منوعات

رحيلٌ بلا وداع.. حكايات الفراق في غزة بعد النزوح

11 فبراير 2025
رحيلٌ بلا وداع.. حكايات الفراق في غزة بعد النزوح.png
أحباب رحلوا بلا وداع، وشهداء نزوح فقدوا حياتهم بعيدًا عن أعين أحبائهم
رانية عطا الله
رانية عطا الله

مع دخول وقف إطلاق النار يومه السّابع، يستعدّ النازحون وسط وجنوب قطاع غزة، للعودة للشمال الذي غادروه مع بدء الحرب. وبينما كان سائد يتوق للقاء زوجته وأطفاله السّتة الذين تركهم خلفه بعد أن أجبره الاحتلال على النزوح للجنوب، يجد نفسه اليوم منتظرً اللحظة التي تمنحه إمكانية الوقوف أمام قبر زوجته، والتحدّث لها ووداعها بالصورة التي تستحق.

يروي النازحون قصصهم عن الفراق والشهادة تحت الاحتلال، أحباب رحلوا بلا وداع، وشهداء نزوح فقدوا حياتهم بعيدًا عن أعين أحبائهم.. يستعد النازحون للعودة، وأوّل ما يفكرون به: زيارة قبور أحبائهم -إن وجدت-

بينما كان سائد حسونة مستلقيًا في نزوحه برفح جنوب قطاع غزة، تلقّى صاعقةً على هيئة خبر؛ أبلغه أحد جيرانه باستشهاد زوجته آمنة ونجله البكر مهدي في قصف إسرائيليّ استهدف منزلهم في الشمال، إثر فراق دام أكثر من 40 يومًا، تشتتت خلاله أوصال أسرته، بعد أن اعتقله الاحتلال، وأجبره على الذهاب للجنوب.

سائد حسونة وزوجته وأطفاله
سائد حسونة وزوجته وأطفاله في صورة أرشيفية. خلال الحرب استشهدت الزوجة آمنة، وابنها البكر مهدي

"شعرت بعجز خانق وكأنّ العالم انهار فوق رأسي، خاصة أنني لن أستطيع وداعهم بحكم الحواجز الفاصلة بين شمال القطاع وجنوبه"، بهذه الكلمات عبّر سائد عن شعوره لحظة استقباله لنبأ استشهاد زوجته وابنه بعيدًا عن ناظريه، متمنيًا لو كان بإمكانه وداعهم في لحظاتهم الأخيرة.

بدأت حكاية عائلة حسونة في آذار/ مارس 2024، عقب اعتقال قوات الاحتلال لسائد إثر اقتحام مجمع الشفاء الطبي بينما كان يمارس عمله في المجال الإعلامي. وبعد الإفراج عنه، أبعدته قوات الاحتلال إلى جنوب القطاع، بينما كانت عائلته تقاسي في مدينة غزة، وحالت بينه وبينها كلُّ سبل اللقاء.

فراقٌ للأبد

"لم أصدِّق بأنني لن أرى زوجتي وابني مرة أخرى ولن أتمكن من توديعهم"، يقول سائد الذي يحسّ بفراغ كبير هذه الأيّام، ومسؤوليّة مضاعفة، ويؤكّد عمق الأثر النفسي وصعوبة الصدمة وثقل المسؤولية التي خلّفها غياب زوجته آمنة.

سائد حسونة: شعرت بعجز خانق وكأنّ العالم انهار فوق رأسي، خاصة أنني لن أستطيع وداعهم بحكم الحواجز الفاصلة بين شمال القطاع وجنوبه 

استُشهدت آمنة وابنها بعد قصف إسرائيليّ استهدف منزلًا لعائلتها في مدينة غزة، لجأوا إليه بعد مراتٍ من النزوح. في تلك الغارة أيضًا أصيب طفليها، وظلّ الأبناء بعد ذلك يكابدون الأزمات المتوالية شمال القطاع وحدهم؛ بلا أمّ أو أب.

سائد وزوجته آمنة.
سائد حسونة وزوجته آمنة التي رحلت دون وداع، وظلّ بعيدًا عنها بعد أن أبعده الاحتلال إلى الجنوب

بعد رحيلها، ظلّت المخاوف تتقافز في خيال سائد، فباله منشغل من جهة على أبنائه الذين صاروا فجأة بلا أب ولا أمّ في حرب إبادة، ومن جهة أخرى ظلّ يفكّر بزوجته، وتؤرّقه فكرة انتهاك الاحتلال لحرمة الأموات. يقول إنّه ظلّ يتخيّل مكان قبرها بقلق كبير، وكان يتساءل: هل سترقد بسلام في هذه الفوضى التي خلقها الاحتلال؟ ولم يهدأ باله حتى تأكّد من دفنها في مقبرة رسمية بشارع صلاح الدين.

