حين يصبح الخبز أمنية: غزة تتضور جوعًا
12 أبريل 2025
في نهاية شهر آذار/مارس الماضي، دوّى إعلانٌ صادمٌ في أوساط المواطنين شمالاً وجنوبًا في قطاع غزة: المخابز المدعومة من برنامج الغذاء العالمي أغلقت أبوابها بالكامل بعد نفاد الإمدادات الأساسية اللازمة لإنتاج الخبز، وعلى رأسها الدقيق والوقود.
المخابز المدعومة شكّلت في الأشهر القليلة الماضية طوق نجاة حقيقي للكثير من العائلات، فقد كانت تُنتج الخبز يوميًا ويتم بيعه بسعر رمزي للغاية لا يتجاوز قدرة المواطنين، وهو ما ساهم ولو جزئيًا في تخفيف حدة الجوع
هذا الأمر كان إنذارًا جديدًا يضاف إلى سلسلة التحذيرات المتصاعدة من مجاعة تقترب سريعًا من حياة الغزيين، فالمخابز كانت تشكل أحد الأعمدة الأخيرة التي يستند إليها المواطن في مواجهة الجوع والعوز المتفاقمين بعد أكثر من عام ونصف من الإبادة والحصار.
يقول محفوظ عجور، صاحب "مخابز كامل عجور"، إن المخابز المدعومة شكّلت في الأشهر القليلة الماضية طوق نجاة حقيقي للكثير من العائلات، فبرنامج الغذاء العالمي كان يموّل هذه المخابز بما تحتاجه من دقيق ووقود، فيُنتج الخبز يوميًا ويتم بيعه بسعر رمزي للغاية لا يتجاوز قدرة المواطنين، وهو ما ساهم ولو جزئيًا في تخفيف حدة الجوع.
ويضيف عجوز: "كنا نوزع ربطات الخبز بشكل يومي تقريبًا كمبادرات إغاثية عاجلة، وكان الناس يجدون شيئًا يسدّون به رمقهم، ويُشعرهم أن هناك من لا يزال يفكر فيهم وسط هذا الركام".
والآن، تغيّرت المعادلة بالكامل، فمع توقف التمويل، وغياب الدقيق، وندرة الوقود، أصبحت المخابز عاجزة تمامًا عن العمل. ويوضح محفوظ عجوز أن "المسؤولية الآن باتت ثقيلة جدًا على المواطن، فلم يعد هناك مكان يشتري منه خبزًا بثمن مقبول، وأسعار الدقيق أصبحت خيالية، ووصلت لمستويات لم نكن نتصورها".

وأشار إلى أن العائلات تبحث عن حفنة طحين فقط من أجل أن تعجنها وتخبزها بأي وسيلة متاحة، فقط لتطعم أبناءها، "لقد تحوّل الخبز من سلعة أساسية إلى حلم يومي" أضاف عجوز.
ولم تكن المخابز مجرد مصدر للخبز، بل كانت أيضًا مصدرًا للرزق، إذ يُبيِّن محفوظ عجوز أن مخبزه كان يوفر فرص عمل لأكثر من 160 عاملًا كل واحد منهم يعيل أسرة، وبعضهم كان المعيل الوحيد لأطفاله. ويقول: "الإغلاق لا يعني فقط توقف إنتاج الخبز، بل أيضًا انقطاع رزق هؤلاء، وزيادة عدد الجياع والمحرومين في مجتمع بات فيه الفقر هو القاعدة لا الاستثناء".

ويضيف عجوز: "لا نزال نبذل كل جهد مستطاع، هناك تواصل دائم مع منظمات دولية ومحلية لمحاولة استئناف النشاط، ولو بشكل جزئي، المخبز جاهز للعمل فورًا إذا توفرت المواد الأساسية، ونحن مستعدون لأن نواصل خدمة الناس ونقف معهم في هذه المحنة، فهذه ليست أزمة خبز فقط، هذه أزمة مجتمع بأكمله يترنّح تحت الحصار والجوع."
وتؤكد جولييت توما، مديرة الاتصالات في وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، أنه بعد مرور ستة أسابيع على الحصار الذي تفرضه إسرائيل ومنعها دخول المساعدات والإمدادات التجارية، نفد مخزون المواد الغذائية تقريبًا، وأغلقت المخابز أبوابها، وانتشر الجوع، "وهذا يعني أن الرضع والأطفال يذهبون إلى الفراش جائعين" وفق قولها.
وعلى بعد أمتار من حيث كان مخبز عجور يعجّ بالحياة، تجلس السيدة سمر ياسين (31 عامًا)، على كرسي بلاستيكي متآكل، أمام موقد نار صغير يفوح منه دخان كثيف، وتقول: "لم أعد أتنفس إلا دخان الحطب، حياتي انحصرت في العجن والخبز والتفتيش عن حطب أو نايلون كي أشعل النار، قبل أشهر فقط، كنت أشتري الخبز بسعر بسيط من المخبز، وأعود به لأطفالي دون عناء. أما الآن، فأنا أقضي يومي كله ألهث خلف لقمة العيش".

