مقابلات

حوار | المرصد الأورومتوسطي: ما يجري في غزة إبادة ممنهجة وسط عجز دولي وغطاء أميركي

7 أكتوبر 2025
حوار | المرصد الأورومتوسطي: ما يجري في غزة إبادة ممنهجة وسط عجز دولي وغطاء أميركي
محمد غفري
محمد غفريصحافي من رام الله

رغم مرور عامين على حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، فإنّ الواقع الإنساني في القطاع يزداد قتامة يومًا بعد يوم.  وفي مقابلة خاصة لموقع "الترا فلسطين" مع مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، ليما بسطامي، تصف الوضع بأنه "إبادة ممنهجة تستهدف الفلسطينيين بهويتهم". وتؤكد بسطامي أنّ إسرائيل "تدمّر مقومات البقاء بالكامل" من صحة وتعليم واقتصاد وثقافة، وتستخدم التجويع والتعطيش كأدوات حرب لاقتلاع السكان.

تقول بسطامي إنّ التوغّل الإسرائيلي الأخير في مدينة غزة ضمن عملية "عربات جدعون 2" يعكس "مرحلة جديدة من الإبادة"، إذ سيطر الجيش على محاور المدينة، ودفع مئات الآلاف للنزوح تحت القصف، في ظل انهيار شبه كامل للنظام الصحي وتوقف المساعدات شمال القطاع. 

كما تحدثت عن استخدام "الروبوتات المفخخة" والطائرات المسيرة في الأحياء السكنية، واصفةً إياها بأنها "أدوات قتل وترهيب جماعي" تشكّل جرائم حرب وقد ترقى إلى إبادة جماعية. وأضافت أنّ النزوح في غزة لم يعد وسيلة نجاة بل "رحلة موت جديدة" بسبب القصف والتكاليف الباهظة وانعدام المأوى. 

مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، ليما بسطامي: المشهد لا يترك مجالًا للالتباس بشأن النوايا، فهي نوايا إبادة سافرة، معلنة بالفعل والقول، تهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطيني برمّته.

أما ما يسمى بـ"المناطق الإنسانية"، فتصفها بأنها "غيتوهات مغلقة" تهدف إلى حشر الفلسطينيين تمهيدًا لتهجيرهم الدائم. وتشير بسطامي إلى استهداف الصحفيين والمراكز الصحية بوصفه سياسة متعمّدة لإسكات الشهود وكسر المجتمع، موضحة أن المرصد وثّق قتل 232 صحفيًا وتدمير عشرات المستشفيات. فيما تشير بسطامي إلى أن المجتمع الدولي عاجز ومتواطئ، إذ تواصل إسرائيل جرائمها وسط "غطاء أميركي وانقسام أوروبي"، مؤكدة الحاجة إلى انتقال العالم من بيانات الإدانة إلى إجراءات الإكراه والعقوبات الشاملة.

وفيما يلي نص المقابلة الكاملة لـ"الترا فلسطين"، مع مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ليما بسطامي.


  • تحل الذكرى السنوية الثانية لحرب الإبادة على قطاع غزة. كيف يمكن توصيف حال المواطنين في غزة بعد مرور عامين على الحرب، من الناحية الإنسانية والاجتماعية والنفسية؟

منذ عامين، يعيش فلسطينيو غزة حروبًا لا تنتهي على أرض حوّلتها إسرائيل إلى قبر جماعي مفتوح؛ يواجهون أفعال إبادة جماعية تستهدف وجودهم كجماعة وطنية عبر القتل المباشر لأكبر عدد ممكن منهم، وفرض شروط معيشية مهلكة تُفرّغ الحياة من مقوماتها، وإلحاق آلام ومعاناة نفسية وجسدية شديدة، ومنع الولادات. 

الاستهداف هنا يقوم على الهوية ذاتها لا على الصفة، فلا فرق بين مدني ومقاتل، ولا بين صغير وكبير، ولا بين امرأة ورجل؛ الجميع هدف، وما تبقى للفلسطينيين هو العيش فوق الأنقاض، ومراوغة الموت يومًا بيوم، والتنقل بين درجات الفناء.

وخلال هذه الفترة، أسفرت الهجمات الإسرائيلية عن مقتل أكثر من 66,148 فلسطينيًا وإصابة ما يزيد على 168,716 آخرين، فضلًا عن أكثر من 12 ألف مفقود، بينما اضطر ما يقارب مليوني شخص للنزوح القسري المتكرر، دون أن يجدوا أي مكان آمن أو مأوى إنساني. هذه الأرقام تشمل عشرات آلاف الأطفال والنساء الذين شكّلوا الفئة الأكبر بين الضحايا.

وإلى جانب القتل المباشر بالهجمات العسكرية المنهجية والواسعة النطاق التي تستهدف المدنيين عمدًا أينما كانوا، صمّمت إسرائيل نظامًا متشابكًا ومتعدد الطبقات لتدمير حياة الفلسطينيين. يتجسد هذا النظام في تدمير المنازل ومراكز الإيواء والأحياء والمدن بأكملها، وفرض التهجير القسري المتكرر تحت النار أو التهديد بها دون أي مكان آمن أو حتى إنساني، وتفكيك النظام الصحي وحرمان السكان من الدواء، وفرض التجويع عبر منع المساعدات وتدمير مصادر إنتاج الغذاء المحلي، وتعمد التعطيش من خلال تدمير مصادر المياه ومحطات التحلية، وإغراق القطاع في كوارث بيئية وصحية عبر تدمير شبكات الصرف ومنع التخلص من النفايات، وحرمان السكان من وسائل التعقيم والنظافة العامة والشخصية.

ولا يقف الاستهداف عند مقومات البقاء المباشر، بل يتجاوزها ليطال أسس الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فقد دمّرت إسرائيل المدارس والجامعات والمكتبات في مسعى واضح لحرمان الفلسطينيين من التعليم والمعرفة، وسحقت الأسواق والمصانع ووسائل كسب الرزق وعطّلت الدورة الاقتصادية عبر منع السيولة النقدية، كما هدمت المساجد والكنائس والمراكز المجتمعية واغتالت النخب والكفاءات المحلية، بما يخلّف آثارًا بنيوية عميقة ودائمة تمحو أي فرصة حقيقية للتعافي أو إعادة الإعمار.

كما يعمّق الاحتلال عزلة غزة بقطع الكهرباء والاتصالات والإنترنت وقتل الصحفيين لإبقائها في الظلام ومنع توثيق الجرائم. وإلى جانب ذلك، يستهدف البيئة الطبيعية عبر اقتلاع الأشجار وتدمير الأراضي الزراعية وتلويث التربة، وتصفية الثروة الحيوانية بالتجويع والنهب والقتل، فلا يتبقى للفلسطينيين لا غذاء ولا طاقة ولا حتى وسائل للنقل في ظل انقطاع الوقود والكهرباء وتدمير المركبات.

أما على المستوى النفسي والاجتماعي، فتجتاح السكان صدمة جماعية ممتدة بمستويات غير مسبوقة من القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، وتتفاقم مع النزوح المتكرر والعيش القاسي في الخيام واستمرار القصف اليومي. الأطفال هم الأكثر تضررًا؛ مئات الآلاف منهم يعانون الإرهاق النفسي، والكوابيس، ونوبات الهلع، وتراجعًا تحصيليًا مع حرمان شبه كامل من التعليم. والحاجة إلى الدعم النفسي-الاجتماعي هائلة وتتجاوز بكثير قدرة الخدمات المحدودة المتبقية.

هذا هو شكل الاستمرار في قطاع غزة اليوم، حيث يُرغم جميع السكان على العيش تحت هذه الظروف مجتمعة في آن واحد دون استثناء، مع ما تحمله من تبعات أشد وطأة على الفئات الأكثر هشاشة، بخاصة كبار السن، والأشخاص ذوي الإعاقة، والأطفال، والنساء الأمهات والحوامل، والمصابين بالأمراض المزمنة، في ظروف لا تتيح حدًّا أدنى من الأمان أو الرعاية أو الكرامة.

