29-أكتوبر-2019

الترا فلسطين | ترجمة فريق التحرير

يجلسون في الطابق الخامس والعشرين، في برج فخم في "تل أبيب"، من وراء باب ثقيل ومقفل، حيث الأجواء السائدة تشبه ظروف شركات تطوير التنقيات العالية "الهايتك" من ناحية الرواتب والرفاهية داخل بيئة العمل. مجموعةٌ من الأشخاص أصحاب الخبرات النادرة يعملون هناك بحماس، جزءٌ منهم خريجون من جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجية "الموساد"، ومن الوحدات الأكثر سرية في جيش الاحتلال، ومنتجاتهم وفقًا لصحافية التحقيقات الإسرائيلية الشهيرة إيلانا ديان، "قد تكون مُظلمة وخطيرة أكثر بكثير مما بالإمكان تخيله".

خريجون من الشاباك والموساد يعملون في شركة بلاك كيوب ويستخدمون أساليب الجهازين في عملياتها

يُطلق على هؤلاء، شركة "بلاك كيوب"، وهدفها الرسمي المُعلن تقديم معلومات استخبارية تجارية، لكن ما يختفي خلف هذا الهدف مثيرٌ جدًا وفق تسجيلاتٍ ووثائق وشهادات من الداخل أوردها تحقيقٌ بثه برنامج التحقيقات الصحافية "عوفدا".

اقرأ/ي أيضًا: شركة إماراتية تقدم عروض عمل مغرية لخبراء إسرائيلين

مؤسس شركة "بلاك كيوب" دان زورلا، ترعرع في حيفا وأدى خدمته العسكرية الإلزامية في وحدةٍ استخبارية "هامة وسرية". أنهى بتفوق دراسته في الاقتصاد أثناء خدمته العسكرية، وكان في الثامنة والعشرين فقط من عمره عندما وصل إلى العاصمة البريطانية لندن، وأسس شركته، وبذلك يكون قد انضم إلى أصحاب الملايين المحتاجين إلى خدمات استخبارية تجارية، فأصبح الشخص الذي يُحضر لهم أية معلوماتٍ من أي مصدر تقريبًا من أجل الإفلات من تحقيقاتٍ وأحيانًا من أجل هزيمة منافس.

مؤسس الشركة

يتحدث ايتان يوينت، الموظف السابق في الشركة، عن افتتاح مكتبها في لندن قائلاً: "في الواقع زورلا جلب كل رفاقه في الشعبة داخل الوحدة السرية الاستخبارية في الجيش، لقد جلب جنوده والضباط الذي عملوا معه، كل هذه العصابة، حوالي ستة رجال يجلسون ويقومون بأعمال البحث والتحري، وبذلك أصبح لديه طاقمٌ قياديٌ خاصٌ. لقد طَوَّر تكتيكات تُشبه بالضبط ما ورد في فيلم ذئب وول ستريت، لقد جنى الكثير من المال في وقت قصير نسبيًا".

في بداية عمله، حرص زورلا على الحفاظ على مظهر الشخص الذي يدير شركة تملك قدراتٍ خارقة، يشرح بوينت ذلك موضحًا أنهم كانوا يذهبون إلى أصحاب المليارات وقد ارتدوا ساعات ثمن الواحدة منها 10 آلاف دولار، ويحملون أقلامًا ثمن أحدها ألف دولار.

يُضيف، "كان من المهم بالنسبة له منذ اللحظة الأولى أن يظهر بصورة الثري. قام ببناء علامته التجارية باسم بلاك كيوب، وبنفسه رسم شعار شركته التي ستتحول بسرعة إلى العلامة التجارية الأكثر لمعانًا في ميدان الاستخبارات التجارية".

المظهر العام لمقر الشركة في لندن، يعطي انبطاعًا أنها شركة فتية يعمل فيها شبان يافعون. تبدو كأنها شركة "هايتك"، ويفوح من كل شيء فخامة تشي بأن نطاق عملها يتمد على مستوى دولي، في محاولة للإيحاء للزبائن المحتملين بأنها النسخة المدنية من جهازي "الموساد" و"الشاباك"، وكذلك وحدة 8200 التابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية "أمان".

موظف سابقٌ آخر في الشركة يكشف في شهادته عن أساليبها التسويقية قائلاً: "أثناء حديثهم مع زبائنهم يتفاخرون بالأساليب والقدرات وبأن لديهم موظفين كانوا رجالاً في الموساد".

تفخر شركة بلاك كيوب بوجود موظفين كبار في الشاباك والموساد بين صفوفها

عرضت معدة التحقيق شريط فيديو يوثق دورة تدريبية لـ"بلاك كيوب"، وقد بدت المادة كأنها أخذت من المساقات التدريبية في "الموساد"، حيث تدربوا على تكتيكات التجسس وعرقلة مرور حافلة في قلب "تل أبيب". وفي تدريب آخر ينفذون مهمة أخرى بالدخول لمنزل بإقناع أحد السكان على السماح بإدخال شخص غريب لمنزله، ويحرص المتدرب على التصوير لكي يثبت لمدربيه أنه أنجز المهمة.

