11-فبراير-2018

بوابير الكاز القديمة

"حرفة في اليد أمان من الفقر"، لم يعُد هذا المثل الشعبي يعني شيئًا لآلاف الشبان اليوم في قطاع غزة، خصوصًا وأنّ معظمهم يعايش ظروفًا اقتصادية بالغة الصعوبة منذ أبصروا النور. زد على ذلك أنّه لا وقت أمامهم لإنعاش مهن آبائهم وأجدادهم التي كانت حتى وقتٍ قريب يمكن أن تنفق على أسرة ممتدة، أمّا اليوم فقد تكون تلك الحرف التقليدية مجرد مضيعة للوقت "ولا تُطعم خبزًا" أمام التحديات اليومية والأزمات المتلاحقة.

  هل سيكون صدى صوت البابور وإبريق الماء المُندّى وصياد السردين ومقاعد الخيزران ومنافض السجائر الخشبية أشياء من الماضي؟

ففي سوق "فراس" الشعبي وسط غزة القديمة، يزدحم المتسوقون أمام المحلات الصغيرة، لكن متجر محمد الطباطيبي الأشبه بالكوخ المهجور لم يجذب أيًا من هؤلاء منذ زمنٍ طويل على الأرجح، منذ عمله طوال ثلاثين سنة.

الطباطيبي (64 عامًا) الذي يقضي غالبيّة يومه أمام متجره المتخصص بتصليح مواقد الكيروسين (بوابير الكاز) لاحتساء الشاي والتحدّث مع جيرانه في المتاجر المجاورة.

مُعمّر مواقد الكيروسين محمد الطباطيبي
مُعمّر مواقد الكيروسين محمد الطباطيبي

عاجلنا نجله أحمد (19 عامًا) بالحديث مع "الترا فلسطين" وإطلاعنا على المواقد الصدئة الملطّخة بمواد التشحيم. "لا فائدة من هذه الحرفة إلا في حالتين فقط؛ أيام الحرب وانقطاع غاز الطهي كما كان يحدث سابقًا، حينها يمكن رؤية والدي غارق في عمله".

ويقول أحمد: "منذ أن التحقت بالجامعة لدراسة السكرتاريا الطبية تيقّنت أنّه لا مجال للعمل مع والدي، فكل ما أقدمه له مجرد فتح المحل صباحًا وإغلاقه مساءً، ولا مجال لأن أغوص في الزيت والتشحيم كون زبائنه انقرضوا، لذلك أنا لا ألمس شيئًا في هذه الورشة".

أما والده فبدأ يتمتم أهزوجته القديمة (شحبر يا بابور الكاز).. فيذكر تفاخر الأهالي قديمًا بطراز البابور الذي يملكونه، خصوصًا إذا كان من نوع "ريموس" الشهير. "صوته الهادر كان يُذكرنا بأيام ما قبل وصول التيار الكهربائي، حين كانت أفراد العائلة تجتمع حوله لنيل بعض الدفء في ليالي الشتاء". يقول مُعمّر البوابير.

لكن محمد الأخشم، الحاصل على إجازة في "العلاقات العامة" كان يُفاوض تجارًا لشراء شبكة صيد أسماكٍ جديدة على شاطئ غزة يقول إنه متعلقٌ بحرفة والده منذ كان في العاشرة.

الصياد محمد الأخشم
الصياد محمد الأخشم

"أعتقد أنّ الصيّاد في غزة مصنّف ضمن الطبقات الأفقر في غزة، لكنني لا أعرف إلّا البحر والسمك منذ أيام الهرب من المدرسة والقفز على قارب أبي وحقائب الكتب على أكتافنا، فقد فاتنا القطار ولا مجال إلّا أن نصارع البحر للبقاء". يقول محمد. إلاّ أن والده زهير (66 عامًا) متيقّن من أنّ أبناءه الأخرين سيتركونه "عند أول محطة" إذا سنحت الفرصة أمامهم لعملٍ آخر.

