16-يناير-2019

في الضفة الغربية وقطاع غزة سلطتان، واحدة في رام الله مصنوعة من ورق، وأخرى في غزة من حطب. ففي مدينة رام الله يدار أمر الحكم بطريقةٍ تشبه إلى حدٍ كبيرٍ ما يجري في المسلسل الكرتوني الشهير "توم وجيري"، فما أن يظهر جنود الاحتلال الإسرائيلي في رام الله حتى يختفي رجال الأمن الفلسطينيين، وما أن يختفي الجنود حتى يظهر رجال الأمن ويتصرفون كأنهم في دولةٍ عريقةٍ ذات سيادة لا تجرؤ أية قوة محتلة في العالم على الاقتراب من حدودها الإقليمية.

صورة السيادة تبدو أيضًا واضحة في العديد من مؤسسات الدولة، فزيارةٌ واحدةٌ مثلاً إلى مقر وزارة الخارجية أو إلى هيئة الإذاعة والتلفزيون، أو أي مؤسسةٍ شبيهةٍ، تُشعرك كزائرٍ بالمعنى الحقيقي للسيادة، ففيها إجراءاتٌ مقتبسةٌ من مقراتٍ دولية، تُشبه تلك المتبعة عند زيارة مقر حلف الناتو أو المقر الرسمي للاتحاد الأوروبي، أو حتى وزارة الدفاع البريطانية،  فبهذا تشعر بالنشوة الحقيقية  للسيادة.

في مقرات رسمية بالضفة إجراءاتٌ مقتبسةٌ من مقراتٍ دولية، ومبنى المحكمة الدستورية تفوق ضخامته مباني مماثلة عربية

الشعور ذاته يتولد إذا مررت بمقربة سلطة الطاقة والموارد الطبيعية في مدينة رام الله، فسرعان ما يخيل لك أن علوها الشاهق يطل على آبار النفط والغاز ومناجم الذهب والفسفور باعتبارها جزءًا من الموارد الطبيعية، ولا يخطر ببالك أنه محظورٌ علينا حفر بئر ماء ارتوازيٍ دون موافقة اسرائيلية.

اقرأ/ي أيضًا: حقائق غائبة في تبعات الانقسام السياسي

هذه المظاهر وغيرها من مظاهر السيادة، كالمحكمة الدستورية التي تفوق بضخامتها وهيبة بنائها مباني المحاكم الدستورية في العالم العربي وباقي مؤسسات الدولة العامة، تفقد يوميًا هيبتها حين "يتسرمح" جنود الاحتلال في أرجاء المدينة من حيٍ إلى حي، ومن شارعٍ إلى شارع، ويلاحقهم الصبية بالحجارة، بينما تختفي مظاهر السيادة الزائفة، وكأن مدينة رام الله التي وصفها الكاتب الفرنسي بانجمين بارت بمدينة السراب، تحكمها أيضًا سلطة من ورق كما وصفها أحد الكتاب الفلسطينيين، فلا شرطة مرور في الطريق، ولا ضابطة جمركية على مداخل المدن، ولا مواكب قادة تمر، ولا يبقى مظهرٌ من مظاهر السيادة إلى أن يختفي جنود الاحتلال من المدينة، فتعود حينها من جديد هيبة الدولة كما كانت، وويل لمن ينتقد هيبتها، وتعود تتصدر تصريحات وتحليلات القادة واجهة الأخبار، فنحن أمة دومًا منتصرة.

الكل يتساءل ما الذي يجري في مدينة رام الله؟ لماذا "يتسرمح" جنود الاحتلال وراء كاميرات التصوير وأمامها؟ هل يبحثون عن كنز معلوماتٍ في هذه الكاميرات؟ مع أن الحقيقة تختلف عن ذلك، فلسان حال جيش الاحتلال يقول إن مظاهر السلطة قد تلاشت، ولا مظهر بعد الآن سوى مظهر الاحتلال، وضفة غربية أراضيها جزءٌ من دولة إسرائيل.

 السلطة الحقيقية في الحكم ليس للسلطة الفلسطينية، وإنما لسلطة "المنسق" الذي ينافسها بكل شيء، فهو يدرك أن ثلاث مهام تقوم بها السلطة، هي الأمن الداخلي في المدن والفلسطينية، ودفع الرواتب للموظفين، والحصول على تصاريح الدخول إلى إسرائيل. فمن هذه المهام استمدت السلطة ما تبقى من هيبتها، أما باقي المهام كالقضاء والنيابة فقد كان يقوم بها الفلسطينيون بذاتهم إبان الإدارة المدنية، قبل نشوء السلطة الفلسطينية.

للسلطة الفلسطينية ثلاث مهام تستمد منها ما تبقى من هيبتها هي الأمن الداخلي، ودفع الرواتب، والحصول على تصاريح دخول لإسرائيل

اللافت للانتباه أنه في الوقت الذي كان يقصم به الجيش الإسرائيلي بقوة مظهر الأمن في رام الله بانتشاره  المستمر في أحيائها، كان ما يعرف بـ "المنسق"، وهو اسم وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق، وهي كما تُعرّف نفسها الهيئة المكلفة تطبيق سياسة الحكومة في أراضي" يهودا والسامرة وغزة"، ينشر على صفحته المسماة باسمه على مواقع التواصل الاجتماعي إعلانًا ممولاً مفاده أن بإمكان الفلسطينيين تعبئة تصاريح الدخول إلى إسرائيل إلكترونيًا عبر موقع إلكتروني أُنشئ لهذه الغاية، وبالتالي لم يعد السكان بحاجةٍ إلى السلطة لتنفيذ ذلك من خلال مكاتب الارتباط الفلسطينية.