إنه مشهد إبادة جماعية مكتملة الأركان، بمعناها القانوني والتاريخي، وعدوان متجذّر في المشروعٍ الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي هدفه اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه ومحو وجوده بالقتل والتهجير القسري وفرض ظروف معيشية مُهلكة؛ مشهدٌ لا يترك مجالًا للالتباس بشأن النوايا، فهي نوايا إبادة سافرة، معلنة بالفعل والقول، تهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطيني برمّته.

  • التطور الأبرز مؤخرًا هو توغل قوات الاحتلال داخل مدينة غزة تحت عنوان ما يعرف بعملية "عربات جدعون 2". وفقًا لرصدكم، إلى أين وصلت هذه الآليات؟ وكيف انعكس هذا التوغل على واقع الحياة اليومية في المدينة؟

تتمركز قوات الاحتلال داخل مدينة غزة من المحاور الشمالي الغربي والشمالي والجنوبي، فارضةً سيطرة نارية واسعة تمتد من محيط مجمّع الشفاء حتى منطقة الجامعات /الرمال الجنوبي ومركز المدينة. هذا الاقتحام البري، وما رافقه من جرائم شملت قتل وترويع السكان، وإصدار أوامر بالتهجير القسري، وقطع المساعدات الإنسانية، ونسف وحرق ما تبقّى من المنازل ومراكز الإيواء، إلى جانب الغارات الجوية المتواصلة، أجبر السكان على النزوح قسرًا من الغرب نحو الوسط والشرق رغم ما تنطوي عليه هذه المناطق أيضًا من مخاطر جسيمة.

هذه العملية، التي تطلق عليها إسرائيل اسم "عربات جدعون 2" لإضفاء صبغة عسكرية وإيهام بوجود هدف عسكري، ليست سوى حملة إبادة جماعية تصعيدية تستهدف المدنيين وبنيتهم التحتية. غايتها القضاء على سكان المدينة بالقتل والتهجير ومنع عودتهم، بعد أن دُمِّرت مقومات الحياة ولم يبقَ ما يمكن أن يعودوا إليه.

بفعل هذه الحملة، انهار ما تبقى من القطاع الصحي والعمليات الإنسانية، فقد أُغلق وتعطّل عدد إضافي من المستشفيات تحت وطأة الهجمات الإسرائيلية، فيما تتعالى النداءات العاجلة لإجلاء الرضّع من الحضّانات المحاصَرة بالدبابات وتحت القصف المستمر لمحيط المستشفيات. ومع كل يوم تتراجع القدرة على تقديم الحد الأدنى من الرعاية، في ظل نقص حاد في الأدوية والوقود، وتعطّل المولدات، وعجز الأطقم الطبية المنهكة عن الاستمرار في ظروف إنسانية لا تُحتمل.

في الوقت نفسه، أدّى إغلاق ممر "زيكيم" في 12 سبتمبر إلى قطع شريان رئيسي لإدخال المساعدات إلى شمال ومدينة غزة، ما تسبب في انخفاض كبير في تدفق المواد الغذائية وإغلاق المطابخ المجتمعية والمراكز الصحية التي كانت تعتمد على هذا الإمداد. وانعكس ذلك مباشرة على حياة السكان: ندرة حادة في البضائع، وأسعار فلكية للمواد الأساسية، وظهور أسواق محلية صغيرة متقطعة داخل الأحياء لكنها شبه فارغة. وبهذا، يواجه السكان معادلة مستحيلة: إمّا النزوح القسري إلى مناطق أخرى، حيث يواجههم الموت تحت القصف في الطريق أو في المكان الذي يصلون إليه، وإمّا البقاء وسط المدينة لمواجهة موت آخر بالجوع والمرض وانهيار الخدمات أو بالقصف المتواصل.

  • لوحظ في الأسابيع الأخيرة تصعيد إسرائيلي جديد باستهداف الأبراج السكنية. لو تطلعينا على رصدكم لهذا التدمير؟ وهل جمعتم شهادات أو أدلة تنقض رواية الاحتلال بشأن استخدامها كبنية تحتية عسكرية؟

منذ الأيام الأولى لعدوان إسرائيل على مدينة غزة في 11 أيلول/سبتمبر، كثّف جيشها استهداف الأعيان المدنية، بما فيها الأبراج السكنية والبنايات العالية، عبر قصف جوي يَسوي المبنى حتى مستوى الأرض. ترتّب على ذلك تهجير قسري لعشرات العائلات دفعة واحدة، وفقدان آخر الأساسيات والوثائق والمدّخرات، وتعطّل شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي في المحيط، وتحول الشوارع المحاذية إلى ركام غير صالح للسكن أو حتى المرور.

أما زعمُ "الاستخدام كبنية تحتية عسكرية" فيظلّ ادعاءً يُلزِم مُطلِقَه بتقديم الدليل؛ وإذ إنّ إسرائيل هي الجهة المنفِّذة، يقع عليها عبءُ إثبات الاستخدام العسكري لكل حالة على حدة بأدلة محدّدة وقابلة للتحقق، وهو ما لم تفعله، ولا ينتقل عبء الإثبات إلى الضحايا. وما وثّقناه من شهادات وقوائم سكانٍ وصور قبل/بعد يبيّن أن الأبراج كانت مأهولة بعائلات مدنية، من دون مؤشرات لاشتباك مسلّح قبيل القصف أو "انفجارات ثانوية" تدلّ عادة على وجود مخزونات ذخيرة.

قانونيًا، الأبراج السكنية تُعدّ أعيانًا مدنية بحكم الأصل، ولا تتحوّل إلى أهداف مشروعة إلا إذا ثَبَت، لكل واقعة على حدة وبمعلومات موثوقة وحديثة، أنها تُسهم إسهامًا فعليًا ومحددًا في العمل العسكري وأن تدميرها يمنح ميزة عسكرية أكيدة ومباشرة. وفي حالة الشك تُغلَّب قرينة الطابع المدني. التدمير الشامل للبناء ومحيطه، بدل استهداف النقطة المحددة التي يُزعم طابعها العسكري، يجعل الهجوم غير موجّه بدقة، ويكشف عن استخدام وسيلة قتال واسعة التأثير في منطقة مكتظّة بالسكان؛ وهذا يوقعه في نطاق الهجمات المحظورة لأنه إمّا غير موجه نحو هدف عسكري محدد أساسًا، أو لأن آثاره لا يمكن حصرها كما يقتضي القانون.

وحتى بافتراض وجود عنصر عسكري في طابق أو شقة من برج ما، فالمعيار ليس "وجود الهدف" لوحده؛ بل التناسب والاحتياطات واختيار الوسيلة الأقل إضرارًا بالمدنيين. والمطلوب قانونًا هو تحييد الهدف المحدد بالوسائل والذخائر والزاوية والتوقيت التي تقلّل الخسائر الجانبية قدر الإمكان، لا تسوية البرج كاملًا بالأرض وإلحاق أضرار واسعة بالبشر والبنية المحيطة. وعندما تتجاوز الخسائر المتوقعة في أرواح المدنيين وممتلكاتهم الميزة العسكرية المتوقعة، يصبح الهجوم غير متناسب وغير مشروع، ويشكّل جريمة حرب مستقلة.

كما أن أوامر الإخلاء أو "التحذير المسبق" لا تُسبغ الشرعية على هجوم غير مشروع، ولا تجعل منطقة سكنية "منطقة مباحة"، ولا تُعفي من الواجبات الجوهرية بالتمييز والتناسب والاحتياطات. كما أن التدمير الواسع للممتلكات من دون ضرورة عسكرية قاهرة يظل محظورًا، والنمط الذي يفضي عمليًا إلى تفريغ الجماعة من شروط بقائها يندرج ضمن الأفعال المكوِّنة لجريمة الإبادة الجماعية، عندما يقترن بالقصد أو تُستخلص نيّته من السلوك والنتائج.

