03-مارس-2017

تصوير: عباس مومني/ getty

هذا المقال يأتي ردًا على نقاش دعا له زاهر عبد الباقي في مقاله: "سينما فلسطين".. حضرت إسرائيل وغاب الهنديّ الأحمر، والذي تناول معضلة تلقي تمويل إسرائلييّ في صناعة السينما. إليكم المقال:


قدّم مهرجان "سينما فلسطين" في نسخته الثالثة، مجموعة من العروض السينمائية الفلسطينية، التي تباينت قيمتها الفنية بين الممتاز والرديء، كحال أي مهرجان يعرض كميّة من الأفلام في فترة معيّنة، ومن الناحية (الوطنية) إن صح إطلاق صفة كهذه على فيلم، فإن مضمون الأفلام جميعها لن يُرضي ذائقة متفرّج واحد، فكيف تُرضي عروض المهرجان ذائقة جمهور كثيف لا يمكن إطلاق صفة عامة عليه، كما وصف كاتب المقال "جمهور مهتم بالقضية الفلسطينية"، حيث لم أتمكن شخصيًا من حجز تذاكر أحد العروض قبل موعده بيوم لكثافة الجمهور.

وبعد عروض أغلب الأفلام كانت تجري نقاشات غاية في الأهمية، يأتي غناها الأساسي من تنوع الجمهور، واختلاف ثقافاتهم العامة، والشخصية، فصالة السينما اتسعت لأشخاص أتوا من باب الفضول لا أكثر، وربما كانوا من أكثر الناس تطّرفًا ضدّ القضية الفلسطينية وهذا أمر وارد طبعًا ما دمنا في فرنسا، واتسعت لفرنسيين آخرين متعاطفين فعلًا مع القضية الفلسطينية وعارفين بتعقيداتها، وآخرين متعاطفين من باب "الكليشيه الثورية" التي لا تسمن ولا تغني عن جوع.

من ناحية أخرى كان هناك عربًا، وفلسطينيين من الداخل ومن الشتات في الصالة، وعندما نقول الشتات، نعني حرفيًا عددًا من الآراء بعدد حامليها، فإن سألت أي لاجئ فلسطيني عن رأيه أو موقفه من القضية الفلسطينية في الوقت الراهن، لن تحصل في الغالب على جوابين متشابهين، هناك من يؤمن بالحرب إلى ما لا نهاية حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني، وهناك من يؤمن بحلّ الدولتين، وهناك من يؤمن بحل الدولة الواحدة وللجميع مبرراته، وحتى الحالات المذكورة هي حالات عامة من غير الممكن حصر تشعبات المواقف الفردية داخل كل حالة منها. ونحن هنا لا نتطرّق لجمهور أتى من أجل السينما الفلسطينية، أو فيلم بعينه، دون أن يكون له موقف من القضية الفلسطينية أصلًا، إنما نحاول الإضاءة على تمايزات بين الجمهور تتعلق بالقصية الفلسطينية لا الفنية.

بدل أن نلومهم، علينا أن نسأل ماذا صنعنا لهم من الخارج؟ وما الذي كان بإمكانهم أن يصنعوه من الداخل؟ وإلى متى ستصمد هويتهم الفلسطينية 

وفي ظل فردانية الموقف من القضية الفلسطينية، واختلاف وجهات النظر بين شخص وآخر، يبقى المعيار هو نبذ الاحتلال والتعاطي معه كاحتلال، وهذا ما تمّ التأكيد عليه في كل عروض المهرجان، ونقاشاته، لكن طمس اختلاف وجهات النظر والتعاطي مع المنتجات الفنيّة من صُنّاع السينما الفلسطينية بصفتها حقائق، يدخلنا بتعميمات تقود إلى "كلام من فوق الأسطح". وما يجعل التلقي (وهو عملية فردية) أكثر جدوى، هو مشاهدة الفيلم باسترخاء، ومن ثم أخذ ما طرحه صُنّاع الفيلم بصفته وجهة نظرهم فقط، وليس حقيقة مطلقة، واستيعابها ضمن مواقفنا السياسية والفكرية والاجتماعية الشخصية. ليكون تلقينا للفيلم يحمل من العلمية قدرًا يسيرًا لا نظلم معه أنفسنا، ولا نظلم السينما الفلسطينية كمفهوم عام، ولأن المفاهيم العامة غير دقيقة في أغلب الأحيان، فإنّها ستجرنا إلى تعميمات أبعد تتعلق بالقضية الفلسطينية نفسها. فيضيع المعنى بكبر المفردات.

ربما فات كاتب المقال النقاشات التي احتدمت بعد معظم العروض، والتي لم ترحم صُنّاع العمل من أجل لقطة في الفيلم، أو جملة في الحوار، دون أن يكون "الفن للفن" كما أشار، بجملة تحمل من السلبية معنى انتفاء المقولة السياسية عن الأفلام المعروضة، فالسياسي حضر في النقاشات أكثر من الفني. وكيف يكون إنتاج الفن للفن في بلد كتب عليه أن يكون كل ما فيه من أجل قضية كبرى يخاف عليها أبناؤها من التلاشي في زحمة قضايا العالم الراهنة، فكل فنان في العالم يستطيع تقديم فن للفن، دون أن يكون هذا سبّة له، إلّا الفنّان العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا، والذي إن تنفس كان لنفسه بُعد الشهيق وبُعد الزفير وبُعد سياسي يدخل بينهما. فإن أعلن جهارًا أنه يصنع فن للفن، سيرفض جمهوره هذا، وسيجد كل واحد قراءته السياسية الخاصة، هذا ولم يطرح أحد المخرجين في المهرجان أنه يصنع فن للفن، الكلمة المستغربة كعنوان فرعي في مقالة عبد الباقي.

