25-أكتوبر-2019

لا يزال حجب المواقع الإلكترونية هو الموضوع الأكثر جدلاً في المجتمع الفلسطيني هذه الأيام، ويزداد الجدل حوله في ظل الغموض الذي يُحيط بهوية الجهة التي أوصت بحجب المواقع والأسباب التي دعت إلى ذلك، خاصة في ظل موقف الحكومة الرافض للحجب ودعوته بشكل صريح للنيابة العامة والقضاء التراجع عن قرار الحجب، إضافة إلى ما أعلنه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات بأنه ضد الحجب، وأن الرئيس محمود عباس فوجئ بقرار الحجب، وبذلك بدد أي افتراض بأن الرئيس يقف مع الحجب.

كشف الحجب أن حكومة خفية تعمل في ظل الحكومة الرسمية، وكشف عن فشل ذريع في معالجة الأزمة طال غالبية المؤسسات الرسمية الفلسطينية

الخطورة في هذه القضية لا تقتصر فقط على الحجب بما يعنيه ذلك من مس بحرية التعبير، بل كشف الحجب أن حكومة خفية تعمل في ظل الحكومة الرسمية، وكشف عن فشل ذريع في معالجة الأزمة طال غالبية المؤسسات الرسمية الفلسطينية، فقد فشلت حتى هذه اللحظة كل المؤسسات في التعاطي مع أزمة وخيبة حجب المواقع الإلكترونية التي كان قسمٌ منها محجوبًا منذ سنوات، حيث كانت على ما يبدو طلبات الإغلاق تمدد بسلاسة لهذه المواقع دون ضجة، إلى أن قرر الفاعلون فضح أنفسهم بأنفسهم وتوسيع قرار الإغلاق ليشمل مواقع جديدة، ويوصلوا رسالتهم المخفية لمن يهمه أمر الإغلاق، فقد نُشر القرار بعد أربعة أيام من اتخاذه دون أن يتم تنفيذ الحجب، كأن في الأمر رسالة بأننا قررنا الحجب.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | المحكمة الدستورية ستفصل في قرار حجب المواقع

القضاء الفلسطيني كان مرتبكًا من قرار الحجب، فمؤسسات المجتمع المدني ناضلت مطولاً لرفض أن تكون صلاحيات الحجب للنائب العام في النسخة الأولى من قانون الجرائم الإلكترونية، وأصرت أن تكون من صلاحيات المحكمة باعتبارها الجهة القادرة على رقابة أداء النيابة، لكن قرار المحكمة كان مخيبًا للآمال، وخاليًا من أي رقابة على عمل النيابة،  بل أضعف من ثقة الجمهور.

ولم يكن حال المحكمة أفضل حين قررت تحويل المادة 39 من قانون الجرائم الإلكترونية إلى المحكمة الدستورية، مع إبقائها على قرارها بإغلاق المواقع، فانتصرت للتقييد على حساب حرية الصحافة، مع أن الأوْلى حماية حرية التعبير وليس فرض القيود عليها، خاصة في ظل غياب مبرزات حقيقية مقدمة من النيابة تجاه المواقع التي أغلقت، وضعف تلك المبرزات التي قدمتها النيابة متأخرة تجاه موقع الترا فلسطين أثناء نظرها في طلبها بالرجوع عن القرار.

الخيبة الثانية كانت بعدم تدقيق النيابة العامة للقوائم التي قدمتها للمحكمة، ولم ترفق طلبها المقدم للإغلاق بمذكرةٍ إيضاحيةٍ تبين مبررات حجب المواقع الإلكترونية، ثم تشددت بطريقة غير معهودة في الإصرار على طلبها بإغلاق المواقع أثناء جلسات المحاكمة لدرجة أنها طلبت تأجيل إحدى جلسات المحاكمة لعدة ساعات، ليتم إحضار وكيل نيابة أكثر دراية بالموضوع من الوكيل الذي حضر الجلسة في اليوم الأول.

الخيبة الأكبر كانت بما صدر عن رئيسة وحدة الجرائم الإلكترونية من تصريحاتٍ إعلاميةٍ بأن النيابة ستتوجه إلى شركة "فيسبوك" لطلب إغلاق الصفحات التي شملها قرار محكمة الصلح، فهذا الإعلان كان بمثابة خطيئة، لأن شركة "فيسبوك" التي رفضت خلال سنواتٍ مضت الإجابة على طلباتٍ رسميةٍ وُجهت إليها لإغلاق صفحات أزعجت السلطة، لا يستبعد أن تستجيب في هذه المرة للطلب لأنها ستتخلص بذلك من الحرج الذي يصيبها من حملات الاحتجاج التي نظمت خلال الأسابيع الأخيرة من الناشطين والمؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية ضد إغلاق مئات الصفحات لناشطين فلسطينيين بسبب احتجاجاتٍ إسرائيليةٍ عليها.

