14-أبريل-2017

يأخذني الخيال دومًا إلى منطقة تتمكّن فيها الكلمات من الدفاع عن نفسها وتوضيح ذاتها، وإسكات من يسيء استخدامها، ومنعه بوسيلة أو بأخرى من التحدّث عنها وباسمها.

عندما يضيق بك الحال ويبلغ العجز أوجه، فإنّك ستلجأ إلى إسكات من يحاورك، لأن استمراره في الكلام يزيد جهلك تكشُّفًا

للكلمات وجوه بملامح دقيقة وعيون واسعة، لترى كل من يقولها، أما يداها فقويتان جدًا لتسنده عندما يعنيها حقًا. فعندما تتعثر وأنت تُعبّر عن فكرتك ستسندك الكلمات إذا كنت صادقًا فيما تقوله، والصدق هُنا لا يقتصر على أن تعني ما تقوله وتعيه، بل أن تكون مجتهدًا في فهمه والبحث عنه، عندها ستمنحُك الكلمات نفسها لأنّك تستحق ذلك.

أمّا عندما لا تستحق مساندة الكلمات التي تتحدث باسمها لأنك لا تعنيها حقًا، أو لأنك لم تجتهد في حُبّها أو لأنّك كاذبٌ فيما تقول، فإنك ستبدو عاجزًا ومفهومًا ومهزومًا. وحتى تطرد عجزك عن الكلام، ستحاول الاستعاضة عن الكلمات بحركات من يديك أو رأسك، أو بنبرة صوت فيها استهزاء أو صراخ، ستُردد كلمات لا قيمة لها، تهاجم فيها محاوِرك أكثر مما تدافع فيها عن فكرتك، وعندما يضيق بك الحال ويبلغ العجز أوجه، فإنّك ستلجأ إلى إسكات من يحاورك، لأن استمراره في الكلام يزيد جهلك تكشُّفًا. فهل هذا ما رأيناه في الفيديو الذي يوثّق إنهاء أعضاء مجلس الطلبة في الجامعة الأمريكية محاضرة للمفكّر التونسي يوسف صديق بدعوى الإلحاد؟ أم أن هناك قصة أخرى وراء ما حدث؟

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | مجلس طلبة الجامعة الأمريكية يقمع حوارًا بحجّة الإلحاد

خلال دراستي في جامعة بيرزيت كان واضحًا لي ولكثير من الزملاء، أنّ أكثر ما يثير قلق التيارات غير الإسلامية وخاصة خلال انتخابات مجلس الطلبة هو التأثير الديني الذي تملكه الحركات الإسلامية، والذي كان يضمن لها العديد من الأصوات الانتخابية غير المحسومة، لا سيما من الطلاب الجدد أو الطلاب الذين يملكون تصوّرات معيّنة عن العملية الانتخابية، يربطون فيها الأخلاق ، ويعتبرونهما دليلًا على الجديّة في العمل، والأهليّة لتمثيلهم في مجلس الطلبة، والتحدّث باسمهم.

هذه الورقة الرابحة لا تملكها إلّا الحركات الإسلامية، وفي المقابل تجد الحركات الأخرى نفسها في مأزق قد يُفقدها أصواتًا تحتاجها، ومن أجل الخروج من هذا المأزق فإنّ هذه الحركات ستحاول سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين حتى لا يهنأوا بكل هذه الأصوات المجانيّة، فتبدأ هي أيضًا باستحضار (الله) في دعايتها الانتخابية بطريقتها الخاصّة، موجّهة بذلك رسالة للإسلاميين مفادها: لن تأكلوا هذه الوليمة وحدكم، ولنا تفوزوا بهذه التجارة بمفردكم.

مع اقتراب موسم انتخابات مجالس الطلبة في الجامعات الفلسطينية نتساءل إذا كان ما حدث في محاضرة المُفكّر يوسف صديق دعاية انتخابية مبكّرة لشبيبة حركة فتح التي تترأس مجلس الطلبة في الجامعة الأمريكية بعد فوزها بالانتخابات الأخيرة التي جرت في أيار/ مايو من العام 2016، أم أنّ ما حدث لا يتعدى كونه "حركات شباب طائش" لم يصل بعد إلى المنطقة التي يتحاور فيها الناس دون أن يكون للأيادي والصراخ دورٌ مهم في حسم نتائج هذا الحوار. أم أنّ كلا الخيارين يتقاطعان، لنصل لنتيجة مفادها أنّ الدعاية الانتخابية في الجامعات الفلسطينية لا تتعدى كونها مجرّد "طيش" في كثيرٍ من الأحيان؟!

المقلق حقًا في لعبة الانتخابات، أنّ المتسابقين فيها مستعدون لحرق أي فكرة في سبيل الفوز، فلا يبقى للأفكار معنىً أو قيمة، مع كل مرة تستخدم فيها دون طرح جديّ، أو مغزىً حقيقيّ من استحضارها والحديث عنها. بل إن هذه اللعبة الانتخابية تستهدف كلّ الدعوات الجديّة لمناقشة كل ما يخص الموروث الديني والوطني، وتتعمّد محاربتها كنوع من تعزيز شعبيّتها وسمعتها الطيّبة من خلال ترسيخ الصورة المحافظة التي تميل لها الجماهير في بلادنا، عندما يتعلق الأمر بصندوق الانتخابات.

كثيرون، قد تراهم سُعداء بما حصل، ويعتبرونه يؤشّر إلى أنّ "البلاد وشبابها بخير"، بغضّ النظر لو كان هذا الدفاع عن دينهم تمّ بطريقة "زعرنة" يُقاطَع فيها باحثٌ ومفكّر، ويُمنع من استكمال محاضرته بالقوة!

في اللهجة العاميّة الفلسطينية، تعني كلمة "الزعرنة" كثرة المشاكل وسوء السمعة، و"الزعران" عادةً ما يكونوا أفرادًا غير مُرحّب بهم اجتماعيًا. إلا أنّ الكثيرين يسعدون بفعل "الزعرنة" عندما تكون "في سبيل الله".

وبينما يصفّق البعض لـ "الزعرنة" و"الزعران" إذا كانت "في سبيل الله"، فإن هذا التصفيق يعني خسارة فرصة مهمّة لنقاش ما نحتاج مناقشته حول أفكارنا الدينية والوطنية. ومع هذا التصفيق تكون "الزعرنة" قد فتحت بابًا جديدًا للتجارة بالله والوطن وأشياء أخرى، في ظلّ المعارك الانتخابيّة.


اقرأ/ي أيضًا: 

بين رام الله وغزة لعنة عاشق!

يحدث تحت أنوفنا.. عن اللجوء الأفريقي إلى إسرائيل

عشر سنوات على المنفى: احتفاء بحثيّ بعزمي بشارة