29-مارس-2023
فلسطيني يقف أمام زجاج مهشّم جراء اعتداءات المستوطنين في حوارة جنوب نابلس - Nasser Ishtayeh/Getty Images

فلسطيني يقف أمام زجاج مهشّم جراء اعتداءات المستوطنين في حوارة جنوب نابلس - Nasser Ishtayeh/Getty Images

جلستُ في المقعد الخلفيّ للسيارة وأرجعتُ رأسي للوراء مودِّعًا شوارع المدينة، ثم حاولتُ الاسترخاء قليلًا قبل أن تبدأ مفاجآت الرحلة. ما زلتُ أتمسّك بهذه المهنة حتى الآن؛ لا مُباليًا بالإرهاق اليوميّ الذي تسببه لي، ولا "بمكانتها الاجتماعية" التي تغدو بلا معنى تحت ضغط تشخيص المرضى وتنظيم جدول العمليات الجراحية، حتى عائدها الماديّ المجزي لا أراهُ الغاية على الرغم من أهميته.. أنا شغوف بالطبّ الجراحيّ نفسه. إن شعوري بامتلاء ذاتي وانكشاف المَغزى من نشوء العالم كلّما أجريتُ عملية جراحية لأحدهم، لا يقدّر بثمن، مع ذلك ثمّة ما يستدرجني للتفريط بكَنزي الثمين: أن أُزاولَ الطب هنا بالتحديد؛ في مدينة جِنين في الضفّة الغربية، بينما أنا آتِ إليها من محافظة الخَليل، وهذا يخيفني.

لماذا عليّ أن أقومَ بذلك في ظلّ الشروط الحالية المفروضة على طريق السفر؟ لماذا لا أقطعُ هذه الطريق البالغ طولها 100 كيلومتر خلال ساعة بِسلام؛ أقطعُها بلا خوف ولا منغّصات ولا تعقيدات؟ 

بنهايةِ أسبوعين من العمل في المستشفى في جِنين عليّ أن أعودَ إلى الخَليل كيْ أرى عائلتي، قاطعًا الضفة الغربية من شَمالها إلى جنوبها، على أن أرجِع بعد يومين إلى عملي في الاتجاه المعاكس. مضى على هذا الحال سنتين ولا أعرف إلى متى سيستمر. أجوبُ هذه الرُقعة من الأرض ذهابًا وإيابًا كلّ أسبوعين وأنا أتساءل: لماذا عليّ أن أقومَ بذلك في ظلّ الشروط الحالية المفروضة على طريق السفر؟ لماذا لا أقطعُ هذه الطريق البالغ طولها 100 كيلومتر خلال ساعة بِسلام؛ أقطعُها بلا خوف ولا منغّصات ولا تعقيدات؟

نقفُ الآن على حاجز قرب سَبسْطية في انتظار أن يسمح لنا جنود الاحتلال العبور إلى مدينة نابلس باتجاه الجنوب. على جانبي جدارٌ اسمنتيّ أمنيّ، وبالقرب منّي مستوطنةُ "شافي شُمرون". لدواعٍ أمنيّة تغلق سلطات الاحتلال الحاجز أحيانًا أمام المارة، فضلًا عن اعتقال البعض للاشتباه بهم، كما يقوم مستوطنونَ في مناسبات أخرى بقطع الطريق على الناس، فيما يستهدفُ مقاومون الجنود في بعض الحالات.. لماذا يحدث هذا هُنا، مثلما يحدث ما يشبههُ على الحواجز العسكرية الأخرى المنتشرة في الضفة الغربية؟ هل كان هذا هو واقع الحال دائمًا؟ أم تُراه بدأ في زمان ما فقط؟ كيف بدأ هذا كلّه؟ وهل يُجدي نفعًا الرجوعُ بالزمن سبعين سنة للوراء؟

