10-فبراير-2018

حدث ذلك قبل عامين أو أكثر، في فعالية تطوعية لترتيب استقبال ثلاث أُسر سورية كانت ستصل مدينة بالتمور الأمريكية للاستقرار فيها. التجمع كان في السابعة صباحاً في بيت أحد المتطوعين، والهدف هو فرز التبرعات التي جُمعت للأُسر مسبقاً ما بين ملابس وطعام وأدوات منزلية، صناديق كبيرة من الكرتون البني كلٌ منها معنونٌ للدلالة على محتواه.

كان الجميع يتحركون بسرعة، يتفقدون قطع الملابس وأكياس الطعام وعلبه،  يتأكدون من صلاحيتها أولاً ثم يرمونها في الصندوق الصحيح وهكذا، ما عدا رجلٍ واحد كان يتحرك بشكل أبطأ، يمسك قطع الملابس، يمرر أصابعه عليها بحنوٍ بالغ ليتأكد من خلوها من البقع والثقوب، ثم يُكذب عينيه وأصابعه ويتأكد من زوجته: "منيحة هاي لولد عمره خمس سنين مو؟" توافقه زوجته الرأي فيطوي القطعة بعناية ثم يضعها في الصندوق الكرتوني الذي يتحول فجأة إلى دولاب ملابس في غرفة ما  في بيت ما في دمشق.

لم يكن هناك أي داعٍ لطي الملابس، لأن الأسر لن تستلمها في الصناديق الكرتونية على أي حال، إلا أن إصراره على طي الملابس بعناية كان وراءه كبرياءٌ جميل. يخبرك أنه من دمشق، وأنه مغتربٌ منذ سنوات طويلة قبل الثورة، وأن السوريين ليسوا شحادين، وأن أصدقاءً له خسروا بيوتاً ومزارع وحياة مستقرة من أجل قضية آمنوا بأنها أكبر من كل ذلك.

من السهل أن تتحول قضايا الشعوب، وأن تُختصر مآسيها بتفاصيل مادية بسيطة

من السهل أن تتحول قضايا الشعوب وأن تختصر مآسيها بتفاصيل مادية بسيطة. تتحول الأمور تدريجياً باتجاه كل ما هو ملموس؛ مهما كان بسيطاً وأولياً، وتغيب الشعارات مهما كانت عظيمة، ولا أحد يغضب أو يحتج على هذا التحول، إنها مرحلة جديدة تتمحور حول النجاة.

نعم النجاة.. شكلٌ جديدٌ منها هذه المرة، ننتقل فيه من الحديث عن الحياة التي نرغب بالنجاة إليها، إلى محاولات يومية للنجاة من الموت، ولكن علينا أن لا نقع في فخ هذه المرحلة، وأن لا ننسى أن نهتم بتفاصيل الرغبة بالحياة. فنحن  نعرف جيداً كيف تكون هذه الرغبة لأننا رغبناها بشدة، وها نحن حتى ونحن نحاول النجاة من الموت ومواجهته، لم ننسى أن نقطع على القاتل شماتته بنا وتبخيسه بحكاية موتنا، إذا حاول أن يدعي أننا مجرد جوعى أو مرضى لا يعرفون قيمة الحياة ولا يرغبون بالمزيد منها.

لا أحد يقول لك إن الأناقة مهمة في الثورة ضد نظام طاغية أو جيش احتلال، قد يبدو سخيفاً أن نقولها بشكل مباشر، ولكنك حتماً تحب الصور التي يظهر فيها الشهداء بكامل أناقتهم. والأناقة وإن كانت تتعدى فكرة القمصان الملونة، إلا أن هذه القمصان وتفاصيل أنيقة أخرى تبدو على بساطتها دليلاً قوياً على نبل الفكرة في كونها ليست وليدة حاجة أو مصلحة مادية على أقل تقدير. فرغم كل ما قد تقدمه الحياة للإنسان من مغريات، ورغم أنها كانت ترتب نفسها بشكل مريح وجميل له، إلا أنه أختار الطريق الأصعب وترك وراءه مجموعة صور تذكرنا أنه كان بإمكانه أن يعيش، ولكن أمراً مهماً كان يستدعي ذهابه. هكذا تبدو الآن صور أحمد جرار بربطة عنق حمراء غاية في الأناقة.. غاية في الثورة!

أحب الذاكرة التي تعيدني إلى صوت الرجل السوري  قبل عامين في السابعة صباحاً  وبين صناديق الملابس وأكوامها، كان صوته أنيقاً. أحببت أسئلته وطريقة طيه للملابس، وأحببت عدم استغراب الناس لطيه ملابس كان يمكنه أن يرميها على عجل، أحببت أنهم لم يستعجلوه، لعلهم أدركوا أن حاجته لطيها تفوق حاجة الأطفال لارتدائها! 


اقرأ/ي أيضاً: 

جمالٌ أكثر .. حزنُ أكثر

هكذا يحاول "الشاباك" اغتيال ابتسامة أحمد جرار

السيدة ميشلين والفتاة الملثمة