اقرأ/ي أيضًا: 

يشرح موظفٌ سابقٌ لم يكشف عن هويته هذه التدريبات موضحًا أنها تعتمد على المعرفة التي أنتجتها وزارة الأمن، أي أن هذه التدريبات تستخدم في تأهيل شخص للعمل في جهاز "الموساد"، وبالتالي فإن من حصل على هذه التدريبات في الجيش أو "الشاباك" أو "الموساد" فإن هذه الأدوات والمهارات بإمكانها خدمة الشركة.

ويضيف أن موظفين كبار في شركة "بلاك كيوب" عملوا سابقًا في منظومة الأمن الإسرائيلية، وبعضهم واصلوا المشاركة في عملياتٍ للمنظومة الاستخبارية الإسرائيلية أثناء عملهم في الشركة.

ويؤكد موظفٌ سابقٌ آخر أن معلومات استخبارية وأمنية وأساليب وخطط قتالية وعقيدة أمنية تتسرب من الجيش والأجهزة الاستخبارية إلى فضاءات شركة "بلاك كيوب"، وذلك من خلال الموظفين السابقين في هذه الأجهزة الذين يتحدثون فيما بينهم بتوصيف دقيق جدًا عن نشاطاتهم في الدول، مضيفًا أن الشركة تستخدم معارفها لتحقيق مصالح تجارية.

الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي عوزي ديان، رأى خطورة في استخدام أساليب عمل الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية من قبل شركات خاصة، وقال: "في الحالة الاستخبارية الأمر أكثر حساسية لأنه عالم سري ويتعلق بأمور تصنف بأنها أسرار دولة، لذلك من المحظور الكشف عن أساليب عمل تعتبر أسرار دولة، أو الكشف عن مصادر سرية".

عوزي ديان: استخدام أساليب عمل أجهزتنا الاستخبارية في شركات خاصة خطيرٌ جدًا ومحظور

أما اللواء احتياط حنون غيفين، وهو القائد السابق لوحدة 8200 الاستخبارية المتخصصة في التجسس الإلكتروني، فقال: "قدرات وحدة 8200، تعود ملكيتها لدولة إسرائيل. أيضًا جهاز الشاباك لديه قدرات مشابهة، والموساد أيضًا. هذه الأدوات والأساليب تتسرب إلى الخارج، والدولة وفقًا لتقديري عاجزة".

اقرأ/ي أيضًا: يديعوت تكشف تفاصيل تجنيد مسؤول عربي لصالح إسرائيل

ولا يقتصر ارتباط شركة "بلاك كيوب" بالمنظومة الاستخبارية الإسرائيلية على استخدام العناصر البشرية وأساليبها، وإنما أيضًا في الاعتماد على سمعتها التي تعتبر بلا شك رسالة تسويقية في غاية الفعالية توُجه إلى الزبائن. يشرح ذلك رونان بارو، وهو صحافي التحقيقات في صحيفة "نيويورك تايمز"، فيقول: "إحدى النقاط التي تعتمد عليها بلاك كيوب في التسويق هو أنك في الواقع تسأجر قدرات وخبرات جهاز الموساد. في حال وجهت سؤالاً إلى الكثير من زبائنهم، فإن الأمر الأول الذي سيقولونه لك إن هذا موساد قطاع خاص".

استراتيجية التسويق آنفة الذكر بلغت ذروتها عندما وافق رئيس جهاز "الموساد" مائير دغان على أن يكون الرئيس الفخري للشركة. توفي دغان لكن اسمه مازال يظهر حتى الآن في قائمة المجلس الاستشاري لشركة "بلاك كيوب" التي تضم أيضًا أسماء مثل الرئيس السابق لـ"الموساد" افرايم هليفي، والقائد العام السابق للشرطة يوحنان دنينو، واللواء احتياط غيورا ايلند، وهو الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي.

يُبين الموظف السابق ايتان يوينت، أن استخدام أسماء ضباط كبار يُساعد في الوصول إلى أصدقائهم من المسؤولين في دول أخرى، إضافة إلى أن وجود كل هؤلاء يوحي بأن الشركة في غاية النجاح وعلامة تجارية دولية.

ضمت شركة بلاك كيوب مسؤولين سابقين في الشاباك والموساد لمجلس إدارتها وتستخدم أسماءهم في جلب زبائن دوليين

ينفي افرايم هيلفي أن تكون الشركة قد استخدمت اسمه في تبييض أعمالها، ويقول: "لقد انضممت للشركة قبل عدة شهور من أجل تقديم المساعدة ولمنع وقوع الأخطاء التي وقعت في السابق. ولو سألتني إن كانت هذه الشركة تساهم في تحقيق العدل فأنا أعتقد أن الإجابة نعم".

تُعلق معدة التحقيق قائلة: "الذي يصفه رئيس الموساد السابق تحقيق العدل هو مشروعٌ استخباريٌ خاصٌ لصالح الزبائن القادرين على دفع الثمن. هناك أساليب خداع تقوم على تقمص الشخصيات، هكذا يبدو الأمر من الداخل".

