم قدرتها على الوصول إلى والديها ووالداتها بعد انقطاع الاتصال بهما لأكثر من 24 ساعة، في ظلّ اضّطرارهما إلى النزوح من مكان لآخر، حيث لم تترك هاتفها الذكي لو للحظة واحدة، وهي تكرر الاتصال بهما في كل دقيقة، فكان ثِقل ذلك اليوم كالجبال عليها، لتحميلها نفسها مسؤولية حدوث أيّ مكروه لهما في تلك الظروف الصعبة.

وتقول ملك: "كنتُ لن أسامح نفسي لو حصل لوالديّ أيّ ضرر أو مكروه، ولكن الحمد لله كانا بخير، واستطعت الاطمئنان عليهما بعد طَرقي الأبواب كلها للسؤال عنهما".

وأضافت: "حاجز نتساريم على طريق صلاح الدين فقط ما يفصلني عن الوصول لعائلتي في شمال القطاع، أصبحنا مشتّتين جزءٌ منّا في الجنوب والآخر في الشمال، ولا نستطيع الوصول لبعضنا البعض ولا الاطمئنان على أحوالنا، صحيح أننا نتواصل عن طريق الهاتف والإنترنت، لكن هذا الأمر لا يشفي القلب".

وتتمسّك ملك برفقة شقيقتها وشقيقها بخيطِ أملٍ يعجّل لقاءً قريبًا يجمعهم بوالدَيهم وبقية العائلة من أجل محو ألم البُعد والفراق الذي يسيطر على حياتهم طوال الأشهر الماضية، مع التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.

ملك واحدة من قرابة 2 مليون غزيّ يعيشون في خيام ومراكز إيواء مختلفة، فرّقهم جيش الاحتلال الإسرائيلي بإقامته حاجز نتساريم، لم يكتفِ بعمليات القتل الممنهجة والدمار الواسع بحقهم، بل جعل الأحياء منهم يتمنّون لحظة لقاءٍ بعوائلهم، فأصبح أسمى أمنياتهم العودة إلى الأهل والبيت.

مرارة الفراق والبُعد

الشاب خليل أبو حجر (26 عامًا) هو الآخر ذاق مرارة الفراق والبُعد عن الأهل، بعد أن سبق عائلته للنزوح إلى مدينة خانيونس في الأسبوع الثاني من الحرب؛ من أجل استئجار مكان لهم للإقامة في مدينة خانيونس بعد أوامر الإخلاء الإسرائيلية لسكان شمال قطاع غزة.

وفي اليوم التالي، تلقّت العائلة اتصالاً هاتفياً من خليل يخبرهم بأنه جهّز لهم مكاناً للإقامة لتبدأ العائلة بحزم أمتعتها وأخذ متعلقاتها الضرورية واصطحاب سيارة والتوجّه جنوباً، وعند وصولهم إلى دوار الكويت على شارع صلاح الدين قصف الاحتلال السيارة التي كانت أمامهم مباشرة وعربات أخرى؛ ممّا أدّى إلى ارتقاء عشرات الشهداء لتقرر العائلة العودة من حيث أتت إلى مخيم جباليا.

وحاول خليل إقناعهم بالقدوم من جديد، لكن قُوبل ذلك بالرفض الشديد من العائلة، ومنذ ذلك اليوم يعيش خليل بعيدًا عن والدته ووالده وأشقائه الأربعة يصارع حياة النزوح وألم الفراق وحيدًا متنقلًا من مكان إلى آخر، ومن خيمة إلى أخرى.

ويصف خليل حياته بعيدًا عن دفء العائلة بأنها جحيم لا يُطاق؛ نتيجة القلق اليومي عليهم، خصوصًا في أثناء قطع الاتصالات والإنترنت في بداية الحرب، حيث تضاعف ذلك الشعور خلال توغل الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جباليا بداية شهر أكتوبر الماضي، وتضرُّر منزلهم جرّاء سقوط القذائف المدفعية التي أدّت إلى إصابة عمه وابنه بجراج بالغة؛ لتقرر العائلة النزوح مجددًا إلى مدينة غزة.

ممّا يزيد مرارة البُعد والفراق على خليل، أنه وجد في نزوحه شريكة حياته، وأراد أن يعقد قرانه عليها، ولكن وجود عائلته في شمال قطاع غزة منعه من إتمامه فرحته، واضّطره ذلك إلى تأجيل تلك الخطوة إلى حين اللقاء بأهله، مع إقرار اتفاق وقف إطلاق النار، وترقب العودة إلى الشمال.

بين شهيدٍ وجريحٍ وأسيرٍ ونازحٍ، يقف خليل أمام شريط ذكرياته يتذكر أيام الأسرة والأقارب والأصدقاء والأوقات الجميلة التي جمعتهم قبل أن تفرقهم الحرب، وتباعد بينهم المسافات، وتبقى القلوب معلّقة ببعضها بعضًا.

وقال: "إن الاشتياق إلى الأهل زاد إلى حد بعيد، وننتظر العودة إلى الشمال من أجل لقاء أهلي وأصدقائي في مدينة غزة؛ لأن الفراق صعب وقاس، والبُعد عن الأهل مُحزِن، ولكن هذه هي الحرب".

