24-أغسطس-2019

أوشكت السلطة الفلسطينية على الانهيار، واستنفذت كل أموال الطوارئ التي كانت بحوزتها، وأنفقت كافة القروض التي حصلت عليها من البنوك الفلسطينية، واقتربت خزينتها من الإفلاس، في ظل استمرار رفضها استلام أموال المقاصة منقوصة، بعد أن احتجزت إسرائيل مبالغ مالية من عائدات الضرائب، تُعادل ما تدفعه السلطة لعائلات الشهداء والأسرى.

بعد كل ذلك، خرجت السلطة الفلسطينية بإعلانٍ دراماتيكيٍ مفاجئٍ معلنة انتصارها على سلطة الاحتلال الإسرائيلي، وقالت إنها ستدفع هذا الشهر ما قيمته 110% من قيمة رواتب الموظفيين العموميين، بواقع 60% من راتب هذا الشهر، و50% من راتب شهر شباط الماضي، وهو الشهر الأول الذي خفضت فيه الرواتب إلى النصف.

اتفاق ضريبة المحروقات ضَمِنَ أن تبقى السلطة ضعيفة وتتكيف مع الوضع القائم

قال بعض المسؤولين السياسيين، إن هذا الاتفاق جاء نتيجة مفاوضاتٍ مضنية، وقدموا هذا الاتفاق إلى الجمهور انتصارًا تاريخيًا قد يغير وجه المنطقة، باعتباره اتفاقًا يكسر لأول مرة شروط اتفاق باريس، ولا يستبعد أن يكون الاتفاق المذكور في نظر البعض قد خلخل قواعد اتفاقية أوسلو، وفقًا للحرارة التي أعلن فيها عن الاتفاق، وهو في الحقيقة اتفاقًا ضمن أن تبقى السلطة ضعيفة وأن تتكيف مع الوضع القائم، ولم ينجح في إجبار الحكومة الإسرائيلية على التراجع عن احتجاز أموال المقاصة، السبب الرئيسي للأزمة، بل خلق (القرار) وقائع جديدة من شأنها أن تُبقي الأموال المحتجزة محتجزة، ومن شأنها أن تُبقي السلطة في نفس الوقت تتنفس على قيد الحياة، ففي بقائها بصورتها الضعيفة مصلحةٌ أمريكيةٌ إسرائيلية، فهم لا يريدون سلطة قوية، ولا يريدونها في ذات الوقت أن ترحل، كي لا يتحملوا تبعات الاحتلال وفقًا للمواثيق الدولية في التعاطي مع الأراضي المحتلة.

اقرأ/ي أيضًا: هل يمكن التعويل على رفض السلطة للضغوطات؟

الحل الذي أُعلِن عنه مؤخرًا ليس جديدًا ولا مفاجئًا، وكان مطروحًا من الجانب الفلسطيني خلال الشهور الثلاثة الأولى للأزمة، وكان يقابل برفض إسرائيلي طوال الفترة السابقة، لأن إسرائيل كانت تعلم أن السلطة الفلسطينية قادرةٌ على تغطية نصف رواتب موظفيها حتى نهاية شهر تموز/يوليو، وبالتالي هي قادرة على أن تبقى على قيد الحياة إلى شهر آب/أغسطس، لذا رفضت طرح جباية السلطة لضريبة الوقود (البلو) قبل أكثر من ثلاثة شهور، فالسلطة كانت قادرة على البقاء تتنفس طوال هذه الفترة دون قبول العرض الفلسطيني.

بموجب اتفاق جباية ضريبة الوقود (البلو)، ستجبي السلطة الفلسطينية ما مقداره 240 مليون شيكل شهريًا، أي ما مقداره سنويًا 2.4 مليار شيكل سنويًا، ما يشكل أكثر من 30% من ضريبة المقاصة، هذا عدا عن ضريبة 16% التي تُفرض على كامل تكلفة الوقود وليس على ضريبة (البلو) التي تشكل قيمتها 100% من قيمة الوقود، ومقدارها قد يصل شهريًا إلى 76 مليون شيكل. 