وما يجري على الأرض يُدلِّل أن إسرائيل تُوظِّف تدمير الأبراج السكنية لتحقيق حزمة أهداف متكاملة: تهجير السكان قسرًا، وتفكيك البنية والذاكرة العمرانية، وكيّ الوعي، وتعطيل شروط العودة مستقبلًا، مع إلحاق أقصى الخسائر بالفلسطينيين وممتلكاتهم.

  • تواصل قوات الاحتلال استخدام العربات أو "الروبوتات المفخخة" في الأحياء السكنية، وخاصة في مدينة غزة. ما حجم هذا الاستخدام مؤخرًا وفق رصدكم؟ وما خطورة هذه العربات على السكان المدنيين؟ وهل يجري تفجيرها فعلًا وسط مناطق مأهولة؟

وفق رصدنا الميداني في الأسابيع الأخيرة، تحوّل استخدام العربات/"الروبوتات المفخخة" إلى نمط ثابت داخل أحياء مدينة غزة، خاصة في تلّ الهوى والرمال ومحيط الشفاء وشارع 8، حيث يُدفَع بعربات مجنزرة صغيرة أو متوسطة محمّلة بكميات كبيرة من المتفجرات إلى الأزقة أو إلى داخل مبانٍ سكنية، ثم تُفجَّر عن بُعد لتسوية مجموعات من المنازل دفعة واحدة. 

هذا الاستخدام متكرر، وأحيانًا يومي في بعض المناطق؛ ففي منتصف أيلول/سبتمبر وحده وثّقنا خلال أسبوع نحو 120عربة محمّلة بما يقارب 840 طنًّا من المتفجرات داخل أحياء المدينة، أي بمعدل يزيد على17 عربة يوميًا. ويُعادل تفجير الواحدة منها أثر زلزال بقوة تقارب 3.7 درجة، مع مناطق دمار شديد تمتد لعشرات الأمتار (نحو 90 مترًا لمستوى شدة عالٍ)، فيما تصل آثار الكسور والأضرار الأخرى إلى مئات الأمتار وقد تمتد في المناطق المفتوحة إلى قرابة كيلومتر.

وبالفعل، هناك تطوّر النمط ميدانيًا بوضع العربات وسط تجمعات مأهولة ثم الاتصال بالأهالي ومطالبتهم بالمغادرة تحت التهديد بتفجيرها، ما يدفعهم إلى الخروج في حالة ذعر شديد قبل أن تُفجَّر العربات بين منازلهم. والنتيجة موجات انفجار وضغط هوائي تسبب انهيارات متتابعة وحرائق وشظايا تمتد إلى بيوت مجاورة، وتدمير لشبكات الماء والكهرباء والصرف وقطع لطرق الإخلاء والإسعاف.

قانونيًا، تفجير عربات مفخخة في مناطق مكتظّة محظور بموجب القانون الدولي الإنساني؛ إذ يُنفَّذ داخل أحياء مأهولة وبين منازل قائمة، فيُشكّل هجومًا موجَّهًا مباشرةً ضد الأعيان المدنية المحمية. وحتى على فرض وجود عنصر عسكري في المحيط، فإن استخدام وسيلة قتال واسعة التأثير لا يمكن توجيه آثارها أو حصرها ضمن هدف محدد يجعل الهجوم عشوائيًا وغير مشروع. هذا النمط يخرق مبادئ التمييز والتناسب وواجب اتخاذ الاحتياطات وتقليل الأذى اللاحق بالمدنيين.

كما أن استخدامه في مناطق سكنية يشكّل جريمة حرب بحد ذاته، وجريمة ضد الإنسانية كونه يقترن بالقتل أو التهجير القسري أو الحرمان من شروط الحياة الأساسية ضمن هجوم واسع النطاق أو منهجي على السكان المدنيين، كما هو الحال في قطاع غزة. وإذ يُستخدم بصورة منهجية لتدمير الأحياء وحرمان الناس من منازلهم وشروط بقائهم، فإنه يتحوّل إلى أداة مباشرة لارتكاب أفعال تدخل ضمن تعريف الإبادة الجماعية، ولا سيما تعمد فرض ظروف معيشية يُقصد بها إهلاك الجماعة كليًا أو جزئيًا.

  • تكثف قوات الاحتلال استخدام الطائرات المسيرة، خصوصًا ما تسمى "الكوادكابتر". كيف يتم توظيف هذه الطائرات في العمليات الميدانية؟ وهل تُستخدم أداة لترهيب السكان ودفعهم للنزوح؟

بالفعل، تستخدم إسرائيل المُسيَّرات كجزء من منظومة القتل والتجسّس والترهيب وتهجير السكان من مناطق سكناهم في القطاع. وقد وثّقنا حالات استهدفت فيها مسيّرات "كوادكابتر" مدنيين بشكل مباشر بإطلاق الرصاص أو بإسقاط عبوات متفجّرة، شملت أطفالًا ونساءً، فضلًا عن تحليق منخفض ومتعمد قبالة النوافذ وفي ممرّات التهجير ومراكز الإيواء وفوق خيام النزوح، وبثّ أصوات مرعبة (تعذيب، ونهش كلاب، وصراخ أطفال، واستغاثات، وصفارات إسعاف) لاستدراج الناس إلى الخارج ثم إطلاق النار عليهم. كما وثّقنا اقتحام هذه المُسيّرات غرفًا مكسورة النوافذ ليلًا لتصوير عائلات نائمة، ما يُخلف حالة ذعر جماعية تدفع المدنيين إلى النزوح المتكرر.

إلى جانب إيقاع قتلى وجرحى بين المدنيين، يخلف هذا الاستخدام آثارًا نفسية وجسدية عميقة وطويلة الأمد: حالة ترقّب وفزع دائم بأن الموت قد يداهمهم في أي لحظة، اضطرابات نوم وكوابيس، انهيارات عاطفية، ضعف في التركيز ونوبات هلع. وفي الأطفال تتجلّى الآثار بتبوّل ليلي، بكاء متكرر، واضطرابات نطق وسلوك، فيما تتحمّل النساء، وخاصّة الأمهات، عبئًا مضاعفًا من الخوف والعجز عن حماية الصغار.

قانونيًا، وإن لم تُصنَّف المسيّرات بذاتها كأسلحة محظورة، فإن استخدامها يخضع لقواعد القانون الدولي الإنساني المنظمة لسير العمليات القتالية. وما رصدناه يظهر نمطًا منهجيًا يخرق هذه القواعد ويُوظَّف فعليًا لشن هجمات مباشرة على المدنيين، كما أن استخدامها على هذا النحو المنهجي لإلحاق أذى جسدي أو عقلي جسيم بأفراد جماعة، أو لإخضاعها عمدًا لظروف معيشية يُراد بها تدميرها كليًا أو جزئيًا، فإنه يندرج صراحةً ضمن الأفعال الواردة في المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية (الفقرتان ب-ج).

  • في الآونة الأخيرة ارتكب الاحتلال مجازر بحق عائلات في غزة بعد مساومتها على التعامل معه وتشكيل عصابات مثل ابو شباب.. هل رصدتم ذلك؟

نعم. رصدنا عبر شهادات متقاطعة ووثائق ميدانية نمطًا متصاعدًا لتواصل جيش الاحتلال مباشرةً مع عائلات ووجهاء في مدينة غزة ومحيطها، لمساومتهم على "التعاون" أو تشكيل مجموعات محلية مسلّحة تعمل لصالحه (نمط أبو شباب) لتنفيذ مهام غير مشروعة. يتم ذلك عبر اتصالات ورسائل مرفقة بتهديدات صريحة بقصف المنازل والأحياء أو قطع المساعدات. وفي وقائع موثّقة، تحوّلت هذه التهديدات إلى مجازر بحق العائلات الرافضة، في استخدام فجّ للإكراه لإخضاع السكان، وتفكيك النسيج الاجتماعي، وخلق بيئة فوضى وترويع ونهب.