بانتهاء حرب فلسطين سنة 1949 رسمتْ اتفاقيات الهُدنة الموقّعة في "رودس" حدود الضفة الغربية، وبات هذا الإقليمُ المقتطع من أرض فلسطين الانتدابية تحت سلطة الجيش الأردني. عُرف آنذاك الحدّ الفاصل بين الإقليم الذي تبلغ مساحته 5860 كيلومترًا مربّعًا والأراضي التي أقيمتْ عليها "إسرائيل" بالخطّ الأخضر. ومنذ ذلك الحين تنامت حركة الاستيطان في "إسرائيل" المُقامة حديثًا نتيجةً لهجرة اليهود، حيث أُنشئتْ بحلول عام 1953 مئات التجمّعات الاستيطانية. لكن في عام 1965 فجّرت مجموعة فدائية لحركة فتح نفقَ "عيلبون"، مفتتِحةً بذلك حقبة الكفاح المسلح. أما عام 1967 فقد كان اسثنائيًا في تاريخ الإقليم. 

احتلت "إسرائيل" الضفة الغربية، ثم ضمّت قسمًا من أراضيها يبلغ نحو 70000 دونُم إلى مسطّح بلدية القُدس. تلا ذلك تنفيذ عشرات العمليات الفدائيّة في الأراضي المحتلة. ومع صدّ العدوان الإسرائيليّ في معركة الكرامة سنة 1968 تعزّز نهج الكفاح المسلّح وتصاعد الالتفاف الجماهيريّ حوله، فيما أدّت المكاسب العسكرية التي أحرزتها فصائل المقاومة إلى تعزيز موقعها السياسيّ، ما تكلّل بسيطرتها على مُنظمة التحرير سنة 1969 بزعامة حركة فتح. 

على نحو متدرّج أخذت سلطات الاحتلال بالاستيلاء على أراضي الضفة الغربية، وبدأت ذلك بالإعلان عن مساحات من الأرض بوصفها "مناطقَ عسكرية مغلقة"، يُحظر على الفلسطينيين دخولها 

في هذه الغُضون أخذت سلطات الاحتلال على نحو متدرّج بالاستيلاء على أراضي الضفة الغربية، إذ بدأت بالإعلان عن مساحات شاسعة من الأرض بوصفها "مناطقَ عسكرية مغلقة"، وهي مناطقٌ يُحظر على الفلسطينيين دخولها إلا بتصريح خاص، فشهدت المنطقة موجة من الاستيطان. وفي سياق متّصل صادرت "إسرائيل" ثُلث المساحة التي ضمّتها إلى بلدية القدس، وبَنت عليها مستوطنات أسمتْها "أحياء"، حيث أُقيمت هناك ثماني "أحياء" كهذه. 

على الجانب الآخر تبنّت منظمة التحرير سنة 1974 برنامجَ "النقاط العشر"، الذي تضمّن قبولاً بإقامة سلطة فلسطينية على أيّ جزء من الأرض يتمّ تحريره، كما اعترفت الدول العربية بمنظمة التحرير ممثلاً للفلسطينيين، ثم جاء الاعتراف الدوليّ؛ تطورات اعتُبرت إيذانًا بدخول مرحلة التسوية في الصراع مع "إسرائيل"، مع ذلك استمرت المنظمة برفض قراري مجلس الأمن: 242 و338، الذين منحا "إسرائيل" حدودًا آمنة ولم يجبراها على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها سنة 1967. 

طابورٌ طويلٌ من سيارات الأجرة وتعليمات لجنديّ إسرائيلي بلغةٍ عربية عبر مكبّر للصوت.. وصلنا إلى حاجز "حُوارة" جنوبي نابلس، وها نحن ننتظر إذنًا جديدًا بالمرور

طابورٌ طويلٌ من سيارات الأجرة وتعليمات لجنديّ إسرائيلي بلغةٍ عربية عبر مكبّر للصوت.. وصلنا إلى حاجز "حُوارة" جنوبي نابلس، وها نحن ننتظر إذنًا جديدًا بالمرور. يحمل الحاجز الذي اشتُهر منذ تأسيسه بتشديد إجراءات التفتيش اسم البلدة الواقعة على طريق نابلس ـ القدس. تعني "حُوارة" باللغة السريانية: البياض، وينحدر معظم تجّار الذهب في نابلس من حُوارة، لكن يبدو أن الدلالات المبهِجة للاسم تتلاشى سريعًا مع احتمال هجوم مستوطني "يِتسْهار" علينا، وهو احتمال كبير. ليس ببعيدٍ عنّا تقع المستوطنة الدينية، وتعدّ معقلًا للمستوطنين الأكثر تطرّفًا في المنطقة، مع ذلك شُيّد برج المراقبة هذا لحمايتهم، أما نحن فلا أرى في الحاجز ولا في التاريخ ما شُيّد ليحمينا. 