هذا ما تبقى لسائد حسونة من زوجته،، صورة ضريح الشهيدة آمنة حسونة التي قضت شمال القطاع دون أن يودعها زوجها النازح جنوبًا
صورة ضريح الشهيدة آمنة، التي قضت شمال القطاع دون أن يودعها زوجها سائد حسونة النازح جنوبًا

إسراء العرعير نزحت من حي الشجاعية شرق غزة إلى دير البلح. فقدت في شمال القطاع، ودون وداع، زوجها ياسر، وشقيقها عبد الله (35 عامًا)، وشقيقها الأصغر ضياء، وعمّتها شيماء.

تعيش إسراء العراعير على ذكرى صورة شقيقيها عبدالله وضياء، وتمنّي نفسها بزيارة قبريهما شمال قطاع غزة
تعيش إسراء العراعير على ذكرى صورة شقيقيها عبدالله وضياء، وتمنّي نفسها بزيارة قبريهما شمال قطاع غزة

لم يكن فقد عبد الله هو الأول على قلب العرعير لكنّه الأشد، إذ استشهد في آب/ أغسطس 2024 في مجزرة التابعين التي راح ضحيّتها أكثر من 100 شهيد. وفي ذلك تقول إسراء: "استشهاد أخي عبد الله كان صدمة، وما زاد من صعوبة الخبر هو حرمان زوجته وأبنائه من الوداع كونهم نزحوا إلى الجنوب".

وداعٌ عبر الانترنت

ترى إسراء أنّ أعظم مصيبة بعد أن يفقد الإنسان أحبابه، ألا يستطيع احتضانهم أو وداعهم. تقول إنّ قبورهم ستكون وجهتها الأولى بعد العودة إلى شمال القطاع.

لم يكن تمرير العرعير لرغبتها بوداع زوجها وأخيها ضياء وعمتها بالأمر الهيّن، ولعلّ هذا ما جعل عنادها يتجلى في تجاوز حواجز المنع بالتواصل مع أقاربها في مدينة غزة والإصرار على وداع أخيها عبد الله قبل دفنه عبر كاميرا الهاتف، لترى جسدًا كاملًا بوجهٍ محترق بفعل الصواريخ.

تصمت إسراء، ثم تكمل: "كان الوداع صعبًا جدًا"، لافتةً إلى قسوة الفقد بعد مهاتفات طمأنة يومية كانت آخرها ليلة استشهاده، وقد وعدها فيها باللقاء القريب.

إسراء العرعير: أعظم مصيبة بعد أن يفقد الإنسان أحبابه، ألا يستطيع احتضانهم أو وداعهم

وتضيف: "كنت خائفة من دفن عبد الله في قبر جماعي لشهداء المجزرة، ولا نقدر أن نعرف جثمانه أو نزور مكانه"، مؤكدةً أنّها لا تصدّق فكرة رحليه وكثيرًا ما تتصل برقمه ظنًا منها أنّه حي، وتتوقع أن يتعمّق الأثر النفسي لهذا الفقد بعد انتهاء العدوان.

وتنهار العرعير وهي تستنهض صوتها لتخبرنا أن أول ما نطق به سلامة (عامان)، أصغر أبناء عبد الله هو اسم "بابا وشجاعية"؛ تعبيرًا عن رغبته باللقاء والعودة كما تقول.

عن هاجس مكان الدفن

وحول ظروف استشهاد عمتها شمياء (63 عامًا)، تؤكد العرعير أنه تم العثور عليها شهيدة بعد أن أطلق قنّاص النار عليها في أحد الشوارع بعدما فُقد أثرها لثلاثة أيام خلال نزوحها القسري من جامعة الأقصى غرب غزة إلى جنوب القطاع.

وتضيف: "مع كل فقد كنت أكلّم أقاربي وإخواني لأطمئن على مكان دفن الفقيد لاسيما وأنّ القلق على مستقرّ الميّت صار حربًا أخرى"، وتلفت إلى أن أقاربها تمكنوا من دفن مفقوديهم في أراضٍ مفتوحة شرق غزة.