قانونيًا، فإن إجبار المدنيين على الخدمة أو الاضطلاع بمهام ذات طابع عسكري محظور قطعًا: اتفاقية جنيف الرابعة تحظر تجنيد الأشخاص المحميين أو إرغامهم على خدمة قوة الاحتلال (مادة 51)، وتحظر الإكراه للحصول على تعاون أو معلومات (مادة 31)، والعقوبات الجماعية وأعمال الإرهاب (مادة 33). في نظام روما الأساسي، يُشكّل إكراه الأشخاص المحميين على خدمة قوة معادية والقتل العمد والترحيل القسري جرائم حرب؛ وإذا ارتُكبت هذه الأفعال كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين فهي جرائم ضد الإنسانية، كالقتل، والاضطهاد، وأفعال لا إنسانية تُحدث معاناة شديدة. كما أن رفض التعاون لا يسقط الحماية ولا يبرّر أي استهداف أو تهجير أو التجويع؛ والانتقام من المدنيين يظل جريمة مهما كان موقفهم.

كما أن تكرار هذه الوقائع وربطها بسياق العدوان الأوسع يكشف نهجًا منظّمًا لإخضاع المجتمع الفلسطيني عبر تفكيكه داخليًا واستبدال سلطة القانون والمرجعيات المدنية بـحكم الخوف والابتزاز المفروضين بالسلاح. هذا المسار جزءٌ متمّم لبنية الجريمة التي تستهدف تدمير القدرة الجماعية على البقاء، ويشكّل مؤشرًا خطيرًا على نوايا تبلغ حدّ الإبادة الجماعية عبر التفكيك الداخلي، والتجويع، والتهجير القسري، وفرض ظروف معيشية مُهلكة.

  • هذا الواقع من قصف وتدمير دفع مئات الآلاف للنزوح جنوبًا. ما هي تقديراتكم لأعداد النازحين من مدينة غزة وشمال القطاع؟ وكم تبقى في تلك المناطق اليوم؟

إنّ تعداد السكان المتبقّين في مدينة غزة وشمال القطاع يتغيّر بشكل متسارع بفعل التوسع العسكري الإسرائيلي، قطع الطرق، نقص المساعدات، وموجات التهجير الليلية. كما أنّ بعض المناطق لا تزال محاصَرة أو شبه مغلقة أمام الفرق الميدانية، ما يجعل جمع بيانات دقيقة مهمة معقّدة. 

ومع ذلك، تشير متابعاتنا إلى أنّه خلال الأسابيع الستة الماضية نزح نحو 600 ألف شخص من الشمال ومدينة غزة باتجاه الوسط والجنوب، فيما لا يزال هناك حوالي 400 ألف يعيشون وسط ظروف إنسانية بالغة القسوة؛ إذ يفتقرون إلى الغذاء والماء والدواء والمأوى الآمن، ويواجهون خطرًا متواصلًا بالتهجير القسري مع كل توسّع عسكري جديد.

  • كيف يمكن وصف رحلة النزوح نفسها، من حيث المخاطر والتكاليف والمعاناة الإنسانية التي يعيشها المواطنون على الطرق وفي أماكن النزوح؟

لا يتوقف الخطر عند لحظة طرد العائلات من أماكن تواجدها تحت مقصلة القصف، بل يبدأ فصل جديد من المأساة مع انطلاق رحلة النزوح ذاتها، التي تتحول إلى مسار موت واستنزاف متواصل؛ حيث يسلك المدنيون طرقًا محفوفة بالقصف وإطلاق النار المفاجئ، وسط جثث ممددة على الشوارع المدمرة، وأطفال جائعين ومرعوبين يقطعون المسافات سيرًا على الأقدام. كثيرون يبيتون في العراء بين مرحلة وأخرى، ويجدون أنفسهم في مواجهة رعب جديد عند كل محطة. النزوح هنا لا يعني النجاة، بل انتقالًا من دائرة موت إلى أخرى، حيث يظل المدنيون ملاحقين حتى بعد وصولهم إلى ما يُفترض أنه "مكان آمن".

ومع كل هذا الخطر، النزوح مكلف إلى حدّ يستحيل على معظم العائلات تحمّله بعد عامين من الإبادة الجماعية وتجريف مصادر العيش. ثمن خيمة يتراوح بين 600 و1500 دولار، نقل الأمتعة قد يصل إلى 750 دولارًا، والميني باص لمسافة قصيرة يكلف ما بين 450 و550 دولارًا، أما قطعة الأرض لنصب الخيمة فقد تصل إلى 1500 دولار شهريًا، فيما يتراوح إيجار شقة صغيرة في الجنوب إن وُجدت بين 2000 و5000 دولار. هذه الأرقام وحدها تكفي لترك عشرات آلاف العائلات عاجزة عن أي نزوح، مهما عَظُّم الخطر. 

أما من ينجو ويصل إلى أماكن النزوح، فلا يلقى أمانًا بانتظاره. هناك، تستقبله مخيمات مكتظة بأعداد هائلة من النازحين، وخيام مهترئة لا تقي حرًا ولا بردًا، بلا أدنى مقومات للخصوصية أو الكرامة الإنسانية. النقص الحاد في الغذاء والماء والدواء يجعل الحياة اليومية معركة بقاء، فيما تنتشر الأمراض بسرعة وسط بيئة غير صحية ومحرومة من الرعاية. 

وحتى هذه الأماكن، التي يُفترض أن تكون ملاذًا، تبقى عرضة للاستهداف المباشر وتتعرض للقصف على نحو شبه يومي، لتتحول هي الأخرى إلى ساحات موت. وهكذا يصبح النزوح في غزة فصلًا جديدًا من الجريمة، وانتقالًا من موت إلى موت، ومن ظروف مهلكة إلى أخرى، دون أي مخرج أو أفق للأمان.

  • أين يتركز النازحون اليوم في وسط وجنوب القطاع؟ وهل تعتبر هذه المناطق بالفعل "آمنة" كما يروج الاحتلال؟ وهل تصل إليها المساعدات بشكل كافٍ (ماء، غذاء، رعاية صحية)؟

بعد أن حوّلت إسرائيل أكثر من 85% من مساحة قطاع غزة إلى مناطق محظورة بفعل أوامر التهجير القسري والسيطرة العسكرية، لم يعد أمام السكان سوى رقعة ضيقة لا تتجاوز 55 كم² يتكدس فيها أكثر من 2.3 مليون إنسان، بمعدل مساحة تقل عن 24 مترًا مربعًا للفرد، أي أقل مما مُنح لسجناء غوانتنامو. واليوم يتركّز معظم النازحين في دير البلح ومواصي خانيونس، حيث حُشر مئات الآلاف بعد موجات متكررة من التهجير القسري من مدينة غزة والشمال ورفح، في ظروف خانقة لا تلبّي أدنى مقومات البقاء.

ورغم أن الاحتلال يروّج لمناطق مثل "المواصي" باعتبارها "مناطق إنسانية"، فإن الوقائع تكشف غير ذلك؛ إذ تتعرض هذه المناطق لقصف متكرر من البر والبحر والجو، بما في ذلك استهداف مباشر لخيام النازحين وحرق من فيها، أو قصف تجمعاتهم للحصول على الماء والمساعدات. وقد وثّقنا أكثر من مئة غارة إسرائيلية على المواصي وحدها منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلى جانب القصف المدفعي والقنص والاستهداف بالطائرات المسيّرة والزوارق الحربية.

كما أنّ هذه المناطق تفتقر إلى المأوى والغذاء والماء والرعاية الصحية، حيث يعيش فيها مئات الآلاف من النازحين في ظروف خانقة داخل خيام مهترئة مكتظة ووسط غياب شبه كامل لشروط النظافة، ما يفاقم انتشار الأمراض والأوبئة. أما المساعدات الإنسانية التي تصل إلى وسط وجنوب القطاع فهي شحيحة وغير منتظمة، فيما تتحول نقاط التوزيع التابعة لمؤسسة "غزة الإنسانية" إلى نموذج آخر من الاضطهاد والتدمير؛ فهي غير متاحة عمليًا لكثير من العائلات التي تفتقد معيلًا قادرًا جسديًا على الوصول، بسبب الإعاقة أو الإصابة أو التقدم في العمر أو حتى فقدان أفراد الأسرة بالقتل، فتُترك هذه العائلات لمواجهة الجوع بأقصى أشكاله. وحتى من يتمكّن من الوصول، فإن ما يوزَّع لا يلبّي الحدّ الأدنى من الاحتياجات التغذوية الأساسية؛ إذ تغيب حليب الرضع وأغذية الأطفال والخضروات والفواكه والطعام الطازج والبروتينات، وهو ما يطيل أمد الجوع وسوء التغذية لدى الفئات الأشد ضعفًا، خصوصًا الأطفال والنساء والمرضى.

والأخطر أنّ هذه المؤسسة أُنشئت أصلًا كذراع تنفيذية في منظومة القتل الجماعي والتدمير والتجويع القسري التي تُحاصر بها إسرائيل سكان غزة، فلم تكن يومًا أداة إغاثة بل أداة تجويع مُنظَّم تمنح إسرائيل غطاءً قانونيًا لجريمتها، فيما تحوّلت نقاط توزيعها إلى مصائد موت، قُتل وأُصيب فيها آلاف المدنيين خلال الازدحام المفتعل أو بالاستهداف المباشر.

قانونيًا، تظل إسرائيل بصفتها قوة احتلال مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان الغذاء والماء والرعاية الطبية وحماية المدنيين، بما في ذلك النازحين، ولا يجيز لها القانون الدولي بأي حال التنصّل من هذه الالتزامات. غير أن الواقع يُظهر العكس تمامًا: فحشر السكان في هذه المساحات الضيقة ليس سوى امتداد للجريمة نفسها، انتقال جماعي من موت إلى موت، مع محو مفهوم الحماية من أساسه، وتحويل هذه المناطق إلى مسرح للقتل، إمّا مباشر بالقصف أو بطيء بالتجويع والحرمان، تحت عنوان كاذب بـ"المناطق الآمنة" الذي اختار العالم أن يتعامى عن زيفه.

  • الاحتلال تحدث عن تجهيز ما يسميها "مناطق إنسانية" لنقل السكان إليها. هل رصدتم أي خطوات عملية وإقامة مخيمات بهذا الاتجاه؟ وهل هناك مخاوف لديكم من أن تكون هذه الخطوة مقدمة لعمليات تهجير قسري أوسع؟

رصدنا في الآونة الأخيرة دفعًا متزايدًا في الخطاب الرسمي الإسرائيلي نحو إقامة ما يسمّونه "المنطقة الإنسانية" فوق أنقاض جزء من رفح، وفق الصيغة التي طرحها وزير الجيش يسرائيل كاتس. وهذه الخطة في حقيقتها تهدف إلى إنشاء مراكز اعتقال جماعي ومعازل عِرقية (غيتوهات)  يُحتجز فيها الفلسطينيون داخل نطاق جغرافي ضيّق غير صالح للسكن والبقاء، خاضعٍ لرقابة عسكرية إسرائيلية كاملة، مع حرمانٍ من حرية التنقّل ومن الوصول المستقل إلى الغذاء والرعاية الصحية وسائر مقوّمات الحياة ولأجل غير محدّد. هذا النموذج يجسّد إحدى أوضح صور الإبادة الجماعية؛ إذ إنّ إخضاع جماعةٍ محميّة عمدًا لظروف معيشية مُهلكة يُقصد بها تدميرها كليًا أو جزئيًا لا يمكن تبريره تحت لافتة "إجراء أمني" أو "حل مؤقّت"، بل هو فرضٌ بالقوة لواقع ديموغرافي جديد يخدم مشروعًا استعماريًا يستهدف محو الوجود الفلسطيني في القطاع وإحلال مستوطنين مكانه.

ووظيفة هذه المعازل ليست "إدارة الحياة" داخل نطاق مغلق، بل جعل البقاء نفسه مستحيلًا، دفع الناس إمّا إلى الفناء البطيء داخلها، أو إلى الترحيل القسري خارج وطنهم. أي باختصار ستكون هذه المنطقة في حال فرضها، إمّا محطة موت وإمّا محطة ترحيل.

ولمنع أيّ لُبس، هذا لا يعني أنّ جريمة النقل القسري لم تقع بعد أو أنّ تحققها مشروط فقط بسيناريو "معسكر الاعتقال" في رفح؛ فإسرائيل ارتكبتها فعليًّا بحقّ الغالبية الساحقة من سكّان قطاع غزّة حين دفعتهم قسرًا إلى النزوح الداخلي بلا أيّ مسوّغ قانوني، وفي ظروف تناقض تمامًا الاستثناءات الضيّقة التي يجيزها القانون الدولي. والجريمة هنا اكتملت أركانها من الناحية القانونية؛ إذ لا يُشترط لوصفها أن تكون دائمة أو أن تجري خارج حدود الوطن. ومع ذلك، فإنّ هذا المخطّط يمثّل تصعيدًا أشدّ خطورة، بالدفع نحو تهجيرٍ خارجي واقتلاعٍ دائم للسكان الفلسطينيين من وطنهم. 

  • على الصعيد الصحي، ما هو الوضع الراهن في القطاع من حيث عدد المستشفيات العاملة والمتوقفة عن الخدمة؟ وكيف تصفين الظروف داخل المراكز الصحية التي ما زالت قائمة؟

تدمير النظام الصحي في غزة لم يكن أثرًا جانبيًا للحرب، بل هدفًا مركزيًا لعدوان الإبادة الجماعية، قصدت منه إسرائيل حرمان السكان من أي فرصة حقيقية للنجاة أو العلاج، وتحويل كل إصابة أو مرض إلى حكم بالإعدام. حيث رصدنا منذ بداية العدوان على القطاع، قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي على نحو منهجي وواسع النطاق جميع مكونات القطاع الصحي وبنيته التحتية، دون استثناء، بما في ذلك المستشفيات والمراكز الصحية والطواقم الطبية وسيارات الإسعاف، بما يشمل شن هجمات عسكرية مباشرة ضدها بشكل متكرر، واقتحامها، وتدمير أقسامها وأجهزتها الطبية، وقتل واعتقال وتعذيب كوادرها الطبية، فضلا عن قطع الإمدادات الطبية الأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية على نحو شبه كامل، وذلك بفعل الحصار غير القانوني الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، والذي تتحكم من خلاله بكل ما يدخل القطاع نوعًا وكمًّا.

وبناءً على أحدث الأرقام المتوفرة لدينا، يعمل في قطاع غزة 18 مستشفى فقط من أصل 36، منها واحد بشكل كامل و17 بشكل جزئي، وتتوزع كالتالي: مستشفى واحد في شمال غزة، 11 في مدينة غزة، 3 في دير البلح، 3 في خانيونس، ولا يوجد أي مستشفى عامل في رفح. أما المستشفيات الميدانية، فـ10 من أصل 16 تعمل بشكل جزئي، بينها واحد في غزة، 4 في دير البلح، 4 في خانيونس، وواحد في رفح، في حين لا يعمل أي منها في شمال القطاع. وبالنسبة لمراكز الرعاية الصحية الأولية، فـ69 من أصل 174 تعمل (واحدة بشكل كامل و68 بشكل جزئي).