عام 1974 أيضًا قلّصت سلُطات الاحتلال مساحة الأراضي المتاحة للتنمية الفلسطينية في المناطق التي ضمّتها إلى بلديّة القدس، وذلك بإنشاء حديقة "أسوار القدس" على مساحة 1100 دونم. على الجانب الآخر قال "هنري كسينجر" سنة 1976 إن أيّ مفاوضات للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين يجب أن تستند إلى قراريّ مجلس الأمن السابقين، بينما تبنّت شخصيات في منظمة التحرير توجّه الحديث مع الإسرائيليين، كما دعَت اتفاقية "كامب ديفيد" المصرية الإسرائيلية إلى إقامة حكم ذاتيّ للفلسطينيين، لكن في 1978 كان المشهد مغايرًا على الأراضي اللُبنانية، إذ شنّت "إسرائيل" هجومًا على الجنوب لإبعاد المجموعات الفدائية الفلسطينية، إلا أن هذا لم يمنع مواصلة عمليات المقاومة. 

في العام التالي طلب ياسر عرفات من النرويج توفير قناة اتصال سريّة مع الإسرائيليين، لكن "إسرائيل" لم تبدِ اهتمامًا بالحديث مع المنظمة، فيما أصدرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية قرارًا حدّ من بناء المستوطنات على أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، غير أن سلطات الاحتلال، وفي التفافٍ على قرار المحكمة؛ ابتدعت آليّة جديدة للاستيلاء على الأرض في الإقليم: الإعلانُ عن الأراضي المستهدفة بوصفها "أراضي دولة"، وذلك من خلال إعادة تأويل القوانين القائمة وإعادة صياغة أحكامٍ قانونية أخرى. في عام 1979 أيضًا أصدر مجلس الأمن قرارًا عدّ المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية، بينما بلغ عددُ ما أقيم منها حتى ذلك الحين تسعًا وسبعين مستوطنة. على الجانب الآخر خاضت الفصائل الفلسطينية مواجهة تاريخية مع الجيش الإسرائيلي إثر اجتياحه لبنان سنة 1982، حيث كان الهدف المعلن للعملية تدمير منظمة التحرير، وبعد وقوع خسائر فادحة بين المدنيين خرجت المنظمة من بيروت، إذ غادر 12 ألف مقاتل فلسطيني لبنان فيما ارتحلت القيادة إلى تونس. 

يبدو المكان مشحونًا أمامي، فقد توفّي شابان مقدسيان قبل عدة أيام بعد أن دهسهما مستوطنٌ على شارع 60 القريب. أنا في "كْفَار تفّوّاح" حسب التسمية الإسرائيلية، وهو الحاجز العسكري الثالث الذي يجب عليّ التوقّف عنده خلال سفري. أخَذ الحاجز اسم المستوطنة التي تطلّ على مفترق "زعْتَرة"، وعلى المفترق الذي يعتبر حلقة الوصل بين معظم محافظات الضفة الغربية أُقيمَ الحاجز. يسيطر حاجز زعترة على تقاطع طرق نابلس وأريحا ورام الله وسلفيت، وتمرّ عبره معظم حركة النقل بين شمال الضفة الغربية ووسطها، ويبدو بما يشتمل عليه من ساحات انتظار وكاميرات وأبراج مراقبة ونقاط احتجاز كآلة لضبط السِلع الفاسدة وفرزها عن تلك الصَحيحة. كنتُ لحسن الحظّ سلعة مأمونة وعبرتُ الحاجز نحو الخليل بسلام، وتيقّنت أنّي سعيد الحظ بعد عشرين دقيقة عندما علمتُ أن قوات الاحتلال أغلقت الحاجز في كِلا الاتجاهين إثرَ تنفيذ فلسطينيّ عملية دهس ضدّ الجنود هناك، فيما يبدو أنه ردّ على عملية المستوطن. هل يستتْبعُ وجود فلسطينيين في المنطقة بالضرورة إيجاد مستوطنين في الجوار؟ إذن سنظلّ ننتظر عملية الانتقام القادمة.

