20-يناير-2017

مشهد من فيلم "خمسة أولاد وعجل"..

عن قصة قصيرة للأديب الأميركي "رايموند كارفر" تحمل عنوان "دراجات هوائية وعضلات وسجائر" اقتبس المخرج الفلسطيني الشاب سعيد زاغة قصة فيلمه الروائي القصير "خمسة أولاد وعجل" مُقدّمًا أوّل أعماله السينمائية في (19 دقيقة).

يتناول فيلم المخرج سعيد زاغة، العنف الذي يفرض علينا في مجتمع كل ما فيه يضعك على حافة الفعل العنيف، وتعارض سلوكنا مع قيمنا

في هذه الدقائق القليلة يعرض الفيلم موضوعه العميق جدًا، ببساطة، وجمال وهدوء وشاعرية، يفجِّر خلالها الكثير من القضايا ومنها: العنف الذي يفرض علينا في مجتمع كل ما فيه يضعك على حافة الفعل العنيف، وكذلك تعارض سلوكنا مع القيم التي نحملها ونرى أنّها الطريق الأفضل لمواصلة الحياة، وأحلام الأطفال بامتلاك القوّة أمام حالات التنمر التي يتعرضون لها من أقران لهم في المدرسة والشارع.

كلُّ ذلك يُسرد من خلال قصة مُدرِّس المدرسة (في دور علي سلمان)، الذي يحاول جاهدًا اكتساب ثقة ابنه الصغير بشتى الطرق، وعندما يقع الابن في مشكلة مع الجيران، تتفاقم الأمور، وتخرج عن سيطرة الأب، وتضعه في اختبار لمبادئه وقناعاته وأخلاقه.

الإسقاط السياسي

في مدينة العقبة في الأردن تدور أحداث الفيلم من دون أي محاولة من المخرج لوضع شريطه وقصته المقتبسة في سياقات سياسية أو اجتماعية معينة، فهو يذهب بعيدًا إلى هذه المدينة الساحلية الهادئة نوعًا ما، ربما ليقول أنّ هذا يحدث في أكثر الظروف هدوءًا وراحة، لكن المتلقي العربي وفي حالتنا الفلسطيني لا يمكنه إلا أن يؤطّر هذا الفيلم ويسقطه على حياته وربما نضاله السياسي مع الاحتلال أمام دعوات المقاومة للاعنيفة التي تسود وتنتشر، فهذا ممكن وجائز، وقد نتلقاه خالصًا بموضوعه الاجتماعي التربوي وجمالياته طرح الحكاية البسيطة ذات التأثير الطاغي على تفاصيل حياتنا اليومية.

اقرأ/ي أيضًا: "ببغاء" فيلم يحكي الوجع الفلسطيني

بتكثيف شديد نرى المدرس المؤمن بأفكاره رافضًا ضرب تلميذه الذي مارس الغش مقابل أن يعيده للامتحان، يأخذ ورقته ويحرمه من الامتحان حتى لو قاد ذلك للرسوب، فيما بالخارج ابنه الصغير (طالب نفس المدرسة) يتعارك مع أقرانه، ليقرر معاقبته على طريقته الخاصة.

داخل بيت المُدرّس تدار علاقة الأب والابن بطريقة مختلفة، رفق وتفهم، ومخالصات واتفاقات مسبقة في سبيل بناء علاقة صحية وتربوية، تظهرهما الكاميرا على الدراجة النارية في منتهى الحب والاتفاق رغم تبرمات الطفل من مواقف والده أمام ما يواجهه من تحديات يومية.

لكن الحال يتغير عندما يرى الأب ابنه مهددًا بالضرب بالحذاء من رجل كبير بفعل خلاف مع أحد الأطفال، حيث لا تجدي تأكيداته الهادئة في ضمان حل المشكلة إن كان طفله سببًا فيها، فعراك الأطفال الشقي والبريء انتقل إلى أولياء أمورهم ليتحول الموقف إلى مشاحنات أعمق ومساحة لاختبار القناعات وما نؤمن به في ظل ظروف قاهرة ستدفع الأب إلى "التشمير" عن ساعديه والتنازل عن رباطة جأشه في سبيل حماية ابنه.

إنها حالة خلاف وجدل تحدث يوميًا داخل الأسر، في البيوت والحارات والمدارس، اتهامات متبادلة على قضايا بسيطة، فيما الأهالي ينحازون لأطفالهم حتى لو كانوا مذنبين، وغالبًا ما يتطور الأمر إلى عنف وعنف مضاد، لكن هذا الأستاذ الهادئ المراهن على قيمه وسلوكياته تضطره الظروف إلى ممارسة نقيضها.

يظهر الفيلم بطولة (علي سليمان، نادرة عمران) مفارقات التربية، وسلوكيات الأهل في التعامل مع أطفالهم والرغبة في الانتصار إليهم مهما كانت الظروف والوقائع، فأطراف المشكلة يقرران أن المشكلة سببها ابن المدرس وعليه أن يقدّم تعويضًا عن خراب الدراجة، فيما تفشل كل جمل المدرس الهادئة التي تؤكد أن المشكلة ستُحل، وأنه سيستمع لابنه وإن كان هو سببًا في خراب الدراجة الهوائية فإنه سيدفع ثمنها.

يعيش الأب حالة تناقض بين ما فعله وما يؤمن به، لكنّه يدرك قيمة موقفه عندما يتمنى طفله أن يصبح الأب في عمره أي (12 عامًا) كي يكون رفيقًا ومساندًا له أمام محاولات اعتداء الأطفال عليه في المدرسة والشارع، أو لربما يكون اكتناز القوة وامتلاكها سببًا لابتعاد المشاجرات عن حياتنا.

اقرأ/ي أيضًا: "رجل يعود".. عن المخيم المقبرة وانتحار البشر

في هذا الفيلم يؤكد المخرج سعيد زاغة، من مواليد القدس 1988، أنّه متمكن من أدواته الفنية، ويظهر تمكنه من تحويل قصة أمريكية ترتبط بالواقع العربي كثيرًا، رغم حرصه على عدم وضعها في سياق سياسي فلسطيني، في ضوء قدرته على ذلك. إنه حياد القادر على الانحياز، ربما لتناولة الموضوع اجتماعيًا، أمّا الإسقاط السياسي فهو أمر فيرتبط كثيرًا بالمتلقي.

والجدير ذكره أن المخرج زاغة تخرّج من جامعة كينيون في أوهايو، حيث درس السينما والأدب الإنجليزي، ويعكف حاليًا على كتابة وتطوير فيلمه الروائي الأول الذي يحمل اسم "البنت".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"هبة القدس" على الحيز الإعلاني في فلسطين

فيلم "جرافيتي".. القصة بأبعاد ثلاثة

"غزة سِرف كلوب" عن الأحلام التي تحفر لتحقق ذاتها