ومن ناحية التمويل، فبالطبع من حق كاتب المقال أن يقلقه أسرلة السينما الفلسطينية عبر تمويلها، وهو موضوع يقلقنا جميعًا ونتفق على بغضه، وبهذا الخصوص أشار كاتب المقال لفيلمي بر بحر لميسلون حمود، وأمور شخصية لمها الحاج، لن أتحدث عن الأول، لا لشيء إنما لضعفه الفنّي، وابتذال طرحه، وغياب صُنّاعه عن المهرجان. قبل الخوض بتفاصيل تمويله، أمّا أمور شخصية فإن مها الحاج أول ما قالته في قاعة السينما بغياب كاتب المقال أن الفيلم فلسطيني رغمًا عن أنف الجميع، هذه الجملة التي قيلت على الملأ قد تكلف المخرجة الكثير بالعلاقة مع الداعم الذي فرض عليها أن لا يتم التعريف عن الفيلم إلّا بصفته فيلمًا إسرائيليًا. وكان جليًا استياءها من تمويل الفيلم ورغبتها بأن يموّل عربيًا. أمّا مضمون فيلمها فلم (يتأسرل) بالتأكيد.

العارف بأمور التمويل السينمائي يدرك أنّ السلطة لا تدفع وشركات الإنتاج العربية لا تدعم الفيلم الأول، والشركات العالمية تسعى لمحق سينما فلسطين

والعارف بأمور التمويل السينمائي في العالم العربي يدرك أنّ السلطة الفلسطينية لا تدفع، وأنّ شركات الإنتاج العربية لا تدعم فيلم أوّل لأي مخرج، والشركات العالمية تفضّل بالطبع أن تمحق السينما الفلسطينية بدل أن تموّلها. إلّا اللهم حين تصبح سينما شبّاك، هنا يصبح اللجوء للمموّل الإسرائيلي أمرًا واقعًا، لا أمرًا مشروعًا مشتهى. وابن مناطق الـ48 لا تقف حدود علاقته مع إسرائيل - وهي الدولة التي يتعامل معها للأسف- على تمويل فيلم، إنما نحن من اعتاد على أن يدير وجهه عن مجتمع يعاني من أسرلته قسرًا منذ عقود، ولم يعد إنتاج فيلم تعذّر إنتاجه بطريقة أخرى فرصة ودليلًا على إدانته دون النظر بمحتواه، وإن أردنا أدلة على الأسرلة فكلنا يعرف ويغض البصر عن أن أجيالًا كاملة في بعض مناطق الـ48 تتكلم العبرية فيما بينها أكثر من العربية. وبدل أن نلومهم، علينا أن نسأل ماذا صنعنا لهم من الخارج؟ وما الذي كان بإمكانهم أن يصنعوه من الداخل؟ وإلى متى ستصمد هويتهم الفلسطينية في ظل دولة متجبرة كإسرائيل، وصراع يقوم على الشعارات؟ فمن وجهة نظر شخصية بحتة وهي ليست بحقيقة، أرى أن الواجب هو مشاهدة هذه الأفلام التي أتاحت لنا تصورات عن حياة الناس في هذه المناطق، علّنا نُغني خيالنا ونمحو شيئًا من تصوراتنا المسبقة عن ملائكيتهم وملائكيتنا ونبتعد عن الشعارات. ونغوص في حوار حقيقي حول كيفية صناعتهم لسينماهم، فنفكر معهم، ونجادلهم.

من السهل أن يتهم ما كتبته في الفقرة السابقة بأنه دفاع عن التمويل الإسرائيلي، الأمر الذي لو أردت صناعة فيلم لرفضته بالمطلق، لكنّي لست ابنًا لرجل ولد في ظل الدولة المحتلة، وخياراتي بالعلاقة مع إسرائيل كفلسطيني "شتات" مفتوحة تبدأ من الرغبة بمحوها وتنتهي برغبة بسلام معتوه على طريقة السلطة الفلسطينية، مرورًا بالعديد من الخيارات، لكن ابن تلك المجتمعات لا يرى الموضوع من زاويتي المفتوحة، فهو محشور بزاويته منذ عقود، ولم يُترك له خيار إلا ما فرضه الفشل إثر الفشل في حل القضية الفلسطينية، ولا يسأل المرء عن خياره عندما يكون الأمر واقعًا، بل يُنجد مما ألمّ به.

أمّا ما أعجبني شخصيًا في المهرجان أنّ الأفلام المختارة كان معظمها أبعد عن الكليشيه، حيث غاب عنها الهندي الأحمر وحضر الفلسطينيّ بتفاصيله الحياتية المختلفة، في الضفة وغزة والأراضي المحتلة والشتات، كما حاولت مقاربة واقع نحن بغاية البعد عنه، وأنها لم تقتصر على أفكار كبرى نضالية فقط، وإلّا لانتفت متعة الفرجة السينمائية، وأصبحنا أمام دروس ومحاضرات، ولاقتصر حينئذ جمهور المهرجان على "جمهور مهتم بالقضية الفلسطينية" على حدّ وصف كاتب المقال لجمهور المهرجان الواسع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"صيد الأشباح" أفضل وثائقي في برلين السينمائي

99 مثقفًا فلسطينيًا يرفضون مصادرة الإبداع والثقافة

فيلم "جرافيتي".. القصة بأبعاد ثلاثة