11-يناير-2025
الموت من البرد في غزة

داخل خيمتها المتهالكة في غرب خانيونس جنوب قطاع غزة، تجلس الأم العشرينية صفاء الرنتيسي، تحتضن أطفالها الثلاثة محاولة حمايتهم من البرد الذي خطف شقيقهم الأصغر الرضيع "يوسف"، وكان قد تجاوز شهره الأول فقط بخمسة أيام.

"استيقظتُ من أجل رضاعته" تقول صفاء، وقد كانت الساعة حينها توشك على الرابعة فجرًا، وقد صُعِقَت عندما وجَدَتْهُ مثل قالب من الثلج وجلدُه شديد الزرقة وفاغرًا فاه، "فأدركْتُ على الفور أنه فارقنا" أضافت صفاء

يوسف الرضيع هو آخر ضحايا البرد الثمانية حتى الـ11 من كانون الثاني/يناير 2025، أحدهم بالغ في الثلاثينات من عمره، بينما البقية أطفال وبينهم ستة من الرضع حديثي الولادة، لم تحتمل أجسادهم الغضة لسعات البرد القارس في خيام من القماش المهترئ، تتلاعب بها الرياح وتتسرب إليها الأمطار.

الرضيع يوسف كلوب

"استيقظتُ من أجل رضاعته" تقول صفاء، وقد كانت الساعة حينها توشك على الرابعة فجرًا، وقد صُعِقَت عندما وجَدَتْهُ مثل قالب من الثلج وجلدُه شديد الزرقة وفاغرًا فاه، "فأدركْتُ فورًا أنه فارقنا"، أضافت صفاء.

رضيع "شهيد البرد"

أيقظت صفاء زوجها أحمد كلوب، الذي انتفض فزعًا من فرشته المبللة، إذ لم تكن قد جفت من أمطار الليلة السابقة، واحتضن رضيعه بين ذراعيه. يقول:"كان جسده متخشبًا، لا ينبض ولا يتحرك".

أحمد كلوب وصفاء والدا يوسف

وحيث لا تتوفر مواصلات ليلًا، اضطر الأب المفجوع بفلذة كبده للسير به على قدميه لأكثر من كيلومتر، حتى وصل مجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس، وهناك أخبره الأطباء بما يصفه بأسوأ خبر في حياته: "ابنك مات من البرد".

وأسرة أحمد كلوب نازحة منذ ثمانية شهور، عندما أجبرت على مغادرة منزلها في مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، التي تتعرض منذ مطلع أيار/مايو من العام الماضي لاجتياح بري إسرائيلي واسع.

أسرة أحمد كلوب

وكان أحمد كلوب يكسب قوته من العمل في مهنة إصلاح الأحذية، ولم يجد مكانًا يؤوي أسرته بعد نزوحهم سوى هذه الخيمة، وتقول صفاء: "تحملنا أجواء الحر في الصيف، ولكن في البرد والأمطار الوضع لا يطاق، وخسرنا يوسف".

وحذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، من أن العديد من الأطفال النازحين في غزة يرتدون القليل من الملابس، بعد أن أجبر العديد منهم على الفرار بملابس الصيف في وقت سابق من العام الماضي.

مرت شهور الحمل على صفاء ثقيلة متعبة، وتقول إنها كانت تعاني صعوبة في النوم وقلة الطعام، ولم تتناول خلال حملها بيوسف أطعمة صحية وبروتين وفيتامينات، إذ لا يمتلكون مصدرًا للدخل، بعدما فقد زوجها عمله بسبب عدم توفر الخيوط وأدوات عمله المفقودة ومرتفعة السعر.

وتضيف صفاء: "والله أتعبت في حمله وما لحقت أفرح عليه.. احنا غلابة يا رب، والموت بيلاحقنا بالقصف والبرد، أفرجها من عندك يا الله".

خيام كثلاجات موت

وكان الأسبوع الذي فقد فيه أحمد وصفاء رضيعهما يوسف ممتلئًا بالفقد نتيجة البرد، الذي تسبب في تجمد أطرافهم، وتوقف قلوبهم الصغيرة داخل خيام متلاصقة ومترامية على امتداد البصر في منطقة المواصي الساحلية غرب مدينتي خانيونس، ودير البلح وسط القطاع.

وشهد ذلك الأسبوع من فصل الشتاء أول موجة قطبية شديدة البرودة، وانخفاض حاد في درجات الحرارة مع رياح عاصفة وأمطار غزيرة، أدت إلى غرق عشرات مخيمات النزوح واقتلاع مئات الخيام، بحسب رصد المكتب الإعلامي الحكومي.

ويشكو نازحون من أن خيامهم لم تعد صالحة للسكن، وقد اضطر آلاف منهم إلى التنقل بها والنزوح المتكرر من مكان إلى آخر هربًا من حمم النيران الإسرائيلية، وقد أمضوا فيها أكثر من عام تخلله صيف وشتاء، وباتت لا تقوى على مواجهة العوامل الجوية المتقلبة.