في عَقد الثمانينات أقامت الحكومة الإسرائيلية في المناطق المعلَنة كأراضي دولة عشرات المستوطنات الجديدة بمحاذاة مناطق فلسطينية مكتظّة بالسكّان، بينما أعلنت عن 340000 دونم من أراضي الضفة الغربية كمحميّات طبيعية، فمنعتْ تحت غطاء حماية البيئة الزراعة وتربية الماشية والبناء لصالح الفلسطينيين هناك. أما على الجانب الآخر فقد اندلعتْ الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1987، فرأتْ حركة فتح أن استثمار الاحتجاجات الشعبية وما قدّمته من تضحيات يمثّل فرصة كبيرة، ولا سيّما بعد أن ضاقت السُبل بالقضية الفلسطينية، كما كان هاجِس الشرعية والتمثيل ماثلاً لدى الحركة بعد صعود "حماس" كفصيلٍ منافس في الجماهيرية ومقاومة الاحتلال. في العام التالي أعلنَ المجلس الوطنيّ الفلسطيني "وثيقة الاستقلال"، لكنّ الإعلان الأهمّ كان قبول المنظمة بقراريّ الأمم المتحدة: 242 و338.

مثّلت فلاحة الأراضي الزراعية على يدِ المستوطنين في الضفة الغربية آلية أخرى للاستيلاء على المزيد من الأرض وترسيخ السيطرة على الإقليم، إذ بات المستوطنون يفلحون 100000 دونم هناك. وبينما كان الاستيطان يساهم في تطوير الاقتصاد الإسرائيلي من خلال الإنتاج الزراعي، تحوّل القسم الأكبر منه مع نهاية الثمانينات إلى الإنتاج الصناعيّ والسكن الاقتصاديّ والاستيطان الدينيّ. على الجانب الآخر عُقد مؤتمر "مدريد" للسلام بعد حرب الخليج الثانية سنة 1991 وسط رعاية دولية، وشارك فيه وفد فلسطيني من الأراضي المحتلة. في المباحثات التي تلَت المؤتمر سلّط الفلسطينيون الضوء على الاستيطان. فشلت المفاوضات في التوصّل لاتفاق، ما مهد الطريق لموافقة "إسرائيل" أخيرًا على إجراء مباحثات سريّة مباشرة ودون وسطاء مع منظمة التحرير سنة 1992. بالوصول للسنة ذاتها كانت الحكومة الإسرائيلية قد أعلنت 900000 دونم من أراضي الضفة الغربية أراضي دولة.

صادقَ الاتفاق الذي وُقع عام 1993 في واشنطن بين منظمة التحرير و"إسرائيل" على الوثيقة المُسماة "إعلان مبادئ بشأن ترتيباتٍ بالحكم الذاتيّ المؤقت" التي وُقعت سرًّا في مدينة أوسلو، وتضمّنت إقامة سلطةِ حكمٍ ذاتيّ في الأراضي المحتلة سنة 1967، وذلك لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات تؤدي إلى تسوية دائمة، فضلًا عن بدء مفاوضات الوضع الدائم بداية السنة الثالثة، وبقاء أمن المستوطنات مسؤولية "إسرائيل". حتى ذلك الحين كانت المستوطنات قد قطّعت الضفة الغربية طوليًا على امتداد سلسلة الجبال الوسطى، ومن أجل ربطها ببعضها البعض من جهة وبـ"إسرائيل" من جهة اخرى؛ شقّت الحكومة الإسرائيلية شبكة من الشوارع الالتفافية والجسور والأنفاق في الإقليم، كما شقّت مجموعة من الطرق السريعة التي وصلت غربَ الخط الأخضر بشرقِه وشماله بجنوبه، فباتت هذه المنظومة تفصل مدن وقرى الضفة الغربية عن بعضها البعض وتعقّد التنقّل بينها.