اقرأ/ي أيضًا: الانقسام: مصلحة إسرائيلية ومستقبل فلسطيني مجهول

كما أطلق "المنسق" إذاعة إلكترونية ناطقة باللغة العربية، ويتحدث على صفحته بإسهاب عن أنشطة الفلسطينيين، بل يروج للمنتخب الفلسطيني وأنشطة فلسطينية أخرى كأنه الراعي الرسمي لهذه الأنشطة، ولا يذكر في منشوراته كلمة السلطة الفلسطينية، ويستعيض عن ذلك بكلمة الفلسطينيين، وكأنهم جاليةٌ مقيمةٌ لدى الحكومة الإسرائيلية ومسؤوليته تنسيق أنشطتهم، وحين يحتاج بمنشوراته لتحديد الجغرافيا في الضفة الغربية يسميها "يهودا والسامرة"، وهي الكلمة التي لطالما كانت تنشط الحكومة الإسرائيلية في استخدامها قبل نشوء السلطة الفلسطينية، وأحيانًا كانت تسميها المناطق المدارة.

والملاحظ أن صفحة المنسق الإعلامية التي تستهدف الجمهور الفلسطيني أصبح لديها مئات آلاف المتابعين، والعدد يتزايد، وبتاريخ 8 كانون ثاني/يناير، نُشر على صفحة المنسق فلم عن "إنجازاته" بخصوص معابر غزة، فاق 136 ألف مشاهدة بعد أربعة أيام فقط من نشره، وكأنه بذلك يريد أن يقول إن السلطة الحقيقية في الضفة الغربية هي سلطة "المنسق".

السلطة الفلسطينية في رام الله لا تبدي اهتمامًا بسلطة "المنسق" التي تعمل بقوةٍ على تقويض سلطاتها في رام الله، ولا ترى عدوًا لها سوى سلطة غزة، فأولويات محكمتها الدستورية كانت حل المجلس التشريعي، وكل هذه الصراعات إن كان لها أثرٌ فهي تُضعف السلطة في رام الله؛ التي باتت بفعل إجراءاتها وإجراءات سلطات الاحتلال  سلطة من ورق.

السلطة في غزة لا يمكن وصفها بأكثر من سلطة الحطب الذي يحترق دون أن يؤتي ثمرًا، بل يخلف جوعًا وفقرًا وبطالة

حال السلطة القائمة في غزة  ليس أفضل حالاً من السلطة في رام الله، وإن بدت للعيان أنها أصلب عودًا وشدة بفضل المقاومة التي قويت بها، لكنها فيما يتعلق ببقية شؤون الحياة لا يمكن وصفها بأكثر من سلطة الحطب، الحطب الذي يحترق ولا يؤتي ثمرًا، بل يُخلّفُ جوعًا وفقرًا وبطالة، وهذا مردوده إلى الحصار وسوء الإدارة الناجمين عن الانقسام، وغياب قواعد الحكم الرشيد، وقمع الحريات، وتنفيذ سياساتٍ قمعيةٍ ضد معارضيها، وتحكم دون أن تأخذ بعين الاعتبار حق العامة في العيش بكرامة.

ولا يعدو القطاع كونه حطبًا يحترق ليعيش على دفئه سلاطين الحكم، تحت شعاراتٍ براقةٍ لا تغني ولا تسمن من جوع، بل تسقط هذه الشعارات حين يكون المقابل مساعداتٍ وأموالٌ تأتي عبر مطار بن غوريون، بإشرافٍ كاملٍ من "المنسق" الذي يشرف على كل ما يدخل إلى قطاع غزة من عناصر الحياة، وكأنه الحاكم الفعلي أيضًا لقطاع غزة.

أعلم أن السلطتين تستكثران على الناس انتقادهما، وتلاحقان من يفعل ذلك، وتتصرفان مع الجمهور الفلسطيني بطريقةٍ استعلائيةٍ دون أن يلاحظا ما وصل إليه واقعهما، وتظنان أنهما بعزة ما بعدها عزة، والحقيقة عكس ذلك تمامًا، فلا هيبة للسلطة والحكم في الضفة الغربية وفي قطاع غزة دون انتهاء الانقسام، واحترام الحقوق والحريات، وصون كرامة المواطن، وبث الروح في مؤسسسات الدولة الدستورية، وإجراء انتخاباتٍ عامةٍ، وقبل ذلك التوصل إلى برنامج عملٍ جماعيٍ تشارك جموع الشعب في صياغته، وبغير ذلك نبقى نستظل بسلطتين واحدة من ورق وأخرى من حطب، مرفوعاتان على عامود خيمة "المنسق".


اقرأ/ي أيضًا:

صفحة المنسق: مؤشر عودة الإدارة المدنية للضفة وغزة؟

السلطة والفصائل سقطت في معركة الدبلوماسية الرقمية

سالب رابين