ثم تستعرض شهادة موظف سابق في الشركة، يوضح آلية العمل مبينًا أن هناك محللين يدرسون شخصية الهدف ثم يتم تقديم الأفكار وتتحول العملية من مقر القيادة إلى عاتق المنفذين في الميدان.

ووفق التحقيق، فإن الطواقم الميدانية هم "رأس الحربة" في عمل الشركة، وهم من يتم إرسالهم لممارسة الخداع والكذب وتقمص الشخصيات وتشخيص نقاط الضعف، ولدفع الشخصيات المستهدفة إلى تقديم معلومات وأسرار.

وتضع الشركة في سلم أولوياتها التوصل لمعلوماتٍ عن الأشخاص المستهدفين بغض النظر عن آليات الوصول إلى ذلك. يقول موظفٌ سابق: "لا توجد قيود. إذا كنت قادرًا على إحضار المعلومات، فإن آلية الحصول على المعلومات ليست أمرًا هامًا. لم أشعر يومًا أنهم وضعوا أمامي حدودًا في أي أمر، سواءً كان ذلك في البحث والتفتيش أو من ناحية الأساليب، الذي يتطور في العمل هو من يملك الدماغ الأكثر إجرامًا".

لا توجد أي قيود أمام طواقم شركة بلاك كيوب عندما يتعلق الأمر بجلب المعلومات فهم ينتحلون شخصيات آخرين

يكشف التحقيق أن موظفين في الشركة انتحلوا شخصية مسؤول رفيع في بنك سويسري، وذات مرة انتحلوا شخصية موظف في وزارة المالية، موضحًا أن الشركة بعد تحديد الاسم يُمكن تجهيز صورة أبناء العائلة للعميل وبطاقة ائتمان مزيفة.

اقرأ/ي أيضًا: هآرتس: صفقة للتجسس في الخليج بين الإمارات وإسرائيل

وتخضع الشركة عناصرها الميدانية إلى دوراتٍ لإتقان فن المكياج، وقد نشر التحقيق صور المدير العام للشركة دان زورلا مع طاقمه الذي يتدرب على استخدام مواد تنكرية من بينها شعرٌ مستعار.

واستعرض التحقيق أيضًا "عمليات قذرة" نفذتها الشركة على امتداد أربع قارات، من بينها عملية استخبارية نفذتها لصالح رئيس الكونغو جوزيف كابيلا نهاية عام 2015، واستمرت حتى عام 2017، وقد كرست لها الشركة أفضل محلليها، وخلالها تواصل زورلا شخصيًا مع كابيلا.

وأظهرت الشهادات التي أوردها التحقيق، أن شركة "بلاك كيوب" قدمت جهاز "شاباك خاص" لأغراض كابيلا وجلبت له معلوماتٍ حول رجال المعارضة الذين يشكلون خطرًا على نظامه في داخل الكونغو وخارجها.

هذه العملية نفذها "أشخاص عباقرة" من خريجي وحدة 8200 متخصصين في اختراق الحواسيب، تلقوا رواتب بمئات آلاف الشواكل، من أجل التنصت على الهواتف وتعقبها وتحديد أماكن وجود الأشخاص، خاصة المسؤولين الحكوميين والمعارضين.

نفذت شركة بلاك كيوب عمليات قذرة لصالح زعيم كونغو ومليارديرية إسرائيليين استهدفت معارضين ووزراء

كما استهدفت عمليات الشركة، الناشط الحقوقي البريطاني دانيال باليت، الذي أعدّ أبحاثًا حول الكونغو وعلاقة زعيمها بالملياردير الإسرائيلي دان غلتر الذي جمع ثروته بفضل تجارته بالألماس بالتعاون مع كابيلا.

ولم يكن الوزراء والمسؤولون والصحافيون والقضاة في إسرائيل محصنين من عمليات شركة "بلاك كيوب"، فالشركة استخدمت "فتاة إغراء" لاستدراج أحد الصحافيين ودفعه لكشف معلوماتٍ حول عمله لصالح شركة كبرى. كما بحثت عن علاقة خارج نطاق الزوجية لقاضية كانت تنظر في قضية مرفوعة ضد ملياردير إسرائيلي، ونفذوا عملية استخبارية لإسقاط وزير المالية يائير لابيد وعدد من كبار موظفيه، عشية اتخاذهم قرارًا يُلحق الأذى بمصالح ملياردير إسرائيلي.

ونشر التحقيق تفاصيل ووثائق وشهاداتٍ تؤكد أن المنتج الشهير في هوليود هارفي وينشتاين، أستأجر خدمات الشركة من أجل إجبار الممثلة الأمريكية روز مكغوان على التراجع عن شكوى تقدمت بها ضده تتهمه فيها باغتصابها، فأرسلت الشركة إحدى عميلاتها وتقربت من الفنانة الأمريكية حتى صارت أقرب صديقاتها وجمعت عنها معلومات استخبارية.


اقرأ/ي أيضًا: 

برمجية إسرائيلية تخترق الهواتف من خلال واتساب

بالجنس والابتزاز.. الشاباك يخترق المستوطنين أيضًا

السعودية تطلب مساعدة إسرائيل للتجسس على معارضيها