عند الغروب وصلنا إلى حاجز "DCO"، وهو نقطة تفتيش إسرائيلية تقع في مدينة البيرة بالقرب من مستوطنة "بيت إيل". كان هناك اختناقًا مروريًا، فبدأ القلق يُساورني إزاء العبور قبل إغلاق الحاجز ليلاً، ولأتأكد من معلوماتي سألتُ المسافرين عن موعد الإغلاق، فقال أحدهم: "يُفتح الحاجز من الصباح حتى الساعة الثانية ظهرًا لجميع المركبات، ولا يتواجد الجيش في هذه الأوقات"، فيما قال آخر: "يُسمح بدخول المركبات الخصوصية فقط إلى رام الله"، وتدخّل ثالث: "يُسمح بمرور القادمين من رام الله الى "بيتين" عبر الحاجز لحاملي بطاقة vip فقط".. فشعرتُ أن الإجابات أدخلتْني في متاهة بدل أن ترشدني، إلى أن أسعفني صوت خفيضٌ ورقيق بالقول: "يُسمح بالعبور من العاشرة صباحًا حتى العاشرة ليلًا على مدار الأسبوع ما عدا يوم الجمعة؛ حيث يسمح بالعبور من العاشرة صباحًا حتى الرابعة عصرًا، أما يوم السبت فيسمح بالعبور من السادسة مساءً حتى العاشرة ليلًا"، فسألتُ مرتبكًا: "ما اليوم؟" أجاب الصوت: "السبت، والساعة هي الثامنة مساءً، اطمئن سنعبُر". وعبرنا.

في عام 1995 وُقّع "الاتفاق الانتقاليّ بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة" الذي بُني على اتفاق سنة 1993، ونصّ على تأسيس حكومة انتقالية فلسطينية، كما أسس المناطق: (أ) و(ب) و(ج) في الضفة الغربية. بحسب الاتفاق تقع مناطق (أ)، وهي المناطق التي تتضمن المراكز السكّانية الفلسطينية الرئيسية؛ تحت السيطرة الفلسطينية أمنيًا وإداريًا، فيما تقع مناطق (ب) تحت السيطرة الإدارية الفلسطينية والسيطرة الأمنية لـ "إسرائيل"، أما مناطق (ج) فتقع تحت السيطرة الإسرائيلية أمنيًا وإداريًا، وتشكّل 61 في المئة من مساحة الإقليم. لم يتضمن الاتفاق ما يحدّ من استمرار بناء المستوطنات في الضفة الغربية، ولم يحدد حدود المدن والقرى الفلسطينية، كما عرَف المناطق ج بأنها: مناطق خارج المناطق (أ) و(ب)، والتي "باستثناء القضايا التي سيتم التفاوض بشأنها في مفاوضات الوضع الدائم سيتم نقلها تدريجيًا إلى السلطة الفلسطينية" في واحد من أكثر عباراته دلالة.

تستحوذ المناطق (ج) على معظم الموارد الطبيعية في الضفة الغربية: الأراضي الزراعية والمراعي ومصادر المياه والمحميات الطبيعية، كما تتضمن أكبر احتياطيّ أراض غير مأهولة في الإقليم، وبينما تعدّ موطنًا لعشرات الآلاف من الفلسطينين ـ سكّان المناطق النائية، فإنها تشتمِل أيضًا على المستوطنات الإسرائيلية والطرق الالتفافية وحدود الإقليم. وفي الوقت الذي تمتلك فيه تلك المناطق إمكانيات التطوير الحضريّ والزراعيّ؛ يواجه سكانها الفلسطينيون، وهم في خِضَم عزلة إقليمية أصلًا؛ قيودًا صارمة على التنمية، حيث تقلّص سلطات الاحتلال مساحة الأراضي الزراعية المتاحة لهم، وتُقنّن استفادتهم من شبكات المياه، كما تحظر البناء في 70% من مساحة المناطق الخاصة بهم، وتجعل الحصول على تصريح لبناء منزل أو منشأة صناعية أو شقّ شارع في المساحة المتبقية مستحيلًا.