لا يُستبعد أن تستجيب فيسبوك في هذه المركة لطلب السلطة حجب الصفحات الفلسطينية لتتخلص من الحرج الذي يُصيبها من حملات الاحتجاج مؤخرًا

وكان تقريرٌ أصدره مركز "مدى للحريات الإعلامية" خلال الشهر المنصرم أورد أن شركة "فيسبوك" أقدمت خلال شهر أيلول فقط على إغلاق ما مجموعه 34 صفحة إخبارية وحسابًا خاصًا بصحافيين من الضفة وقطاع غزة يتابعها مئات آلاف الأشخاص، وذلك بدعوى "انتهاك قواعد مجتمع فيسبوك"، علمًا أن قسمًا من هذه الصفحات تم إغلاقها بالكامل فيما تم تحديد الحجب لقسم آخر بمدة شهر واحد فقط، وبذلك ستتلقف شركة "فيسبوك" هذا المطلب وتبرربه سياستها في محاربة المحتوى الفلسطيني وإغلاق صفحات الناشطين، فبذلك نثبت أن خطاب هذه الصفحات "خطاب كراهية وتمييز".

اقرأ/ي أيضًا: المحامي نصرة: حجج النيابة العامة في حظر المواقع "ضعيفة"

الحكومة الفلسطينية كانت ذكية في إبعاد التهمة عنها حين رفضت سياسة الحجب واتخذت موقفًا متقدمًا على النيابة والقضاء، ودعت الجهات التي أصدرت القرار إلى التراجع عنه. لكنها رغم هذا الموقف الإيجابي لم تفعل كل ما عليها، كأن تتأكد أن أجهزة الضبط القضائي تخضع لسلطتها، وأن لا تقدم هذه الأجهزة على أي خطوة لها علاقة بالحريات العامة دون قرار تتلقاه من الحكومة.

يتوجب على الحكومة أيضًا أن تعالج خطيئة الحكومة السابقة في إقرار قانون الجرائم الإلكترونية والبنود التي تتعلق بالحريات العامة خاصة المادة 39 من القانون التي تتيح حجب مواقع إلكترونية دون ضماناتٍ قضائيةٍ عادلة. وعليها أن تسهل إجراءات ترخيص وكالات ومكاتب صحافية، وأن لا يكون أي إجراء ضد أية وسيلة إعلامية إلا بموجب حكم قضائي، فقد كشفت هذه الحادثة الخبث القانوني الفلسطيني في التفريق بين القرار القضائي والحكم القضائي عند إقرار قانون الجرائم الإلكترونية، فالقرار القضائي حسب قانون الجرائم الإلكترونية محصنٌ من الاستئناف، وهذا الدهاء الحكومي في التشريع يجب أن ينصب لصالح الحريات العامة لا ضدها.

القرار القضائي حسب قانون الجرائم الإلكترونية محصنٌ من الاستئناف، وهذا الدهاء الحكومي في التشريع يجب أن ينصب لصالح الحريات العامة لا ضدها

كل الأطراف تخلت عن مسؤوليتها في قضية الحجب، وألقت العبء في حضن المحكمة الدستورية. بكلماتٍ أخرى أراد الكل إلقاء العبء ثانية في حضن الرئيس، لذا يقع على عاتق المحكمة الدستورية أن تسارع في البت في المادة المحالة اليها، فهي لا تحتاج الى جهدٍ طويلٍ للبت بها، فالمادة 27 من القانون الأساسي جاءت واضحة بأنه تحظر الرقابة على وسائل الإعلام، ولا يجوز إنذارها أو وقفها أو مصادرتها أو إلغاؤها أو فرض قيود عليها إلا وفقًا للقانون وبموجب حكم قضائي. فكلمة حكم قضائي واضحةٌ جدًا، ولم تقل قرارًا قضائيًا، وكل حكم قضائي يجب أن يكون قابلاً للاستئناف، فالأصل هو حماية الحقوق والحريات لا تقييدها.

أعتقد أن هذه القضية التي أقامت كل مؤسسات الدولة ولم تقعدها، كشفت الخيبة التي نعيشها في ظل ترهل وضعف النظام السياسي الفلسطيني، وغياب الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية، فقد اعتقد كثيرون أن هذه الأزمة هدفها خلق بيئةٍ محليةٍ غير مناسبةٍ لإجراء الانتخابات.

نعم، لقد كشفت خيبة اعتقاد البعض بأن حجب المواقع هو سلاحٌ يمكن أن يستخدم في هذا الزمان، وهي تعلم أن الحجب لا يتعدى كونه بيع مواقف لا أكثر، فخلف الأكمة ما خلفها.


اقرأ/ي أيضًا: 

في اليوم الأسود.. ناشطون: #الحجب_جريمة

عن موظف الدعم الفني: المقموع والقامع

3 طرق تمكنك من تخطي حجب المواقع