الوداع قد يُخفف من وطأة الفراق

وتعتقد إسراء العرعير أنّ الوداع يُخفف من وطأة الفراق "لو ودّعناهم كان نار الفقد أهون على قلوبنا، ولو نزور قبورهم كان روحهم وَنَسْ".

أمّا في شمال القطاع، فقد حُرمت تحرير أهل (35 عامًا) من وداع والدها الذي ارتقى متأثِّرًا بجراحه جنوب القطاع، أثناء إجرائه عملية عاجلة في المستشفى الأوروبي. كما حرمها الاحتلال إمكانية وداع أختها التي قضت وعائلتها بغارة استهدفت منزلها في بيت لاهيا، في الوقت الذي نزحت فيه إلى غرب المدينة قسرًا.

وتوضح تحرير أنّها لم تتخيّل أن تطول الحرب، ويترافق ذلك مع هذا التشتت والمنع. وتبيّن أنها لم تتوقّع أن تتمنّى الدعاء عند رأس والدها، وأن يظل الحرمان من وداع أختها وعائلتها حسرة في قلبها، خاصة وأنّ عائلتها ما تزال تحت ركام منزلهم المكوّن من 5 طوابق في بيت لاهيا.

الرحيل المفاجئ لوالد تحرير دون وداع، جعل قلبها يعتصر ألمًا كلّما رأت وداعًا

وكانت مدرسة خليفة في بيت لاهيا آخر محطة جمعت "تحرير أهل" بوالدها خلال شهر تشرين ثان/ نوفمبر 2023 قبل أن يقتحمها جيش الاحتلال، ويصيب والدها الذي نقلته الطواقم الطبية في مستشفى كمال عدوان إلى مشافي الجنوب برفقة أحد إخوانها؛ تجنّبًا لتدهور حالته الصحية بعد بتر أصابع قدميه الجريحة، غير أنّه رحل بعد يوم واحد فقط من تلقيه العلاج بفعل تسمم دمه.

هذا الرحيل المفاجئ لوالدها دون وداع، جعل قلبها يعتصر ألمًا كلّما رأت وداعًا، كما تقول، لأنها حُرمت أبسط حقوق الآدميين. وتقول إنّها تترقّب بقلق بالغ يوم عودة شقيقها بالسلامة من الجنوب، وهي عودة ستفتح عليها الجروح مجددًا، وهي التي تتحاشى مهاتفة أخيها، أو سماع صوته، لأنّه يُذكّرها بوالدها، ويستحضر إحساس الفراق والألم.

صدمة بلا استفاقة

"تلقيت الخبر ببكاء وصراخ هيستيري، ولم أتمالك نفسي أبدًا وتمنيت لو كنت معهم أو رأيتهم، فقدانهم كان صعقة على قلبي" بهذه الكلمات أوجز عبد الله الأفغاني (37 عامًا) من حي الزيتون، حالة الصدمة التي مرّ بها بعد فقدانه لزوجته نور وابنه يوسف (4 أعوام) وسط مدينة رفح.

فجر الخامس من حزيران/ يونيو 2024، أصيبت زوجة الأفغاني بجراحٍ بليغة، اخترقت قذيفة إسرائيلية ظهرها وخرجت من بطنها، بينما كانت تحاول الهرب برفقة أبنائها ووالدتها من نار الدبابات التي اقتربت من البيت الذي نزحوا له في رفح.

يقول الأفغاني: "زوجتي أصيبت وهي تحمل طفلها الرضيع (4 أشهر)، وبعد فترة قصيرة من إصابتها ارتقت، وفي غضون ساعات استشهدت حماتي، ثم فاضت روح ابني يوسف إثر إصابته الخطيرة". حرمت حواجز الاحتلال عبد الله من وداع عائلته التي دُفنت في مقبرة بدير البلح.

عبد الله الأفغاني وزوجته وأولاده قبل سنوات
عبد الله الأفغاني وزوجته وأولاده قبل نحو ثلاث سنوات

وبينما يقاوم الأفغاني الغصّة، يُخبرنا بندمه على ترك زوجته نور تذهب دونه إلى جنوب قطاع غزة. يُشير إلى أن ما دفعه للقبول بذهابها، هو خوفه عليها لأنها كانت تحمل طفلًا في أحشائها، وطلبها بأن تكون مع أهلها برفقة أبنائي الثلاثة على أمل أن ألحق بهم.

يصمت عبد الله الأفغاني ثم يصف أسرته "بالأجمل" كما وصف زوجته بالحياة وابنه يوسف بوصل الروح، ولفت إلى تمكنه بعد سعي طويل من الرفض من احتضان أبنائه وإجلائهم من مناطق الجنوب واحتضانهم في منزله بشمال القطاع بمساعدة منظمة اليونسيف.

