16-ديسمبر-2019

"الخطأ الأول هو الخطأ الأخير"، هذه المقولة المرتبطة بالتعامل مع المتفجرات والأجسام المشبوهة، تنطبق تمامًا على مهنة حفر آبار الصرف الصحي "المجاري" التي يعمل بها مئات الغزيين، فكثبان الرمال في باطن الأرض تتربص بهم لتبتلعهم مع أول خطأ.

حفر آبار الصرف الصحي في غزة بعدما كانت رائجة صارت اليوم مهنة نادرة تعمل بها بعض العائلات الغزية فقط بسبب خطورتها

وبعدما كانت هذه المهنة رائجة في العقود الماضية باتت اليوم مهنة نادرة تعمل بها بعض العائلات الغزية فقط بسبب خطورتها العالية على حياة العاملين من جهة، وبفعل وصول شبكات الصرف الصحي إلى مناطق واسعة في قطاع غزة من جهة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: عمال نظافة بعربات في غزة.. لا حقوق ولا مقومات للسلامة

الشاب وائل زعرب (35 عامًا) من خانيونس أبٌ لثلاثة أطفال يعاني اثنان منهم من إعاقة سمعية، أفادنا بأنه اضطر للعمل في هذه المهنة الخطرة ليتمكن من إعالة عائلته وطفليه الذين يحتاجان لعلاج دوري وبتكاليف عالية.

"تركتُ الدراسة في مقاعد كلية التمريض وتوجهت للعمل في حفر الأنفاق الحدودية التي كانت تصل قطاع غزة بمصر قبل أن يتم تدميرها، بعد ذلك بدأت العمل في هذه المهنة مستغلاً خبرتي في حفر الأنفاق إذ أن طبيعة العملين متقاربة جدًا" يقول زعرب.

ويقارن خطورة مهنته بمهنة تفكيك المتفجرات قائلاً: "في مهنتنا الخطأ الأول هو الأخير إلَّا أن يشاء الله، فبمجرد وقوع أي خطأ قد تبتلعنا الرمال وقد تنهار حجارة البئر علينا لتطمرنا في قاعه".

ومازال السيناريو المرعب الذي وقع لابن خالة زعرب ماثلاً في مخيلته، إذ ابتلعته كثبان الرمال أثناء حفر بئرٍ لتصريف مياه الصرف الصحي في منطقة ساحلية غرب محافظة خانيونس، ورغم ذلك فهو يُمارس المهنة "مضطرًا" كما يقول.

وتلجأ الكثير من الأسر الغزية التي تقطن في المناطق التي تفتقر إلى البنية التحتية لحفر آبار بعمق عدة أمتار في باطن الأرض لتصريف المياه العادمة، وهي وسيلةٌ قديمةٌ كانت منتشرة في كافة أرجاء قطاع غزة في العقود الماضية.

مراحل البناء

وعن طريقة بناء الآبار، يوضح زعرب أن العمل يبدأ بحفر حفرة دائرية بقطر مترين وبعمق مترين تقريبًا في الأرض الطينية وينخفض إلى متر ونصف في الأرض الرملية، ثم يتم البدء من الأسفل ببناء جدار ملاصق لحواف البئر من حجارة خاصة يتخللها شقوق تسمح بتسرب المياه، ويستمر البناء حتى يصل إلى أعلى سطح الأرض بمتر ونصف وهنا تتوقف المرحلة الأولى.

وتبدأ المرحلة الثانية من البناء في اليوم التالي عبر الحفر تحت أساسات الجدار الدائري للسماح له بالانزلاق تدريجيًا داخل البئر، وهذه المرحلة، وفقًا لزعرب، من أخطر المراحل، إذ أن الجدار قد يعلق في حواف البئر وقد ينهار على العاملين.