فقدت سمر زوجها قبل عامين، وهي اليوم المعيلة الوحيدة لطفليها، ومن بين تفاصيل الحرب والحصار، تبرز أزمة الخبز كمأساة منفصلة تزيد من كاهلها الثقيل. تحكي سمر: "طفلي البالغ من العمر ثمانية أعوام أصبح كأنه رجل، أرسله كل صباح ليجمع لي قطع الحطب أو النايلون من الشوارع، وأبقى قلبي معلقًا بين أصابعي وأنا أتابع تأخّره وسط القصف والخوف، لا أريده أن يموت لكنه يساعدني في مهمة لا يمكنني وحدي إنجازها."
وتشير إلى طفلها الآخر الذي لم يتجاوز الخامسة قائلة: "حتى هذا الصغير أحمله معي لطوابير المياه، الخبز والماء أصبحا معركتين يوميتين. لم أعد أفكر إلا في كيف أوفّر قوت يومنا، هذا ما آلت إليه حياتي، ولم أعد أملك أي طاقة للصبر".
وتقول سمر إنه في حال استمرَّ هذا الوضع دون حل، فإن الدقيق سيتوقف تمامًا، وستتوسع المجاعة لدرجة لا يمكن السيطرة عليها، وتضيف: "نحن الآن على حافة الهاوية، والوقت يضيق أمامنا".
وبحسب منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة سيغريد كاغ، فإن أكثر من 60 ألف طفل دون سن الخامسة في قطاع غزة يعانون من سوء التغذية.
والآن، أصبح الكثير من الشبان الذين كانوا يعملون في المخابز أو في نقل الدقيق أو توزيع الخبز عاطلين عن العمل، وبعضهم اضطر للجوء إلى أعمال عشوائية أو خطيرة فقط ليجلب لقمة لبيته.
وقد برزت أيضًا ظاهرة "الخبز البديل"، حيث بدأ الناس يصنعون الخبز من مكونات غير تقليدية، مثل العدس المطحون أو الحبوب المطحونة يدويًا، في محاولات بدائية للبقاء على قيد الحياة. وفي مشهد آخر لا يقل مأساوية، بدأت بعض العائلات باللجوء إلى أفران الطين التي تحتاج إلى جهد كبير وتكلفة يومية للحصول على الحطب، ما جعل إنتاج الرغيف اليومي عبئًا ماليًا جديدًا يضاف إلى قائمة المعاناة.
برزت أيضًا ظاهرة "الخبز البديل"، حيث بدأ الناس يصنعون الخبز من مكونات غير تقليدية، مثل العدس المطحون أو الحبوب المطحونة يدويًا، في محاولات بدائية للبقاء على قيد الحياة
ويعاني المُحاصَرون في غزة من أزمة مركبة، تتمثل في شحّ المواد الأساسية، وارتفاع جنوني في الأسعار، وانقطاع شبه تام للدخل، مع انهيار القطاع الصحي، وتعطل شبكات المياه والكهرباء، وانعدام الأمن الغذائي، وفي قلب هذه الأزمة، تأتي أزمة الخبز كونه المكون الرئيسي في طعام العائلة.
ويؤكد المكتب الإعلامي الحكومي أن أكثر من 50 فلسطينيًا في قطاع غزة، غالبيتهم أطفال، فارقوا الحياة بسبب الجفاف وسوء التغذية. وهكذا يتضح أن أزمة الخبز في غزة تجاوزت كونها مشكلة غذائية، لتتحول إلى كارثة مجتمعية تمس كل بيت وكل إنسان، من الطفل الذي يحمل جالون الماء، إلى الأم التي تخبز تحت لهيب الشمس والدخان، إلى العامل الذي فقد عمله، وصاحب المخبز الذي أُجبر على إغلاق بواباته.
الكلمات المفتاحية

الاحتلال يلاحق الصحفي حسن اصليح ويقتله على سرير العلاج في مستشفىً بخانيونس
استُشهد الصحفي حسن اصليح فجر الثلاثاء داخل مستشفى ناصر الطبي بخان يونس، بعد أن استهدفته طائرة مسيّرة إسرائيلية أثناء تلقيه العلاج من إصابة سابقة

خطة تسوية الأراضي بالضفة الغربية: شرعنة للضمّ وتجريد للفلسطينيين من أراضيهم
قالت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لـ"الترا فلسطين" إن قرار "الكابينيت" بشأن تسوية الأراضي في الضفة الغربية يستهدف "ما تفعله السلطة الفلسطينية من تنظيم وتسوية وتسجيل للأراضي بالضفة".

"ناجون" من حرب السودان تحت نيران الإبادة في غزة
عائلات فلسطينية هربت من الحرب في السودان لتجد نفسها في مواجهة الإبادة في غزة. شهادات شخصية لتجارب مروِّعة، ابتداءً من رحلة الإجلاء الصعبة إلى التحديات اليومية التي يواجهونها

مقتل الشاب رامي الزهران برصاص الأمن الفلسطيني في مخيم الفارعة
قتل عناصر الأمن الفلسطيني الشاب رامي الزهران، صباح اليوم الثلاثاء، بعد إطلاق النار على مركبته في مخيم الفارعة

الاحتلال يلاحق الصحفي حسن اصليح ويقتله على سرير العلاج في مستشفىً بخانيونس
استُشهد الصحفي حسن اصليح فجر الثلاثاء داخل مستشفى ناصر الطبي بخان يونس، بعد أن استهدفته طائرة مسيّرة إسرائيلية أثناء تلقيه العلاج من إصابة سابقة

تقارير: خيبة أمل إسرائيلية بشأن خطة ترامب للتهجير وغضب تجاه نتنياهو بعد الإفراج عن ألكسندر
قالت القناة 12 الإسرائيلية إن "هناك حالة من خيبة الأمل في إسرائيل بشأن التقدم المحرز في تنفيذ خطة ترامب للتهجير في قطاع غزة".

خطة تسوية الأراضي بالضفة الغربية: شرعنة للضمّ وتجريد للفلسطينيين من أراضيهم
قالت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لـ"الترا فلسطين" إن قرار "الكابينيت" بشأن تسوية الأراضي في الضفة الغربية يستهدف "ما تفعله السلطة الفلسطينية من تنظيم وتسوية وتسجيل للأراضي بالضفة".