ووفق ما نشره المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، بعد 470 يومًا من حرب الإبادة، فإنّ 38,495 طفلًا باتوا يعيشون بلا والديهم أو دون أحدهما، فيما قتل الجيش الإسرائيلي 12,316 امرأة في قطاع غزة، غزة، وفقدت نحو 14 ألف امرأة زوجها في الحرب.

 

الكلمات المفتاحية

بدر خان سوري

على خلفية حرب غزة.. ترامب يسعى لترحيل أكاديمي يُقيم في أميركا بشكل قانوني

في قضايا الهجرة البارزة الأخرى، حاولت إدارة ترامب المضي قدمًا في عمليات الترحيل بشكل عاجل قبل أن يتوفر للمحاكم الوقت للتدخل


المعرض هو شهادة بصرية على صمود الفلسطينيين ومقاومتهم اليومية، ويعكس تداخلًا بين الماضي والحاضر

"بأمّ عيني".. شهادة بصرية لتاريخ الفلسطينيين بين الماضي والحاضر  

يعدّ المعرض بمثابة أرشيف حيّ لعلاقة متداخلة بين الماضي والحاضر، ويهدف إلى تقديم شهادة بصرية متداخلة بين الماضي والحاضر


نشطاء مؤيدون لفلسطين يقتحمون ملعب غولف يمتلكه ترامب في اسكتلندا، ويرسمون عبارة "غزة ليست للبيع"

"غزة ليست للبيع".. رسائل مؤيدة لفلسطين تغطي ملعب ترامب في اسكتلندا

نشطاء مؤيدون لفلسطين يقتحمون ملعب الغولف "ترامب تورنبيري" في اسكتلندا، احتجاجًا على تصريحات ترامب حول غزة، ويرسمون شعارات مؤيدة لفلسطين على العشب والجدران


يحدث في البيوت.. رواية جديدة لعباد يحيى

"يحدث في البيوت".. رواية جديدة لعباد يحيى عن رام الله في السبعينات والثمانينات

تستعرض رواية "يحدث في البيوت" أحداثها من النكبة الفلسطينية وصولًا إلى الزمن الراهن، مع التركيز على عقدي السبعينيات والثمانينيات في رام الله

رمضان بلا مساجد في غزة
تقارير

صور | رمضان في غزة بلا مساجد

استهدفت صواريخ الاحتلال المساجد في قطاع غزة بشكل مباشر، بما في ذلك قصفها على رؤوس المصلين، وتعرضت مساجد أثرية، مثل المسجد العمري الكبير، للتدمير، ووثّق جنود الاحتلال بهواتفهم إحراق المصاحف وتدنيس المساجد

رونين بار وبنيامين نتنياهو
أخبار

المحكمة العليا الإسرائيليّة تجمّد قرار إقالة رئيس الشاباك مؤقتًا

أصدرت العليا الإسرائيلية أمرًا مؤقتًا بتجميد قرار إقالة رئيس جهاز الشاباك، رونين بار، بعد تقديم التماسات من المعارضة وجمعيات مدنية، وقد منعت المحكمة تعيين بديل له حتى النظر في الالتماسات


القاضي المتقاعد أهارون باراك، الرئيس الأسبق للمحكمة الإسرائيلية العليا
راصد

الرئيس الأسبق للمحكمة العليا: "إسرائيل" على حافة الحرب الأهلية

حذر القاضي أهارون باراك من خطر انزلاق إسرائيل نحو حرب أهلية بسبب التوترات الداخلية المتفاقمة، ودعا إلى التهدئة والتفاوض لتجنّب العنف، منتقدًا محاولات إقالة مسؤولين كبار

نتنياهو طلب تدمير غزة
أخبار

بعد 48 ساعة من بداية العدوان.. نتنياهو طلب تدمير المنازل وقصف كل غزة

كشف الصحفي الإسرائيلي، ناحوم برنياع، عن حوار بين رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، طالب خلاله نتنياهو في تدمير قطاع غزة

الأكثر قراءة

1
قول

الأرض مقابل الاستسلام.. نتنياهو مبشرًا بـ"الشرق الأوسط الجديد"


2
راصد

خبراء إسرائيليون: الحرب لن تعيد الأسرى واستئنافها دوافعه سياسية


3
راصد

نتنياهو انتهك وقف النار ودفع ترامب للتنازل عنه.. انقسامات في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية