05-مايو-2018

صورة توضيحية - عدسة مصطفى حسونه (Getty)

يُعلَن عن بدء استقبال طلبات المستجدين الراغبين بتأجير أنفسهم ويرون فيها الكفاءة، شريطة امتلاك الخبرة، والاستعداد للعمل خارج أوقات الدوام، وتحمل ضغط العمل، والتفرغ التام للوظيفة.

قد يُصدَم القارئ من صراحة وفظاظة الإعلان، رغم أن الشروط هي ذاتها التي تكون ماثلة عند تعبئة أي طلب توظيف، ولكن يغيب عن بال المُتَقدم - المتحمس لجني المال وبناء الخبرة - أن ترجمة شروط كهذه تتطلب إما خبرة مُستأجَر سابق، أو العودة للعصور المظلمة  لقراءة النظام الإقطاعي الأكثر صراحة من عصرنا المُتَملق.

يغيب عن بال المتقدمين للوظائف أن ترجمة شروط الوظيف تتطلب العودة للعصور المظلمة لقراءة النظام الإقطاعي الأكثر صراحة من عصرنا المتملق

وعادة ما تكون ترجمة شروط الوظيفة تحت ضوء النظام الإقطاعي، فمثلاً: "امتلاك الخبرة" يعني سواعد قوية لفلاحة أرض السيّد. والعمل خارج أوقات الدوام، والتفرّغ التام، معناهما تكريس حياة العبد لخدمة سيده. أما "تحمل ضغط العمل" فيعني أن يكون مستعدًا لأن يسمع شتيمته بأذنه والتبخيس في عمله من مديره،  ومن ثَمّ مقاضاة حجم المجهود الضخم بسعر يُؤمَن له فقط شربة ماء، وقَسمة خبز تبقيه حيًا من أجل العمل.

شاهد/ي أيضًا: عُمال بلا عطلة

قبل أن يفلت القارئ ويهرب مُثقلاً بالمخاوف، عليه أن يعي أمرًا: أن هواجسه وتساؤلاته حقيقة لا مجازًا، كما أن ما سردته لا يحتمل المبالغة، خاصة أن الواقع العربي، والفلسطيني على وجه الخصوص، يسير بمنحدر خطير فيما يخص حقوق الموظفين والعاملين في المؤسسات، ويحتمل انعكاسات ليست هيّنة.

قبل فترة من الزمن كان لنصيب كاتب المقال أن يلتحق بوظيفة في مؤسسة إعلامية لمدة قاربت العام، كان لها خلالها حق المحاسبة على أي تقصير في الواجبات التي لا تتوقف. في المقابل لم يكن للموظف أي حق في محاسبتها على حقوقه، مثل عدم التزامها بقوانين المؤسسة والحكومة فيما يخص الحد الأدنى من الأجور والزيادات. فعند التحفيز يلوحون للموظف بوعود في زيادته بأن يبلغ الحد الأدنى من الأجور، وعند التذمر خلال الاجتماعات يُهددونه في حال لم يعجبه الراتب بأن "هناك غيره مستعد للعمل بنصف المبلغ".

بل يذهب انتهاك الحقوق إلى أبعد من ذلك في عدم وجود عقود عمل، وفي حالات أخرى تكون عقود متجددة هربًا من التثبيت الذي يستدعي مزيدًا من الاستحقاقات، وفق القانون، ناهيك عن العمل في أيام العيد، ومحاسبة أصحاب الآراء المخالفة، وتتبع منشوراتهم على "فيسبوك". في حالة كهذه، يكون فيها رئيس المؤسسة نافذ العلاقات مع الحكومة، يصير اللجوء إلى المحكمة احتمالاً مشكوكـًا في جدواه.

هذا يجعلنا نفكر مليًا بعدوى الاستبداد التي تتفشى داخل المؤسسات منتهكة حقوق العاملين، بحيث يمارس المدير ورب المؤسسة دور "البوليس" ليعيد شعوره بأنه قادر على أن يكون قوة مطلقة داخل المؤسسة، كما يواجه العكس في الخارج.

كذلك يزداد الأمر خطورة بإسقاطات هذا النظام الإقطاعي في القطاعات المختلفة (الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي) في ظل الاحتلال الإسرائيلي، الذي يُعتبَر امتدادًا لجملة المواقف التي يتعرض لها الفرد الفلسطيني من قمع للإنسانية، وانعدام النموذج، وضبابية المشروع التحرري الذي يقود البلاد.

إن التراكم الاعتقادي باعتبار إنجاز فرعون في الأهرامات حضارة للبشرية، بدلاً من فهمه كرمز للاستعباد، لا زال يعكس آلية تعاطي المؤسسات التشغيلية مع موظفيها

إن التراكم الاعتقادي باعتبار إنجاز فرعون في الأهرامات حضارة للبشرية، بدلاً من فهمه كرمز للاستعباد - مات في سبيل تشييدها أعداد ضخمة مسلوبة الحقوق من أجل "الأنا" خاصة الفرعون - لا زال يعكس آلية تعاطي المؤسسات التشغيلية مع موظفيها وبقية المؤسسات المختلفة، وتعاملها مع صراعها النفسي الواقع بين "مصلحتي" أم مصير "العامة"، لتتفرد بذلك جموع الشعب، وتتفرد الفئويات بامتصاص امتياز "الجموع".

ويمكن الإضافة إلى ذلك مسألة النظر إلى مشروع شق قناة السويس في مصر، "الإنجاز" الذي يُحتفى بمطبق فكرته محمد سعيد باشا، رغم أنه قُتل في سبيل تشييده أكثر من 120 ألف مصري مسلوبي الحقوق، عملوا في ظروف استعباد بحتة، لدرجة أنهم - كما ورد في القصص المتناقلة - في كثير من الأحيان لم يجدوا شربة ماء.

وعودة لبداية القضية، فإن تلك النظم التي تستغل حاجة الخريجين للعمل بمقاضاتهم مقابل مبلغ زهيد، ما تلبث حتى تبدأ بالتخلص من كل من يهدد صورة الآلهة المتمثلة بالمؤسسة عن طريق اختبارات شخصية، فلا يصمد إلا مَن أتقن السجود "سلوكيًا" على أكمل وجه.

حتى لا نكون سوداويين، على القارئ إدراك أمر في غاية الأهمية؛ أن الظلم يتغذى على اثنين، الخوف والصمت، فإذا تغذى عليهما طُمِسَت نوازع إنسانية كالكرامة والحرية، واستشرى الفقر، في ظل تزعُّم "الرأسمالية" أكبر ظلٍ للاحتلال.


اقرأ/ي أيضًا:

فيديو | عمال بلا تصاريح.. الروح على الكف

في مؤسسات غزة.. ذوات الإعاقة للاستغلال فقط

فيديو | عمال يسلكون طريق ذل إلى رزقهم في الداخل المحتل