06-سبتمبر-2015

لاجئون سوريون بمحاذاة الحدود اليونانية - المقدونية (الأناضول)

تأتي المأساة السورية في وقتها، وفي ذروتها، لتأكيد خطيئة العرب الأولى، النكبة الفلسطينية، وما تبعها من ارتدادت سياسية واجتماعية، مثل تهجير الفلسطينين وإفراغ المدينة الفلسطينية داخل ما عرف بعد النكبة بالخط الأخضر، ثم قيام "إسرائيل" بعد ذلك.

 ترافق الأحداث الحالية أكبر موجة هجرة تحدث في التاريخ العربي المعاصر، بعد الهجرة الكبيرة في أواخر العهد العثماني

لا شكّ أن الارتدادات السياسية لما يجري في سوريا غير معروفة حتى اللحظة، هناك ارتدادت اجتماعية تتمثل في تفتّت العائلة، وضياع مستقبل جيل كامل من أطفال اليوم، وهجر المدينة باتجاه أوروبا. وارتدادات سياسية تتمثل في ضياع وطن، وارتدادات قومية تتجلّى في انهيار الأمن القومي العربي في تعريفه القديم.

كأن هذه الهجرة تريد محو المأساة الأولى، أو تطهير صانعها الكولونيالي القديم من جرائمه في فلسطين والعراق. استمرار المأساة منذ ما يزيد عن أربع سنوات يؤكد النتيجة السياسية التي انتهت بها النكبة الفلسطينية، قيام "إسرائيل" التي صارت تبحث في هذا الخراب عن دور لها في محيطها الهش، إلى درجة أنّ هناك دعوات "فيسبوكية" لاستضافة لاجئين سوريين.

كان ارتباط المصير الفلسطيني بالعربي في السابق مقدّمة لارتباطه بالمصير السوري، على الصعيد الشعبي طبعًا، فما يحدث في سوريا اليوم يجد صدى مدويًا في معظم الدول العربية، دول المشرق والخليج أولًا، ومصر ودول المغرب بدرجة ثانية، ربما للبعد الوجداني الجغرافي لما تعنيه فلسطين كجزء من سوريا الطبيعية، وربما للبعد السياسي والتاريخي لمكانة الشام. وهو ما يجعل النظام العربي الرسمي مهددًا في الصميم الآن، وغير قادر نهائيًا على امتصاص أثر الضربة القاضية كما حدث في بغداد 2003.

طبعًا يؤثر في ذلك حجم المأساة السورية المهول وغير المسبوق في التاريخ البشري أولاً، ونوعية التغيير التي تحدث على الخريطة العربية المعاصرة. وكي تكون المقارنة منصفة بين ما حدث في سوريا والعراق، لا بد من الانتباه إلى أنّ ما جرى ويجري في العراق صراع سياسي يحكمه توازن القوى الخارجية وهمينتها في المجتمع العراقي، في حين أنه تم سحق هذا المجتمع وقواه من قبل النظام السوري. من جانب آخر، ترافق الأحداث الحالية أكبر موجة هجرة تحدث في التاريخ العربي المعاصر، باتجاه شمال الكرة الأرضية، بعد الهجرة الكبيرة في أواخر العهد العثماني. ما يجعل تأثير سوريا ذا بعد دولي وعالمي.

وجود نظام ديمقراطي في سوريا، أو مصر، غير مريح  بالمطلق لمن يحكمون في "إسرائيل"

من جانب آخر، يمكن القول إن النظام الأبوي الذي يحكم المجتمع العربي في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويهيمن على بنية الدولة وعقلها الإداري، ما زال يرفد الصراع بالأسلحة والمقاتلين ولم يتب عن ذلك، ولم يتراجع أمام الأبناء الذين خرجوا، في بدايات الثورات، لإدانة هذا النظام برمته. بمعنى آخر، لأول مرة في التاريخ العربي لبلاد الشام والحجاز، يكون الصراع في جوهره على شكل الدولة ووظيفتها، بين من يريدها دكتاتورية شمولية، وبين من يريدها دولة إسلامية، وبين هذا وذاك أناس يريدونها دولة عدل وقانون. هذا يعني أن المعادلة التي كانت قائمة، وكانت مريحة لإسرائيل، لم تعد موجودة، فوجود نظام ديمقراطي في سوريا، أو مصر، غير مريح  بالمطلق لمن يحكمون في "إسرائيل"، أو للملكيات العربية.

في هذا السياق، يمكن الحديث عن المليشيات المتطرفة ومصادرتها للثورة السورية، أو حتى على أجهزة الثورة الأخرى، عبر نظام المحاصصة والمناطقية الذي اتبعته، كأحد أشكال النظام الأبوي، ويمكن الإشارة هنا إلى أن دعم الملكيات التي تخوض حربًا في اليمن، للتشكيلات الإسلامية المختلفة في الساحة السورية وسواها، كان بناءً على رغبة الملكيات العربية بتكريس سلطة النظام الأبوي الذي اهتز لتنجو من مصير الجمهوريات الموشكة على الانهيار.

النظام السوري، ومعه النظام العربي، الذي لم يحسم أمر خطيئته الأولى في فلسطين، ولم يستطع أن يتجاوزها، لن يستطيع أيضًا تجاوز المأساة السورية، لذا فهو ذاهب نحو الصدام مع ذاته، إما لفنائه أو تأكيد نفسه. لكن مشكلة تأكيد نفسه تعني تأكيد وجود "إسرائيل"، أو تأكيد ولادتها الثانية، الطبيعية هذه المرة، لا القسرية كما في السابق.