"أتقاسم 50 أو 60 شيقلًا مع أبنائي الأربعة" يقول الصياد الوالد. "كنّا 700 صياد قبل 20 عامًا، أما الآن فانظر كيف يمتلئ البحر بالقوارب، وفي النهاية بالكاد تستطيع ملء سلةٍ واحدة من السردين الصغير".

الصياد زهير الأخشم
الصياد زهير الأخشم

اقرأ/ي أيضًا: الصيادون في غزة.. عُزلة وحربٌ في الظلمات

إلى الشمال بضعة أمتار عن متجر المواقد، وخلف الأبنية القديمة يهولك عدد الأواني الفخارية المصفوفة على الأرض في متجر سعيد العسلي الذي بدأ العمل منذ العام 1950.

يقول العسلي (67 عامًا) إنه بالكاد يبيع "زبدية" أو إبريقًا في اليوم. "لم تعد هذه الحرفة التاريخية تجذب زبونًا أو عاملاً، فما بالك بأبنائي؟ هذه الحرف لم تعد تطعم خبزًا ولا تفتح بيتًا.

سعيد العسلي صانع الأواني الفخارية
سعيد العسلي صانع الأواني الفخارية

ويقول جاره صبري عطاالله (63 عامًا) ويملك معملًا للفخار من أصل خمسة معامل أخرى في غزة، إن هذه الحرف تحتاج لصبرٍ طويل، لذلك فالشبان يعزفون عنها، عدا أنها لا تُدرّ مالًا، لذلك فولداي اللذان أنهيا دراسة الجيولوجيا والاقتصاد حتمًا لن يعملا هنا.

حتى النجار وصانع الأنتيكة الخشبية هشام كحيل (58 عامًا) يعترف أنّ مهنته قد تندثر خلال سنوات معدودة، ويرى أنّ آلات النقش الإلكتروني على الأخشاب (CNC) قتلت أي أملٍ في ازدهار حرفته الوحيدة في غزة.

صانع الأنتيكة الخشبية هشام كحيل ونجله

ويقول نجله محمد (29 عامًا) الذي يحمل إجازةً في الخدمة الاجتماعية إنه غير مقتنع بهذا المتجر أساسًا. "انعدام الفرص أمامي تجبرني على قضاء وقتي للتسلية في هذه الورشة".

التقيتُ أخيرًا عمر المظلوم (74 عامًا) الذي يملك معملًا للصناعات الخيزرانية في شارع عمر المختار، وهو واحد من معملين مماثلين في القطاع.

عمر المظلوم صاحب معمل الخيزران
عمر المظلوم صاحب معمل الخيزران

المظلوم يقول إن هذه الحرفة بدأت منذ أيام النكبة، عندما تمكن شخصُ من عائلة "خلف" من نقلها من يافا إلى غزة، لكن ارتفاع أثمان الأثاث المصنّع من سيقان الخيزران المستورد من شرق آسيا يجعل منها قطعًا ثمينة، مقارنةً بالأثاث المشغول محليًا بالأخشاب الرديئة.

يحيى المظلوم في معمل الخيزران

في ذلك المعمل المُعتم الذي لم يكن يُضيئه سوى موقد ناري يستعمل لتليين تلك السيقان. يحيى المظلوم (44 عامًا) يُجيب باختصار عن ندرة الشبان العاملين في هذه الحرفة: "لو فيها مصاري لجاءوا ركض ليشتغلوا".

تُرى.. هل سيكون صدى صوت البابور وإبريق الماء المُندّى وصياد السردين ومقاعد الخيزران ومنافض السجائر الخشبية أشياء من الماضي؟


اقرأ/ي أيضًا:

صور | جدران غزة ... حُب وغضب وأشياء أخرى

صور | رموز "يهودية" تُحاك في مخيّم بغزة!

فيديو | ورود على دراجة هوائية بغزة