على أمل السماح له بالعودة إلى منزله شمال مدينة غزة، حاول خليل أكثر من مرة برفقة عدد من النازحين الوصول إلى مدينة غزة عبر الطريق الساحلي، رغم الأخطار الكبيرة التي قد يتعرضون لها في أثناء السَيْر لساعات طويلة في هذا الطريق، لعلهم يستطيعون الوصول إلى مبتغاهم، ولكن في نهاية الأمر يواجَهون بإطلاق نار كثيف يضّطرهم إلى عودة أدراجهم من حيث أتوا. وينتظرون الأيام المقبلة مع اقتراب التوصل إلى مرحلة عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة.

غيابٌ في حضرَة الاشتياق

أم ياسر عودة اضّطُرَت في بداية الحرب على قطاع غزة إلى النزوح بأطفالها الأربعة من مدينة غزة إلى جنوب القطاع، وذلك عقب اقتحام الجيش الإسرائيلي لمدينة غزة وإجبار السكان على الخروج من منازلهم؛ ممّا أجبرها إلى الافتراق هي وأطفالها عن زوجها الذي بقي في شمال قطاع غزة برفقة والديه الكبيرين في السن لرعايتهما.

وتعيش أم ياسر أوضاعًا صعبة في إحدى المدارس التي تحوّلت إلى مركز إيواء برفقة أطفالها، حيث يبلغ أكبرهم 14 عامًا، فغياب زوجها أجبرها على تحمّل مسؤوليات الأم والأب في آنٍ واحد، بالإضافة إلى الظروف الصعبة التي تعيشها جراء حياة النزوح، في الوقت نفسه أكثر ما يؤلمها عدم قدرتها على الرد على أبنائها الذين دائمًا ما يسألون عن والدهم وموعد قدومه إليهم.

وتعتمد أم ياسر على المكالمات الهاتفية للتواصل مع زوجها، وفي حال انقطاع الاتصالات والإنترنت بين شمال القطاع وجنوبه تبقى لعدة أيام قلقة على زوجها.

وكانت أم ياسر، تخشى أن تسمع خبر استشهاد زوجها في أيّة لحظة، وتعرضت لهذا الموقف عندما أُصيب بجروح مختلفة بعد قصف الاحتلال مربعًا سكنيًا كان يقطن فيه بعد نزوحها بأسابيع قليلة إلى جنوب قطاع غزة.

وعبّرت عن ندمها الشديد لخروجها من منزلها في مدينة غزة، وتقول: "اكتشفت زيف ادّعاءات الاحتلال بأن المنطقة الجنوبية كانت من المناطق الآمنة، كل يوم هناك قصف وشهداء، ووجودي بجوار زوجي كان سيخفّف كثيرًا من وطأة الحرب علينا".

وتضيف: "غادرنا ولم نحملْ معنا أيَّ شيء، وكنّا نظن أنها أيامٌ معدودات، ثم سنعود إلى منزلنا، ولكن الأيام والليالي تمضي دون انتهاء الحرب اللعينة علينا".

كانت أي ياسر تحلم بانتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة وإعلان وقف لإطلاق النار؛ حتى يمكِّنها من العودة إلى منزلها وعائلتها في مدينة غزة في أقرب وقت ممكن، واللقاء بزوجها لجمع شمل عائلتها، وإصلاح ما تبقّى من حياتهم، والبحث عن لحظات سلام تضمِّد الجراح المفتوحة. وهو ما يرتقب يوم السبت المقبل.

ومع بداية وقف إطلاق النار، أفادت تقارير عدة في بداية تفكيك حاجز "نتساريم"، وهو ممرٌّ يفصل 14 كيلومترًا من مدينة غزة إلى شمال القطاع و27 كيلومترًا من وسطه وجنوبه، حيث يمتد على مسافة حوالي 7 كيلومترات، بدءًا من مستوطنة "بئيري" شرقًا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط غربًا، يقطع الممر شارع صلاح الدين الذي يُعدّ من أهم شوارع غزة.

و"نتساريم" تسمية أُطلِقَت على مستوطنة كانت مُقامَة هناك قبل عام 2005، إذ أُنشِئَت في العام 1972، واُنْسُحِب منها في العام 2005؛ لتتحوّل إلى منطقة زراعية بها بعض المنشآت، لكن غالبيتها أراضٍ، مع إطلاق تسمية بـ"مَفرَق الشهداء" على المكان، بسبب كثرة الشهداء خلال انتفاضة الأقصى الذي كان أبرزهم محمد الدرّة.

عاد الاحتلال إلى "نتساريم" منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأنشأ الممر الفاصل الذي فصل غزة وشمالها عن الجنوب، حيث جرف الجيش الإسرائيلي مساحات كبيرة محيطة بـ"نتساريم" ووضعَ قاعدة عسكرية للجنود تمنع الحركة بين الشمال والجنوب، ومن يفكّر بالعودة إلى الشمال واجتياز الحاجز تقتله قوات جيش الاحتلال المتمركزة على الفور، ويوجد عدد في عِداد المفقودين ممّن أرادوا التوجُّه للشمال عبر الحاجز. بينما يعمل الآن الاحتلال على تفكيك الحاجز، قبيل سريان موعد مرور أهالي شمال قطاع غزة، عبر الحاجز، يوم السبت المقبل.