04-يونيو-2019

سجلت الحكومة الثامنة عشرة سبقًا في ملاحقة سابقتها في قضايا نزاهة وشفافية، قضايا ما زالت حتى اللحظة قيد الأسئلة والتحليلات، ولم يفعل ذلك رئيس وزراءٍ فلسطينيٍ سابقٍ من الرئيس عباس إلى قريع إلى هنية إلى فياض إلى الحمدالله.

فمنذ نيسان الماضي تعاملت الحكومة الحالية مع سرّين لسابقتها، الأول تسريب وثيقة حول اعتماد سائق لكل وزير، وتم التسريب وسط أسئلةٍ كثيرةٍ عن جهة التسريب، وجزءٌ من التحليلات كان من نصيب الحكومة الجديدة. السر الثاني كان ما انفجر في نهاية أيار حول العشرة آلاف دولار بدل سكن وبيوت للوزراء السابقين، ورفع فاتورة رواتب رئيس الحكومة وأعضائها بشكل سري، وهو تسريبٌ أيضًا تشير أصابع كثيرة للحكومة الحالية على أنها راضيةٌ عنه وسعيدة به، بدليل أن عددًا كبيرًا من محازبيها كانوا جدًا سعداء بالكشف عنه.

الجمهور لا يملك قانونًا ولا سجونًا ولا هئيات تحقيق وضبط وتنفيذ سيادة القانون، وفي الحالة التي نحن بصددها موقع الجمهور ليس آمنا، وقد يكون مُستَغلاً.

والسؤال الذي تغيبه ضجة الحدث يتعلق بهوية المُبلغ عن واقعة الفساد أو الجهة التي سربت وثائق مفترض أنها حكومية، والإلحاح في معرفة المسربين ليس سؤالاً عبثيًا، فمن إجابته -لو أنها موجودةٌ- سيحدد الجمهور موقفًا أقوى مما هو عليه الآن من تشرذمٍ وبيع موافقاتٍ مجانيةٍ لأطرافٍ ليس بالضرورة أن نزاهتها ممنهجةٌ ومؤطرةٌ باللوائح والقوانين، بل إنها مجرد تقليعاتٍ موسميةٍ أو عملياتٍ انتقاميةٍ أو محاولاتٍ لتثبيت الذات على حساب عيوب الآخرين.

اقرأ/ي أيضًا: وهم الحرية

كلنا مع محاسبة الفساد والحكومة السابقة تستحق لجنة تحقيقٍ في قضية رفع الراتب دون علم الجمهور، ولكن قبل ذلك كله يجب أن نضع في الحسبان النقاط التالية:

أولاً: رغم دعمنا للتبليغ عن فسادٍ إلا أن الأمر يظل مهزوزًا في ظل غياب هوية المسرب وأهدافه ونواياه وتوقيته، هذا سيعيدنا إلى سلسلة تسريباتٍ كثيرةٍ منذ سنوات، كنا نربح فيها الضحك على فيسبوك، ونخسر محاسبة مرتكبيها وبالتالي تتحول قضايا الفساد إلى أزمات سوشال ميديا وليس إلى قضايا ومحاكم.

ثانيًا: في التسريبين قيد النقاش يتجند الجمهور أو يتم تجنيده ليكون الحكم في قضايا قانونيةٍ سياديةٍ، ولا صوت ولا همس لمؤسسات الدولة، لا للرقابة الإدارية والمالية ولا هيئة مكافحة الفساد، لا قبل التسريب ولا بعده ولا حتى ببيان توضيحي. هذه سياسةٌ عامةٌ يشوبها التناقض والتشوه، والجمهور المتاح له الآن قصف "جبهة السلطة" على رأي المراهقين، لن يكون حرًا في التعليق في قضايا أخرى قد تمس طوابق الهرم السياسي.

ثالثًا: صحيحٌ أن الشارع أصدق والجمهور أطيب نيةً ومقاصد، لكنه جمهرةٌ غاضبةٌ بلا قرار، ولا يملك قانونًا ولا سجونًا ولا هئيات تحقيق وضبط وتنفيذ سيادة القانون، وفي الحالة التي نحن بصددها موقع الجمهور ليس آمنا. وقد يكون مُستَغلاً.

رابعًا: نجد بين جمهور الفرحين بالكشف والغاضبين على الحكومة السابقة نقاباتٌ واتحاداتٌ وشخصياتٌ متنفذةٌ في الوزارات لطالما قبلت بقرارات الحكومة السابقة ولكنها الآن تلبس غرة الأسد وتنفض غبار الخوف وتهاجم وتحاكم وتطالب بشجاعةٍ في غير موقعها الطبيعي، وثمة أيضًا متنفذون كثر يوزعون الحلوى على فضيحة الحكومة السابقة مع أنهم لطالما تملقوا وزراءها وتصوروا معهم "سيلفي" وسفلي وجانبي ومن فوق ومن تحت.

علينا أن نكتب مدونة سلوك للقطاع الحكومي، لمحاربة تملق المسؤولين الحكوميين، لعلنا نرفع منسوب شجاعة كثيرٍ من القطاعات

هذا النفاق لعمركم شيءٌ بشعٌ وعلينا أن نكتب مدونة سلوك للقطاع الحكومي، لمحاربة تملق المسؤولين الحكوميين، لعلنا نرفع منسوب شجاعة كثيرٍ من القطاعات ونعيد ترتيب وجوه تسوّد وجه الشعب المعروف بالجرأة والنبل ونظافة المعنى والقصد والسلوك.

خامسًا: على افتراض أن محاكمةً ما سيتم تنظيمها لمرتكبي المخالفات من الحكومة السابقة، فماذا بشأن عددٍ من الوزراء ظلوا في حقائبهم في الحكومة الجديدة؟ هل سيتم استبدالهم مثل الذين تم تغييرهم؟ أم ستتم استتابتهم وعفا الله عما سلف؟ أم أنهم سيكونون جزيرة معزولة وسط تياراتٍ وتضامنياتٍ الحكومة الجديدة.

ثمة قضية نزاهةٍ كبيرة -بين مزدوجين- تدور في الحياة العامة الفلسطينية، قويةٌ ومفاجئةٌ ومستحقةٌ لكنها في نفس الوقت مشروخةٌ وغير ممأسسةٍ وغير معروفٍ مصيرها، وموقع الجمهور فيها غير آمن، وجزءٌ من المؤسسات المعنية فيها ضالعة في الاتهامات، وهذه التصدعات لن يخرج منها أبطالٌ عادلون بل ستزيدنا "قلة حيلةٍ وقلة شجاعةٍ" وكثرة أخطاءٍ في زمنٍ سماه كثيرون "زمن التحديات".


اقرأ/ي أيضًا:

مقالي ممنوع من النشر.. ما العمل؟

السيد تيك - توك

الحق في المجهولية