أما فيما يخص الظروف داخل المراكز الصحية القليلة التي ما زالت قائمة في غزة، فهي مأساوية ومهددة بالانهيار الكامل، وسط اكتظاظ يفوق قدرتها الاستيعابية بأضعاف، حيث يرقد الجرحى على الأرض في الممرات. الأطباء والكوادر الطبية مرهقون ويعملون بلا طعام أو راحة تقريبًا، فيما تعاني المستشفيات من نقص شبه كامل في الأدوية والمستلزمات وحتى أبسط أدوات التعقيم. كما أن الكهرباء والوقود شبه منقطعين، ما يعطل المولدات ويجبر الأطباء على إجراء عمليات في ظلام أو تحت ضوء الهواتف. أما أقسام العناية المكثفة غير قادرة على استيعاب الحالات الحرجة، والأطفال في الحضّانات يعيشون تحت تهديد مستمر بسبب نفاد الأوكسجين والوقود. فوق ذلك، لا يُنظر إلى هذه المراكز كملاجئ آمنة؛ بل كثيرًا ما تُحاصر بالدبابات أو تُقصف محيطاتها، ما يزيد الرعب لدى المرضى وأسرهم. وباختصار، ما تبقّى من النظام الصحي في غزة يعمل بوضع إسعاف دائم؛ امتدّت الطوارئ إلى الممرّات، والقرار اليومي صار فرز من تُنقَذ حياته ومن لا تتوفّر له فرصةُ علاج.

أما قانونيًا، تُعدّ المستشفيات والكوادر ووسائط النقل الطبية أعيانًا ذات حماية خاصة بموجب القانون الدولي الإنساني، ولا تفقد هذه الحماية إلا عند استخدامها خارج وظيفتها الإنسانية لإحداث ضرر بالعدو وبعد إنذار مسبق بمهلة معقولة للتوقف، مع بقاء مبادئ التمييز والتناسب والاحتياطات سارية. توجيه هجمات متعمّدة ضد مستشفى أو طواقمه/معداتِه يُعد جريمة حرب، وكذلك عرقلة الإغاثة الطبية أو حرمان السكان من الوقود والدواء بما يحول دون الرعاية الأساسية.

وهذه الأفعال، حين تُرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد السكان المدنيين ومع علم القائمين به، تُشكّل جرائم ضد الإنسانية (كالقتل والاضطهاد والأفعال اللاإنسانية التي تُحدث معاناة شديدة أو أذًى جسديًا أو نفسيًا جسيمًا، وفق المادة 7 من نظام روما). واقترانها بنيّة تدمير جماعة فلسطينيي غزة كليًا أو جزئيًا يُدرِج الحرمان المتعمّد من العلاج ومن شروط البقاء ضمن أفعال الإبادة الجماعية كما حدّدتها اتفاقية 1948 ونظام روما الأساسي. 

  • في الذكرى السنوية الثانية للحرب، تبرز جرائم استهداف الصحفيين، مثل مجزرة خيمة الجزيرة، أو الصحفيين في مستشفى ناصر. هل أجرى المرصد تحقيقات مستقلة في هذه الانتهاكات؟ وما أبرز النتائج والأرقام التي توصلتم إليها بشأن استهداف الصحفيين؟

نعم، أجرى فريقنا سلسلة تحقيقات ميدانية ومكتبية مستقلة في حوادث استهداف الصحفيين منذ الأيام الأولى لجريمة الإبادة الجماعية، شملت مجزرة "خيمة الجزيرة" والاستهداف داخل مجمّع ناصر، واعتمدت على مقابلات وشهادات مباشرة، وتحليل صور وذخائر وأدلة بصرية وصور أقمار صناعية. وقد خلصنا في حالات متكررة إلى عدم وجود أهداف عسكرية قرب مواقع القصف، وإلى أن الصحفيين كانوا مميّزين بوضوح بستر تحمل علامة PRESS، وأن الضربات جاءت دقيقة ومتعمّدة، وأحيانًا وفق نمط "الضربة المزدوجة".

على صعيد الحصيلة، وثّقنا مقتل 232 صحفيًا وعاملًا إعلاميًا في قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، الغالبية العظمى منهم داخل مناطق مدنية أو أثناء أداء عملهم، إلى جانب عشرات الإصابات التي تركت إعاقات دائمة. كما رصدنا حالات اعتقال وإخفاء قسري واستجواب مهين لصحفيين، وتدميرًا واسعًا لمقار قنوات وإذاعات ومطابع وصحف محلية ومعدات، وقصفًا متكررًا لمنازل صحفيين عقب اتصالات تهديد.

وتعتمد السلطات الإسرائيلية، عند تبرير استهداف الصحفيين، على سردية ثابتة تزعم انتسابهم إلى جماعات مسلّحة أو "الاختباء وراء غطاء مدني"، من دون إبراز أدلة محددة قابلة للتحقق المستقل، وترافق هذه الادعاءات حملات تحريض واسعة تُستخدم كأداة لتبرير قتل الصحفيين وتبرئة مرتكبيها، قبل الجريمة وبعدها.

قانونيًا، الصحفيون يُعتبرون مدنيين محميين بموجب القانون الدولي الإنساني، ولا يفقدون هذه الحماية إلا إذا شاركوا مباشرة في الأعمال العدائية. أما التغطية الصحفية البحتة، جمع المعلومات، التصوير، النشر، المقابلات والتحليل، فلا تُعد بأي حال مشاركة مباشرة في القتال، حتى لو تضمنت نقدًا لاذعًا أو كشفًا لانتهاكات جسيمة. ويدخل في هذا الإطار أيضًا إجراء المقابلات أو نشر تصريحات لأشخاص تصفهم بعض الأطراف بـ"الإرهابيين"، إذ يظل ذلك عملًا صحفيًا مشروعًا لا يبرّر استهداف صاحبه.

بناءً عليه، فإن استهداف الصحفيين والمنشآت الإعلامية من دون إثبات مشاركتهم العسكرية يشكّل خرقًا خطيرًا لقواعد الحرب، ويرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل ويُعتبر في سياق غزة فعلًا من أفعال الإبادة الجماعية. فهذا الاستهداف ينفذ لتحقيق أربعة أهداف استراتيجية متكاملة: محو الأدلة والشهود وتقويض فرص المساءلة؛ وترهيب الصحفيين وإسكات من ينقلون الحقيقة؛ وعزل غزة ومنع الرقابة الخارجية؛ وتبييض الجرائم عبر وصم الصحفيين بالمسلحين بعد اغتيالهم. هذه الأهداف تغذّي بعضها بعضًا، وتنتج حلقة متكاملة تكرّس الإفلات من العقاب وتشوه الذاكرة والرواية الفلسطينية.

وبالتالي، فإن استهداف الصحفيين لا يمثل مجرد اعتداء على أفراد، بل هو وسيلة مباشرة لتحقيق القصد التدميري لجريمة الإبادة الجماعية، عبر حرمان الشعب الفلسطيني من صوته وشهوده، واقتلاع ذاكرته الجمعية وروايته التاريخية، وإخفاء الجرائم عن أعين العالم لضمان استمرار التدمير المادي والمعنوي معًا.

  • ما هي تقديراتكم لأعداد المعتقلين من قطاع غزة خلال الحرب؟ وأين يتم احتجازهم؟ وما طبيعة الظروف التي يعيشونها؟ وهل يخضعون لأي مسار قانوني أو محاكمات؟

إجمالًا، نتحدّث عن آلاف من سكّان قطاع غزة اعتُقلوا منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، عبر حملات دهم جماعية على ممرّات التهجير والحواجز، ومن المنازل ومراكز الإيواء والمستشفيات. المئات منهم أُخذوا من دون إبلاغ عائلاتهم أو إدراج أسمائهم في سجلات رسمية، ومع امتناع السلطات الإسرائيلية عن الإفصاح عن أماكنهم أو أوضاعهم يُعدّ هؤلاء عمليًا وقانونيًا مخفيّين قسرًا.

عادةً يُنقل المعتقلون أولًا إلى مواقع عسكرية ومراكز احتجاز ميدانية في جنوب القطاع (أبرزها قاعدة سدي تيمان وما يماثلها)، ثم تُحوَّل أعداد كبيرة إلى سجون داخل إسرائيل مثل كتسيعوت/النقب، ونفحة، ورامون، وشيكما. وفي المراحل الأولى يُحتجز كثيرون في خيام أو حاويات وعنابر مؤقتة تحت إدارة عسكرية مباشرة.