لم يكُن "أوسلو" اتفاقاً نِديًّا، إذ جاء في ظلّ عُزلة إقليمية ودولية 

لم يكُن "أوسلو" اتفاقاً نِديًّا، إذ جاء في ظلّ عُزلة إقليمية ودولية فُرضت على ياسر عرفات لتأييده صدام حسين في حرب الخليج الثانية. استغلّت "إسرائيل" ميلَ توازن القوى الدوليّ لصالحها، وسارعت لعقد التفاهمات وفرض شروطها فيها. لبّى "أوسلو" مصلحة إسرائيلية استراتيجية هي التخلّص من نموذج الاحتلال التقليديّ؛ بما يتضمنه من سيطرة على حياة الناس اليومية وبقاء قضية فلسطين كآخر قضية استعمارية، فحرّرَ سلطات الاحتلال من تقديم الخدمات للسكان في الأراضي المحتلة ودفْع الثمن الإنسانيّ المترتب على قمعِهم. في هذا المعنى كان الاتفاق رافِعة لـ "إسرائيل" بتحويل الاحتلال سيئ السمعة الذي كانت تمارسه إلى "احتلالٍ ناعم"؛ باقٍ في جوهره لكنّه يرتدي حُلّة جديدة، استطاعت معه تحسين صورتها أمام العالم مستغلّة في الإعلام انطلاق "المسيرة السلمية"، كما واجهت بالاستناد إليه المقاطعة ضدّها ووسّعت نطاق شراكاتها الدولية.

على ربْوة صخرية قرب بلدة السواحرة الشرقية كانت محطّتي الأخيرة: حاجز "الكونتينر". يقع الحاجز شرقيّ القدس، ويفصل وسط وشمال الضفة الغربية عن جنوبها، وقد أصبح المسلك الوحيد للمركبات العابرة بين الجانبين بعد اندلاع الانتفاضة عام 2000. كانت الساعة قد قاربت التاسعة والنصف ليلًا، وبدا أن الحاجز سيُغلق قبل أن أتمكن من العبور إلى الخليل، وأنّي سأضطر للانتظار حتى يُفتح مجددًا في الصباح. أمضيتُ الليل في مكان قريب وأنا أستمع إلى غرباءَ وهم يسامروني بنبَرات خافتة وخائفة وناقمة على أحد لا تعرفه: "هذا الحاجز صُمّم لخنق وإذلال القادمين من بيت لحم والخليل إلى القدس ورام الله والشَمال".. "يُغلق جنود الاحتلال الحاجز عادة لأسباب غير مفهومة".. "يوقِف الجنود الكثير من الطلبة على الحاجز".. "يتسلّق العابرون الجبال للوصول إلى بلدة السواحرة ما يعرّضهم لأشعّة الشمس والسقوط وإطلاق النار لأنهم لا يريدون المرور عبر الحاجز". 

قبل اغتياله بأسبوع، ألقى إسحاق رابين خطابًا أشار فيه إلى محدّدات الاتفاق النهائيّ مع الفلسطينيين: عدم الانسحاب من حدود 1967، الإبقاء على الكُتل الاستيطانية في الضفة الغربية، السيطرة الكاملة على الحدود مع الأردن. وما حدث بعد ذلك هو انسحاب الجيش الإسرائيلي من المدن وبعض القرى في مناطق (أ) و(ب)، وتسليم السلطة الفلسطينية مهامًا مدَنية هناك، والإبقاء على مناطق (ج) تحت سيطرة الاحتلال الكاملة. كان من المفترَض أن يتم نقل مناطق (ب) و(ج) إلى السيطرة الفلسطينية، وجعلها ضمن حدود الإدارة الفلسطينية مثل مناطق (أ)، لكن هذا لم يحصل. من جانب آخر، انضمّ للمفاوضات ضباط من سكان المستوطنات، حيث تمّ اعتماد خرائط تضمن حرية حركة المستوطنين، ما سمح بشقّ طرق جديدة والتهام المزيد من أراضي المناطق (ج).