يضاف إلى هذا كله، جمارك تفرض سنويًا على حوالي 28 ألف سيارة يتم تسجيلها سنويًا في الضفة الغربية، تعادل قيمة جمركها أثمان السيارات عند استيرادها. نضيف على ذلك رسوم ترخيص 288 ألف مركبة خاصة وعمومية وللنقل التجاري، نزيد عليها ملايين الشواقل التي تدخل خزينة السلطة الوطنية الفلسطينية بفضل سياسة جباية مخالفات السير، ففي إحدى الإحصائيات التي صدرت عن الشرطة الأوروبية، بلغ عدد مخالفات حزام الأمان فقط خلال ثلاثة شهور ما مقداره 2.2 مليون شيكل، أي أن هذا النوع من مخالفات الحزام فقط يدر على الخزينة العامة أكثر من 10 ملايين شيكل سنويًا، فكيف الأمر مع باقي المخالفات؟ يضاف على ذلك الضرائب التي تاتي من الصيانة والتصليحات، وبيع كماليات السيارات وغير ذلك من الأنشطة المشابهة. وهذا يعني ببساطة أن الإيرادات المتعلقة بالسيارات وتشغيلها تشكل أكثر من نصف إيرادات السلطة الفلسطينية.

الإيرادات المتعلقة بالسيارات وتشغيلها تشكل أكثر من نصف إيرادات السلطة الفلسطينية

 نستطيع القول بثقةٍ أن دوسة على مكبح بنزين السيارة لا تُشغل السيارة فحسب، بل تُشغل في ذات الوقت السلطة الفلسطينية بكامل أجهزتها، فالنقرة على المكبح تشغل حوالي 160 ألف موظف، وتضمن نصف الرواتب الممنوحة لهم بدءًا من الوزراء والسفراء ورؤساء الهيئات والقضاة، وانتهاءً بأصغر موظف عمومي.

اقرأ/ي أيضًا: هل تنهار السلطة في نهاية تموز؟

هذا كله يفسر ما يعتقده البعض فوضى سوق السيارات، إذ صار معهودًا أن نشاهد في مدن الضفة الغربية وبعض بلداتها ما بين كل معرض ومعرض لبيع السيارات معرضًا آخر، فقد ازدادت نسبة تملك الأسر الفلسطينية في الضفة الغربية للسيارات، وباتت الشوارع مزدحمة بالسيارات في غالبية الأوقات، في وقت لم يترافق فيه مع هذا التقدم في ملكية السيارات الخاصة والسيارات العامة، أي تقدم ملحوظ في بناء شبكات نقل عام للركاب، تخدم عامة الناس وتقلل من تكلفة المواصلات وازدحامات المرور، فهذه الحالة التي يعتقدها الجمهور فوضى وقصر نظر عند الحكومة، هي في الحقيقية سياسةٌ مدروسةٌ، تمكن السلطة من تشغيل نفسها قبل أن يتمكن السائق من تشغيل سيارته، والدعس على مكبح الوقود.

إن أبرز النتائج المحتملة المترتبة على ما يعرف باسم اتفاقية جباية جمارك الوقود مباشرة، هو الكشف عن إشكاليةٍ اجتماعيةٍ حقيقيةٍ تتعلق بحجم الاستغلال الذي يتعرض له المواطن الفلسطيني، الذي شجعته الحكومات السابقة على اقتناء السيارات، وربطت الموظفين بديونٍ إلى البنوك وشركات تمويل السيارات، مقابل تسهيلاتٍ فرضتها من أجل شراء السيارات، وبذلك ضمنت أن يبقى المواطن مهمومًا بتسديد ديون القروض المفروضة عليه، كما ضمنت لنفسها مصدر دخل كان يغطي في سنوات الرفاهية نصف موازنة الرواتب، والآن في ظل أزمة المقاصة والسنوات العجاف يغطي معظم موازنتها، وهذا يدل على فشلٍ اجتماعيٍ واقتصاديٍ في سياسات السلطة الاجتماعية، ومن غير العدل أن يسميه أحدٌ انتصارًا كُسِرَ بموجبه أحد قواعد باريس، بل أن الاتفاق كشف كارثة اجتماعية، قلَّ ما تناولتها الجهات المعنية بحماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ولم تحظى من قبلُ بالاهتمام الذي تستحقه.

لقد حان الوقت الذي يتوجب فيه على الحكومة أن تعيد النظر في كل سياساتها الاجتماعية والاقتصادية، بما يضمن العدالة والتنمية، فكل الحكومات السابقة كانت ضالةً في ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، وخَدَمت مصالح الرأسمال المحلي أكثر من خدمتها مصالح المواطن.


اقرأ/ي أيضًا: 

سلطتان من ورق وحطب على عامود خيمة المنسق

انترنت الفقراء.. الاتصالات والاحتكار مجددًا

ممالك الطوائف الفلسطينية