ويتعرّض الأسرى والمعتقلون من القطاع في مراكز التحقيق والاحتجاز لتعذيب ومعاملة لا إنسانية على نحوٍ منهجي وواسع. وتتكرّر أنماط الانتهاك بصورة متشابهة لدى جميع الفئات، بما في ذلك الأطفال والنساء: تكبيل دائم، وتعصيب للعينين لساعات طويلة، وإهانات ووضعيات مُذلّة، منعٌ للنوم، وتجريدٌ من الملابس أحيانًا، يرافقها اعتداءات جسدية وجنسية ونفسية وتهديد للأقارب. ويُضاف إلى ذلك نقص حاد ومدروس في الرعاية الطبية، وتأخير متعمد نقل الحالات الخطرة، وحرمان من الأدوية المزمنة، ضمن بيئات احتجاز مكتظّة وغير صحية تُفضي إلى التهابات وأمراض جلدية، مع تجويعٍ منهجي وكميات غير كافية من الطعام والماء، وبالتوازي مع قيود مشدّدة على تواصل العائلات والمحامين وحرمان شبه تام من الرقابة المستقلّة.

وقد وثقنا مقتل عشرات الفلسطينيين من قطاع أثناء التحقيق والاحتجاز أو بعد الإفراج مباشرةً نتيجة التعذيب وسوء المعاملة والإهمال الطبي، شملت أطباء وعاملين صحيين أيضًا. 

أما على صعيد الإجراءات، يُحتجز كثيرون من معتقلي القطاع بدون محاكمات أو تهم، ويجري تمديد اعتقالهم لفترات غير محدودة، ومن تُقدَّم بحقهم لوائح، تُنظر قضاياهم غالبًا أمام محاكم عسكرية بإجراءات تفتقر إلى مقومات المحاكمة العادلة (سرّية ملفّات، ومحدودية الاطلاع والدفاع، وجلسات عبر الفيديو، واعترافات منتزعة).

كما يستخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي على نطاق واسع "قانون حبس المقاتلين غير الشرعيين" (2002) وما أُدخل عليه من تعديلات طارئة بعد تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 ليُبقي مئات المعتقلين من غزة رهن الاحتجاز المطوَّل من دون لوائح اتهام أو محاكمة، وبالاستناد إلى "مواد سرّية" لا يطّلع عليها المعتقل أو محاميه. تسمح التعديلات باحتجاز الشخص أسابيع من دون أمر اعتقال رسمي، وتأجيل رقابة القاضي الأولى حتى 75 يومًا، ومنع اللقاء بالمحامي لمدد قد تصل إلى 180 يومًا، مع إمكان التمديد المتكرر، ما يضع المعتقلين فعليًا في حبس انفرادي خارج أي ضمانات إجرائية حقيقية. هذه المنظومة تحرمهم عمليًا من الحماية الواجبة بموجب اتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة والبروتوكول الأول (فلا يُعاملون كأسرى حرب ولا كأشخاص محميين مدنيين)، وتفتح الباب لانتهاكات جسيمة للحق في الحرية والأمان والدفاع والمحاكمة العادلة.

اقرأ/ي: كُنت قريبًا من الموت.. الطبيب محمد أبو سلمية يستذكر الاعتقال واقتحام مجمع الشفاء

كُنتُ في سديه تيمان | شهادة الطبيب عصام أبو عجوة

الاعتداءات الجنسية في معتقل سديه تيمان.. ماذا روى الضحايا عن العنف الجنسي؟

حوار | المحامية نادية دقة: السجون تشهد تجريدًا للأسرى من إنسانيتهم

  • بعد عامين على الحرب، هل وجدتم أي استجابة ملموسة من المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية) لفتح تحقيقات أو محاسبة المسؤولين الإسرائيليين؟

بعد مرور عامين على جريمة الإبادة الجماعية في غزة، لا يمكن القول إنّ ثمة استجابة ملموسة وفعّالة من المؤسسات الدولية تتناسب مع حجم الجرائم المرتكبة. فالأمم المتحدة، عبر أجهزتها المختلفة، أصدرت سلسلة تقارير وبيانات من لجان التحقيق الدولية والإجراءات الخاصة التابعة لمجلس حقوق الإنسان، بما في ذلك المقررين الخواص، والتي خلصت إلى أنّ إسرائيل ارتكبت بالفعل جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، إلى جانب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. غير أنّ هذه المخرجات، على أهميتها القانونية والتوثيقية، لم تُترجم إلى تدابير عملية لحماية المدنيين أو لمحاسبة الجناة.

على صعيد القضاء الدولي، فقد نظرت محكمة العدل الدولية في الدعوى المقامة من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وأقرت منذ كانون الثاني/يناير 2024 بوجود خطر حقيقي ووشيك من ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. وبناءً على ذلك، أصدرت المحكمة سلسلة من التدابير التحفظية ألزمت إسرائيل بوقف الأعمال التي قد تشكل أفعال إبادة جماعية، وضمان وصول المساعدات، ومنع خطاب التحريض. ومع ذلك، فإن هذه الأوامر لم تُنفّذ فعليًا، إذ لا تمتلك المحكمة أي آلية تنفيذية ذاتية، ويظل إنفاذ قراراتها مرهونًا بإرادة مجلس الأمن الدولي. وهناك، يعطّل "الفيتو الأميركي، على الأقل، أي محاولة لتفعيل آلية إنفاذ فعّالة، بما في ذلك ما يُفترض أن يوفره الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة من أدوات إلزامية. 

وفيما يخص المحكمة الجنائية الدولية، وبعد سنوات من المماطلة والتقاعس، أصدرت الدائرة التمهيدية مذكرتي إلقاء قبض بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، على خلفية مسؤولياتهما عن جرائم ارتُكبت على أراضي دولة فلسطين منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، من بينها جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب حرب، والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وأفعال لا إنسانية أخرى، فضلًا عن المسؤولية عن توجيه هجمات متعمدة ضد السكان المدنيين. إلا أنّ المحكمة لم تُدرج حتى اللحظة جريمة الإبادة الجماعية ضمن نطاق الملاحقات، ولم تُفتح تحقيقات مخصّصة بالاتساع والوتيرة اللذين تقتضيهما طبيعة الجريمة. فضلًا عن أنّ المحكمة، في جميع الأحوال، تفتقر إلى ذراع تنفيذية، بما في ذلك لتنفيذ مذكرات إلقاء القبض، وتعتمد بالكامل على تعاون الدول الأطراف في ميثاق روما، وهو تعاون مثقَل بحسابات سياسية ومعايير مزدوجة.

النتيجة النهائية أنّه، ورغم وفرة الأدلة القانونية، والقرارات القضائية، ومذكرات التوقيف الصادرة، فإن المشهد العملي لم يتغيّر. إسرائيل تواصل ارتكاب الجرائم ذاتها بلا عوائق، والضحايا ما زالوا يُقتلون ويُهجّرون ويُحرمون من أبسط مقومات الحياة، فيما تبقى المنظومة الدولية أسيرة عجزها البنيوي وإرادة القوى المهيمنة. وهكذا يتعمّق واقع الإفلات من العقاب كسياسة مقبولة دوليًا، تحصّن الجناة وتضاعف معاناة الضحايا، وتترك الشعب الفلسطيني بلا حماية حقيقية ولا أفق للعدالة.

اقرأ/ي: ما هو المقترح الكولومبي للجمعية العامة؟ وهل ستدعمه دولة فلسطين؟

  • كيف تقيّمون المواقف الدولية، خاصة الأوروبية والأميركية، تجاه استمرار الحرب؟ وهل لاحظتم تغيرًا في الخطاب أو السياسات مقارنة بالعام الأول؟

يمكن الجزم بأن المواقف الدولية، وخاصة الأوروبية والأميركية، ما تزال محكومة بمعادلة ثابتة: انحياز سياسي وأمني لإسرائيل يقابله غيابٌ لأدوات إنفاذ جدّية لقواعد القانون الدولي. وفّرت الولايات المتحدة منذ البداية غطاءً سياسيًا ودبلوماسيًا كاملًا عبر تعطيل القرارات الملزِمة واستمرار تزويد إسرائيل بالسلاح والذخيرة والدعم الاستخباراتي، بما يجعلها شريكًا مباشرًا في استمرار الجريمة. ومع عودة إدارة ترامب اتّسع هذا الانحياز صراحةً واتخذ طابعًا عقابيًا تجاه الفاعلين العاملين على المساءلة، بما في ذلك استهداف الهيئات والشخصيات المرتبطة بالعدالة الدولية.