في عام 1997 أعلنت "إسرائيل" جميع مسطّحات النفوذ البلديّ للمستوطنات مناطق عسكريّة مغلقة، فوصلت مساحة المناطق المندرجة تحت هذا التصنيف إلى 1765000 دونم؛ أي نحو ثلث إجماليّ مساحة الضفة الغربية، وبالإعلان عن عدّة آلاف أخرى من الدونمات كأراضي دولة أصبحت مساحة الأراضي المُسيطر عليها تحت هذا المسمى 1200000 دونم وتعادل 22٪ من مساحة الإقليم. وحتى لو افترضنا وقْف بناء مستوطنات جديدة في المنطقتين فمن المرجّح أن يتواصل نموّ عدد المستوطنين، وذلك بفضل نسبة التكاثر العالية في المستوطنات القائمة التي تصل أحياناً إلى 7.6 طفلاً لكل امرأة.

لم يتضمن إتفاق أوسلو التزامًا بقيام دولة فلسطينية، واستمرّت حكومات "إسرائيل" بالتفاوض وبناء المستوطنات في نفس الوقت

لم يتضمن إتفاق أوسلو التزامًا بقيام دولة فلسطينية، واستمرّت حكومات "إسرائيل" بالتفاوض وبناء المستوطنات في نفس الوقت. انقضتْ فترة المرحلة الانتقالية، وعُقدت قِمّة "كامب ديفيد" سنة 2000 دون أن تسفر عن نتيجة، ولم تباشَر مفاوضات الوضع الدائم، فظلّت القضايا التفاوضية الأساسية عالقة. في العام ذاته اندلعت الانتفاضة الثانية وانهار الوضع الأمني، فبنتْ سلطات الاحتلال في 2002 ما أسمتْه "جدارًا أمنيًا" بذريعة حماية "إسرائيل" من العمليات الفلسطينية المسلّحة. أُنشئَ معظم مسار ما بات يُعرف بالجدار العازل على أراضي الضفة الغربية، ما تسبّب بمصادرة المزيد من ممتلكات الفلسطينيين، كما عُزلت في نفس السياق مُدن وبلدات عن محيطها الأوسع، أما في القدس فقد أنشأ الجدار سدًّا محكمًا بين المدينة والإقليم، وعجّل من عزل المنطقتين عن بعضهما البعض. 

من جهتها كانت المستوطنات اعتبارًا أساسيًا عند ترسيم مسار الجدار، سهّل ذلك ضمّ 81 مستوطنة بحكم الأمر الواقع إلى "إسرائيل". وفي 2019 قالت الإدارة الأمريكية إنها لم تعد تعتبر المستوطنات غير قانونية، مُتيحة الفرصة لتصويت الكنيست على قرارٍ لضمّها إلى "إسرائيل". في عام 2021 بلغ عدد المستوطنات في القدس 26 مستوطنة، ناهز عدد سكانها 320000 مستوطن، فيما ناهز عدد المستوطنين في الضفة الغربية 390000 مستوطن؛ باتت مستوطناتهم البالغ عددها 125 مستوطنة تحاصر نحو 300000 فلسطيني يعيشون في المناطق (ج) في تجمّعات تفتقر للبُنى التحتية ومقوّمات الحياة الأخرى، حيث تقدّم السلطة الفلسطينية الخدمات الطبية والتعليمية لهم، بينما تسيطر "إسرائيل" على شؤونهم الأمنية والإدارية.

هل تفسّر مَفاصل الصراع العسكرية والسياسية من جهة، وممارسات الاحتلال في السيطرة على الضفة الغربية من جهة أخرى، منذ سنة 1948 حتى الآن ـ ما واجهتُه من صعوبات ومخاطر حتى أعود بالأمس إلى الخَليل في زيارة روتينية؟ ابتداءً من عام 1967، وعلى مدار عَقدين من سنوات الاحتلال؛ كان بوُسع فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة السفر بحرية بين مناطقهم من جهة والمناطق التي أصبحت داخل حدود "إسرائيل" من جهة أخرى، سَمح هذا الوضع بحفاظ سكان كلّ منطقة على العلاقات الاجتماعية التي كانت تربطهم بسكان المنطقتين الأخريين، فضلاً عن تمكّن طلاب قطاع غزة من الالتحاق بجامعات الضفة الغربية، وذهاب عشرات آلاف الراغبين بالعمل في "إسرائيل" إليها، الأمر الذي أدّى إلى إزدهار الحركة الاقتصادية بين المناطق الثلاث. لكن باندلاع الانتفاضة سنة 1987 وحرب الخليج سنة 1991 بات الوضع السابق جزءًا من الماضي. ما الذي يعنيه هذا؟