مرحلة الحفر تحت أساسات الجدار الدائري هي الأخطر، فالجدار قد يعلق في حواف البئر وقد ينهار على العاملين

وبعد نجاح عملية انزلاق الجدار الدائري إلى قاع البئر، يستمر البناء من أعلى مع تكرار عملية الانزلاق وصولاً إلى إتمام البناء وتغطية البئر بطبقة سميكة من الخرسان المدعم بالحديد، يتم إحداث ثقب في وسطها بقطر 20سم بغرض شفط المياه.

اقرأ/ي أيضًا: عمال على سقايل العجز والموت دون حماية قانونية

سألنا زعرب عن استعمالهم لأدوات السلامة في موقع العمل فرد علينا بابتسامة عريضة وقال: "عمرنا ما استخدمنا أي أدوات، احنا بنعمل اللي علينا وربنا اللي بسترها معانا".

نجاة بأعجوبة

الشاب رمضان اربيع (28 عامًا) أبٌ لثلاثة أطفال، ورث ورث مهنة حفر الآبار "أبًا عن جد" كما قال في حديثه معنا، مشيرًا إلى أن عائلته مشهورة منذ القدم في خانيونس بممارسة هذه المهنة.  

يروي اربيع حادثة نجاته بأعجوبة من الموت هو واثنين من رفاقه عندما انهار جدار أحد الآبار فوق رؤوسهم على عمق خمسة أمتار في باطن الأرض، يقول: "أثناء قيامنا بإحداث فراغات أسفل أساسات الجدار لمواصلة عملية البناء بدأ الجدار بالتصدع، حاولنا الخروج بسرعة لكن الانهيار كان أسرع".

وأضاف، "من رحمة الله علينا أن الجدار عرش فوق رؤوسنا ولم يسقط علينا مباشرة، بقينا محتجزين عدة ساعات تحت الركام قبل أن يتم إنقاذنا ونحن في حالة غياب عن الوعي استيقظنا منها على سرير المستشفى".

لا يستخدم عمال حفر آبار الصرف الصحي في غزة أدوات السلامة خلال عملهم

وتابع، "احنا بنشتغل على أعصابنا وتأقلمنا على العذاب والمخاطرة وفوق هيك فش شغل، وضع الناس لا يسمح لهم ببناء آبار جديدة".

ويشير اربيع إلى أن تكلفة إنشاء البئر الواحد قد تصل إلى مبلغ 5 آلاف شيكل وهو ما يضطر الكثير من العائلات إلى تصريف مياه الصرف الصحي في حفر صغيرة فوق سطح الأرض.

الإنقاذ معقدة

بدوره وصف الناطق باسم الدفاع المدني رائد الدهشان مهنة حفر الآبار بأنها "خطيرة جدًا، موضحًا أنهم يواجهون صعوبة كبيرة في عمليات الإنقاذ بسبب تركز عمليات الحفرفي المساحات الخلفية للمنازل.

الدفاع المدني: إنقاذ العمال عند انهيار آبار الصرف الصحي صعب جدًا، ولا أحد منهم يستشيرنا

ويشير الدهشان إلى أن العاملين في هذه المهنة لا يلجؤون للدفاع المدني لطلب الاستشارة والتنسيق على الإطلاق.

ودعا الدهشان إلى وضع آلية لتنظيم هذه المهنة المعقدة، بحيث يتم التأكد من صلاحية المكان المراد الحفر فيه والتأكد من عدم وجود مخاطر على حياة العاملين والمياه الجوفية.

وأعرب عن أسفه من عدم اتباع العاملين في هذه المهنة لإجراءات السلامة، مبينًا أن عمليات الحفر تمتد لمسافة عدة أمتار وبقطر كبير ما يجعل الآبار آيلة للسقوط في أية لحظة.


اقرأ/ي أيضًا:

في غزة.. يتسلقون الموت مقابل قروش

في مؤسسات غزة.. ذوات الإعاقة للاستغلال فقط

معلمات رياض الأطفال: دوام طول العام والراتب فتات