أوروبيًا بقي المشهد منقسمًا على خطوط واضحة. محور تقوده دول مثل ألمانيا والنمسا وعدد من دول شرق أوروبا حافظ على دعم سياسي وأمني لإسرائيل مع استمرار تعاون عسكري متفاوت. ومحور آخر رفع منسوب النقد وتبنّى خطوات رمزية أو قطاعية تمثّلت في اعترافات وطنية بدولة فلسطين لدى بعض الدول، ومطالبات بتقييد صادرات السلاح، وإجراءات محدودة مثل تعليق تراخيص أو فرض عقوبات على مستوطنين ووزراء إسرائيليين متطرفين.

أمّا فرنسا فاعترفت رسميًا بدولة فلسطين وشدّدت لهجتها وصوّتت لوقف إطلاق النار ودافعت عن استقلالية المحكمة الجنائية الدولية واتخذت خطوات إنسانية ودبلوماسية، لكنها لم تتحوّل إلى حظر سلاح شامل أو قطيعة أمنية واقتصادية، لكنّها لم تترجم الاعتراف إلى إجراءات ردعية أو أدوات ضغط ملموسة لتغيير السلوك الإسرائيلي.

وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي كمنظومة، حال الانقسام دون بلورة سياسة موحّدة تمتلك أدوات ضغط فعلية (لم يُقرّ حظر سلاح أوروبي جماعي ولم تُجمّد اتفاقية الشراكة)، فاكتفى الاتحاد ببيانات عامة ومواقف خطابية، وهو ما جعل الأثر الفعلي على مسار جريمة الإبادة الجماعية شبه معدوم.

في بريطانيا، ارتفعت النبرة وتزايدت الإشارات القانونية والسياسية، وقرّرت الحكومة الاعتراف بدولة فلسطين، وأصدرت بيانات مشتركة تدعو لوقف التصعيد وفتح المساعدات الإنسانية. لكن هذا التحوّل لم يُترجَم بعد إلى منظومة أدوات قسرية متماسكة: لم تُعلَن سياسة تعليق أو تجميد شامل للتعاون العسكري، ولم تضع لندن ربطًا صارمًا بين العلاقات الأمنية أو الاقتصادية والامتثال لأحكام القانون الدولي أو قرارات المحاكم الدولية.

ليما بسطامي: تدمير النظام الصحي في غزة لم يكن أثرًا جانبيًا للحرب، بل هدفًا مركزيًا لعدوان الإبادة الجماعية، قصدت منه إسرائيل حرمان السكان من أي فرصة حقيقية للنجاة أو العلاج، وتحويل كل إصابة أو مرض إلى حكم بالإعدام

لكن كل ما سبق يجري على هامش الإبادة الجماعية ولا يمسّ صميمها؛ فما تحتاجه طبيعة الجريمة هو انتقالٌ من "لغة الموقف" إلى "لغة الإكراه المشروع"، عبر فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية على إسرائيل، بما يشمل الحظر الشامل لتصدير الأسلحة إليها أو قطع الغيار أو البرمجيات أو المنتجات ذات الاستخدام المزدوج، أو شرائها منها، ووقف كافة أشكال الدعم والتعاون السياسي والمالي والعسكري والاستخباراتي والأمني المقدمة لإسرائيل فورًا، بما في ذلك تجميد الأصول المالية للمسؤولين السياسيين والعسكريين المتورطين في الجرائم ضد الفلسطينيين، وفرض حظر على سفرهم، وتعليق عمل شركات الصناعات العسكرية والأمنية الإسرائيلية في الأسواق الدولية، وتجميد أصولها في المصارف الدولية، إضافة إلى تعليق الامتيازات التجارية والجمركية والاتفاقيات الثنائية التي تمنح إسرائيل مزايا اقتصادية تُسهِم في تمكينها من مواصلة ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني. كما يجب على هذه الدول ضمان مساءلة ومحاسبة المسؤولين الإسرائيليين وكافة المتورطين في هذه الجرائم أمام المحاكم الدولية والوطنية المختصة.

بالتوازي، يجب على جميع الدول العمل فورًا على إنهاء الأسباب الجذرية لمعاناة الشعب الفلسطيني واضطهاده على مدار 78 عامًا، بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي المفروض على الأراضي الفلسطينية، وتفكيك نظام العزل والفصل العنصري المفروض ضد الفلسطينيين، والانسحاب الكامل للوجود الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967، ورفع الحصار غير القانوني عن قطاع غزة، وضمان حق الفلسطينيين في العيش بحرية وكرامة وتقرير المصير وفقًا للقانون الدولي، والعمل وكفالة حق الضحايا الفلسطينيين في التعويض والانتصاف.

الكلمات المفتاحية

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن


الأونروا لـ"الترا فلسطين": الوضع في غزة ما زال كارثيًا وما يدخل من مساعدات نقطة في بحر

الأونروا لـ"الترا فلسطين": الوضع في غزة ما زال كارثيًا وما يدخل من مساعدات نقطة في بحر

أوضح عدنان أبو حسنة أن كمية المساعدات التي دخلت منذ وقف إطلاق النار زادت نسبيًا، لكنها لا تمثل سوى نقطةٍ في بحر الاحتياجات


خاص | علي بركة: مضطرون لملء الفراغ الحكومي في غزة وننتظر دعوة مصرية لحوار فصائلي

خاص | علي بركة: مضطرون لملء الفراغ الحكومي في غزة وننتظر دعوة مصرية لحوار فصائلي

القيادي في حماس علي بركة لـ"الترا فلسطين": نحن في مرحلة انتقالية في قطاع غزة، مضطرون أن نملأ الفراغ حتى يتم تشكيل إدارة جديدة مستقلة.


حوار | محمد أبو سلمية: نمر بالواقع الصحي الأسوأ على القطاع منذ بدء حرب الإبادة الجماعية

حوار | محمد أبو سلمية: نمر بالواقع الصحي الأسوأ على القطاع منذ بدء حرب الإبادة الجماعية

الطبيب محمد أبو سلمية لـ"الترا فلسطين": الاحتلال يستخدم أسلحة لا نعرفها تمامًا، ونطالب بالكشف عن هذه الأسلحة، وأن تأتي فرق دولية للكشف عن هذه الأسلحة وعمل تحاليل لها

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
تقارير

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن
مقابلات

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن


مركز غزة: مليوني فلسطيني بالقطاع يعيشون كارثة إنسانية تتفاقم يوميًا مع اقتراب الشتاء
أخبار

الإعلام الحكومي: 288 ألف أسرة بغزة لا تملك أبسط مقومات الحياة

قطاع غزة يحتاج 300,000 خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأساسي للسكن الإنساني.

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"
أخبار

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"

في 10 شباط/فبراير، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس نقل صلاحية صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى إلى مؤسسة "تمكين"، تحت عنوان "إصلاح النظام المالي" واستعادة المساعدات الدولية المعلّقة

الأكثر قراءة

1
تقارير

اغتصاب وتعذيب جنسي.. محرّرو غزة يروون لـ"الترا فلسطين" فظائع السجون


2
تقارير

الجبهة الديمقراطية لـ"الترا فلسطين": مصر عرضت على الفصائل خطّة من 5 بنود وهذه تفاصيلها


3
تقارير

داخل صندوق أسود: هكذا تُدار الدبلوماسية الفلسطينية


4
تقارير

خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة


5
راصد

توني بلير.. سيرة إداري للإيجار