12-أكتوبر-2015

حسام عز الدين/ فلسطين

أُدخل سعيد أبو النحس المتشائل، صاحب الولاء المفرط "للدّولة" إلى سجن شطّة، ذلك أنّه من فرط ولائه رَفَع على عصا مكنسة علمًا أبيضَ بعد أن سمع في "ليلة من الليالي الستّ العفريتيّة" على أثير الإذاعة العربية من محطّة إسرائيل دعوةً للعرب المهزومين إلى رفع أعلام بيضاء على أسطح المنازل كي لا ينالها غضب الجيش الإسرائيلي.

شباب فلسطين لم يتعثّروا بسعيد ولا بنحسه، ولن يختفوا كما اختفى

رفع أبو النحس، على حسن نيّة، ذلك العلم الأبيض المعلّق على عصا مكنسة على سطح بيته في شارع الجبل في حيفا، في "قلب الدّولة"، فعدّ ذلك إهانةً وتحقيرًا لها فأُخِذ في السيارة إلى السّجن وتعرّض للضرب والركل ببساطير الضباط الإسرائيليين فيه بعد قصّة طويلة، ثمّ وُضِع في زنزانة بلا نوافذ، يشاركه فيها فدائيّ لاجئ، وكان هذا الفدائي في نظر سعيد هو "الجلال المسجّى" بعينه، حتّى إنّ سعيدًا خَجل ولم يحر جوابًا حين سأله هذا الفدائي عن المنطقة التي جاء منها. 

اقرأ/ي أيضًا: نون النّسوة في المقاومة الفلسطينية

ثمّ قال له الفدائيّ: "مالك يا أخي؟"، فقال سعيد في نفسه "لو كنّا التقينا في الخارج هل كان يناديني بيا أخي؟" ثم انفجر سعيد باكيًا حين عادت به عينا ذاك الفدائيّ اللاجئ عشرين عامًا إلى الوراء، يسمع صراخ حبيبته يُعاد، وعناصر الجيش الإسرائيلي يضعونها في سيارة الترحيل وهي تصرخ: هذه بلدي، داري، وهذا زوجي! بكى سعيد كالأطفال، فقال له الفدائيّ "اصبر يا والدي.."، وحينها اشتدّ بكاء سعيد، لا لشيء إلا لأنّه صار يبكي فرَحًا واعتزازًا، صار يبكي "بكاء الجنديّ يمنحه قائدُه وسام الشّجاعة." ثم قال في نفسه: 

دوسي، أيّتها الأحذية الضخمة على صدري، اخنقي أنفاسي! أيتها الغرفة السوداء أطبقي على جسدي العاجز! فلولاكم لما اجتمعنا من جديد. الحرس الغلاظ، لو كانوا يعلمون، هم حرس الشرف في بلاط هذا الملك. والغرفة السوداء الضيّقة، هي البهو المفضي إلى قاعة العرش! أصبحت أخاه، أصبحت والده. فأعيدوا ابتساماتكم إلى قوالبها أيّها العسكر! 

كثيرٌ منّا الآن يبتغي وصلًا بهذا الفدائيّ الثائر في فلسطين، وعساه يقرّ لنا بنسب أو صلة به أو بأرضنا التي هُجّرنا عنها وبدا علينا لأمدٍ قد طال قليلًا أنّنا نسيناه ونسيناها. لكنّه دومًا يرفق بنا وينعش شيئًا من المعنى فينا حين فقدناه واختبأنا "حتّى تتغيّر الأمور" كما قال سعيد:
-فمن يغيّرها؟ (قالت يُعاد الثانية)
-أخوكِ (الفدائيّ) قال: الشعب.
-الشعب وهو مختبئ؟ 
-أنا وأنتِ نختبئ، أما أخوك سعيد فيكافح
-فيُهدي الحريّة إلى المختبئين؟

ولكنّ الشباب الفلسطيني الخارجين من أبواب مدارسهم وجامعاتهم لم يختبئوا كما فعل سعيد أبو النحس، ولم يكتفوا بنفحة شرفٍ عابرة تأتي "بالمعيّة" من أخٍ ثائر أو ابنة عمّ حرّة. شباب فلسطين لم يتعثّروا بسعيد ولا بنحسه ولن يختفوا كما اختفى، فهذا ديدنهم، وذاك واقعهم التّعس، وليس ثمّة أقدر منهم على دفع الثّمن اللازم لتغييره، فلقد زالت غيمةُ سعيد، ولقد أشرقت الشّمس. 

اقرأ/ي أيضًا: الانتفاضة حدثت.. أغلقوا باب الردة