سأواصلُ ارتحالي عبر الحواجز العسكرية الإسرائيلية في أرخَبيل الضفة الغربية، متشبّثًا بالرهان على عملياتي الجراحية، ومتظاهرًا بإدارة ظهري لتلك الدوامة من العمليات العسكرية والسياسية 

تحت وطأة التطورين العسكريين السابقين، خيّم مناخ قاتم من العنف وانعدام الأمن على الضفة الغربية وقطاع غزة مطلع التسعينات، ما حدا بقوات الاحتلال لتغيير سياستها السابقة الخاصّة بتنقّل سكان الإقليمين، إذ باتت تشترط على من يرغب منهم بدخول "إسرائيل" أو القدس الحصول على تصريح من "الإدارة المدنية [تابعة لجيش الاحتلال]". جرى تطبيق هذا النهج بالتدريج حتى فُرض في النهاية إغلاق كامل على الأراضي المحتلة، ثم أُقيمت نقاط التفتيش الدائمة على امتداد الحدود فيها، ووُضعت الحواجز بين القدس وأراضي الضفة الغربية، كما أصبح الاحتلال أكثر صرامة في تطبيق نظام التصاريح وعقّد الحصول عليها. قسّمت سياسات التنقّل الجديدة الأراضي المحتلّة إلى ثلاث مناطق منفصلة هي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة؛ أصبح السفر بينها خاضعًا لاعتبارات المحتل. هل قلتُ: "مطلعَ التسعينات"؟ بما تذكّرنا هذه المحطّة التاريخية؟ بنضج جهود سلطات الاحتلال في الاستحواذ على أراضي الضفة الغربية؟ أم بتدشين العملية السياسية أخيرًا وتوقيع إتفاق أوسلو؟ أم بكليهما؟

ما هو الحدّ الفاصل بين المخطّطِ والظرفيّ في المُجريات التاريخية التي صنعتْ الواقعَ الجغرافيّ للضفة الغربية اليوم؟ وهل ثمّة إمكانيةٌ لتعيين المسؤوليات بدقّة على فاعِليها الأقوياء والضعفاء على حدّ سواء؟ وما الذي يُحتمَل أن يحقّقه ذلك على الأرض؟ ما يمكن التسليم به اليوم هو أن المستوطنات باتت العامل الأكثر تأثيرًا على حياتنا في الإقليم، حيث تشهد قُرانا ومُدننا بسببها انعزالاً وتشرذمًا واسعًا، وأن سلطات الاحتلال استكملت ببناء الجدار العازل قطعَ الاتصال بين كُتلنا الحضرية والريفية، وحطّمت ما تبقى من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت سائدةً بينها، وأجهزتْ بالتالي على العلاقات القائمة بيننا، وأن أكثر من 500 حاجز عسكري لها اليوم القول الفصل في ضبْط حركتنا في الإقليم.. لكن ما لا يمكن التسليم به هو أنْ أتخلّى عن المصدر الوحيد للضوء وسط هذا الضباب: مُزاولتي للطب الجراحي. وحتى أجدُ بديلاً لمدينة جِنين لاستئناف ممارسة عمَلي الذي أحبّه، وهو أمرٌ مُستبعد في الوقت الراهن، سأواصلُ ارتحالي عبر الحواجز العسكرية الإسرائيلية في أرخَبيل الضفة الغربية، متشبّثًا بالرهان على عملياتي الجراحية، ومتظاهرًا بإدارة ظهري لتلك الدوامة من العمليات العسكرية والسياسية.