12-ديسمبر-2016

هذا الفيلم لن يجعل مشاهده يشعر بالراحة أبدًا، إنه يقدم لنا كل ما لا نريد رؤيته ببساطةٍ متقنةٍ يحسد عليها، يغوص عميقًا في مخيمٍ فلسطينيٍ في لبنان، يتتبع شخصيةً واحدةً راصدًا كتلةً من الهموم تعتمل في صدور من فقدوا الأمل والبوصلة أيضًا.

ربما يكون الفيلم القصير للمخرج الفلسطيني مهدي فليفل (30 دقيقة) الأكثر جرأةً فيما يقدمه عن حكاية المخيم الذي أصبح بمثابة المقبرة ومشروع انتحارٍ للذين يعيشون فيه. في الفيلم يمنح المخرج البطولة لشاب عشريني "رضا" العائد من اليونان مدمنًا على المخدرات (الإبر المخدرة)، يعود إلى منزله في المخيم بشخصيةٍ جديدةٍ بعد أن قضى ثلاث سنوات عالقًا هناك، فقد فشل في الحصول على اللجوء والهرب بعيدًا عن المخيم بسبب ما فرضته الثورة السورية من تطوراتٍ عالميةٍ خلقت قيودًا على حركته وأمله بالهجرة.

"رجل يعود" تدور أحداثه في مخيمٍ فلسطينيٍ في لبنان، وهو الأكثر جرأةً فيما يقدمه المخرج الفلسطيني مهدي فليفل

في الفيلم (إنتاج مشترك بين المملكة المتحدة، لبنان، الدنمارك، هولندا) والذي يعرض في مهرجان دبي السينمائي في دورته الـ13 ضمن برنامج المهر القصير، وهو العرض الأول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا نرى شعاراتٍ أو أحاديث وطنيةٍ مستهلكةٍ تجاوزتها الحياة في المخيم، حيث الهموم اليومية هي الشغل الشاغل، والحكاية هنا مع شاب ضائعٍ تمامًا، بعد أن فشل حلم سفره إلى دولةٍ أوروبيةٍ ليعود مهيض الجناح بلا أحلامٍ حقيقيةٍ بل بكل ما يمكن أن يحطم الإنسان.

اقرأ/ي أيضًا: بالفيديو: هذه هيّ القدس.. صح أم خطأ؟

قرار الزواج من رفيقة دربه جاء للهرب من هذا الواقع المرير، رغم أنّ النتيجة قد لا تكون السعادة التي يتمناها. إنه فعل أتوماتيكي يبدو انتحارًا من الزوجة أيضًا، لقطات الفيلم ترصدهما على منصة العرس شاردي التفكير فيما لا مشاعر حقيقيةٍ تشي بها وجوههم.

مخرج عمل "عالم ليس لنا" لا يحاول أن يتلاعب بالصورة ولا يجودها أملاً في أن تكون أكثر وضوحًا، كما لا يحرص على دقة كادراته أو حركة الكاميرا، بل يتحرك في بيئة ضيقة بعفوية، فيما التصوير الليلي يمكننا من التقاط ملامح رضا القاسية وكأنه يعيش في العتمة.

تنقل لنا الكاميرا على لسان رضا وأصحابه كلامًا حقيقيًا من الشارع بلا رتوشٍ أو مونتاجٍ، يمارس فعله في الفضح معريًا حال المخيمات في لبنان، كما أن عصبية رضا تجود بالحالة النفسية التي تسيطر عليه؛ تجعله يشتم حبيبته على الهاتف، ويطلق النار في البيت بعد شجار مع والده.

هذه الواقعية المفرطة تقدم لنا "رضا" ورفاقه متعاطين للإبر المخدرة أمام الكاميرا من دون أي شعور بالذنب، رغم كون البطل يقر أنه يمارس فعلاً خاطئًا، ويؤكد على رغبته في التراجع، لكنه لا يتوقف هنا، بل يربط حياته بالعمل بترويجها أيضًا.

يعري فيلم "رجل يعود" حال المخيمات في لبنان، يقدم الشباب وهم يتحولون إلى وحوشٍ كاسرةٍ عندما يُتركون في الفقر وقلة الحيلة

في الفيلم لا يبدو رضا ورفاقه إلا مشروع شبابٍ منتحر، والمخدرات التي يتعاطاها رضا لن يوقفها حتى بعد زواجه كما يقول. أما السلاح الذي يحمله ويلف به شوارع المخيم، واشتباكاته مع قوات الأمن اللبنانية، ومع قوى وفصائل منافسةٍ تبدو همًا آخر على حياته، بينما يعني الخروج من المخيم اعتقاله لكونه مطلوبًا للأجهزة اللبنانية.

رضا نموذجٌ دالٌ وصادمٌ لا يجعلك تشعر إلا بالخيبة، إنهم الشباب يتحولون إلى وحوشٍ كاسرةٍ عندما يتركون في الفقر وقلة الحيلة، ويهجم عليهم غول الآمال الضائعة بضياع مشروعهم الوطني، وعدم وجود أية قوىً قادرةٍ على احتضانهم.

"رجل يعود" لا تشبه العودة فيه تلك التي نتمناها، إنه عنوانٌ صادمٌ بالمقارنة مع جوهر الفيلم، إنها عودةٌ إلى الجحيم، إلى حيث لا يتمنى أحدٌ أن يكون.

ومهدي فليفل هو مخرج دانماركي من أصول فلسطينية. أسس عام 2010 مع المنتج الإيرلندي باتريك كامبل شركة "نكبة فيلم وركس" التي أنتجت فيلم سيرته الذاتية "عالم ليس لنا" الذي فاز بالعديد من الجوائز في مهرجانات دولية.

اقرأ/ي أيضًا: 

عن الأحلام التي تحفر لتحقق ذاتها

دُور السينما الفلسطينية.. لم يبق إلا الأسماء

نادر العفوري.. الجنون حين يُصبح خلاصًا