وبحسب وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" فإن الأطفال في غزة يتجمدون حتى الموت بسبب البرد. وأكد المفوض العام "لأونروا" فيليب لازاريني، في منشور على منصة "إكس"، أن هناك نقصًا في البطانيات والفرشات، وغيرها من الإمدادات الشتوية، بسبب انتظار الموافقة على دخولها إلى غزة، مطالبًا بوقف إطلاق النار بشكل فوري، والسماح بتدفق الإمدادات الأساسية الضرورية، بما في ذلك الإمدادات اللازمة لفصل الشتاء.

ويصف المدير العام لوزارة الصحة بغزة، منير البرش، خيام النازحين بأنها "ثلاجات موت"، فهي شديدة البرودة في فصل الشتاء، حيث يتسرب الهواء البارد إليها، وحتى عندما تتساقط الأمطار تتدفق لداخلها، وتغرق ما يمتلكه النازحون من أمتعة قليلة فروا بها من منازلهم.

ويقول منير البرش لـ الترا فلسطين: "أطفالنا يموتون من البرد، وأهاليهم يفتقرون لأي وسائل تدفئة، حتى أن الكثير من الأسر النازحة لا تمتلك الفراش والأغطية الكافية".

وتوضح نسرين علاوي، وهي نازحة من مدينة رفح، وتقيم في خيمة بمنطقة مواصي خان يونس منذ ثمانية شهور، أن أسرتها مكونة من 11 فرًدا، ويتشارك كل اثنين منهم فرشة وغطاء واحد. وبألم شديد تضيف: "أعرف أنهم يتلوون من البرد خاصة خلال ساعات الليل، ولا أمتلك شيئًا للتدفئة، وكلما سمعت بوفيات الأطفال نتيجة البرد أرتعد خشية على أطفالي".

ومنذ إطلاق "إسرائيل" حرب الإبادة الجماعية على غزة، قطعت إمدادات الكهرباء عن القطاع الساحلي الصغير، الذي يقطنه زهاء 2 مليون و300 ألف نسمة، وتفرض قيودًا مشددة على دخول الوقود وغاز الطهي، وتحرمهم من وسائل التدفئة.

كيف يموت الإنسان من البرد؟

ويستقبل مجمع ناصر الطبي، الأكبر في جنوب قطاع غزة، بصورة يومية حالاتٍ لأطفال يعانون من انخفاض درجة حرارة الجسم، خاصة في أوساط الرُضَّع حديثي الولادة، الذي ولدوا داخل خيامٍ ومراكز إيواءٍ تفتقر لمقومات الحياة الأساسية.

وتؤكد "الأونروا" أن الطقس البارد وانعدام المأوى يتسببان في وفاة الأطفال حديثي الولادة في غزة، وأن 7700 طفل حديث الولادة يفتقرون إلى الرعاية المنقذة للحياة.

وكيف يموت الإنسان من البرد؟ يجيب عن هذا السؤال رئيس مستشفى الأطفال والتوليد في مجمع ناصر، الدكتور أحمد الفرا، مبيّنًا أنه بسبب البرد يحدث انقباضات في الأوعية الدموية، وبالتالي يحاول الجسم تقليل وصول الدم للأطراف، للحفاظ على سريان الدم للدماغ، وهذا يؤدي إلى ارتفاع في ضغط الدم، وركود في الدم في هذه الأجزاء من الجسم، ما يجعل فرص حدوث الجلطات كبيرة جدًا.

وفي مراحل متقدمة يحدث اختلالٌ في عضلة القلب، وضعفٌ في نتائج عمل القلب، وقدرته على توصيل الدم للأطراف، وبسبب ذلك تحدث أشياء مثل "عضة البرد" وموت الأطراف، والبرد نفسه يسبب اضطرابًا وخللاً في كهرباء القلب، علاوة على حدوث تصلب في العضلات، وارتعاش وقشعريرة، وبعد ذلك يحدث ما يسمى "سبات الدماغ" وتقع الوفاة، وفقا للفرًا.

يستقبل مجمع ناصر الطبي، الأكبر في جنوب قطاع غزة، بصورة يومية حالاتٍ لأطفال يعانون من انخفاض درجة حرارة الجسم، خاصة في أوساط الرُضَّع حديثي الولادة

ولماذا الأطفال أكثر عرضة للموت نتيجة البرد عن البالغين؟ يُحدّد أحمد الفرا أربعة أسباب لذلك، أولها، أن الطفل ليس لديه القدرة للتعبير عن نفسه، والشكوى من البرد، وفعل أي شيء من أجل التدفئة مثل الكبير، الذي بإمكانه التحرك واكتساب بعض الدفء. كما أن الطفل ليس لديه مخزون جيد من الكلايكوجين في الكبد، وهو المسؤول عن توليد الكلوكوز كمصدر للطاقة في جسم الإنسان، وفقًا للفرَّا.

أما السبب الثالث، بحسب أحمد الفرَّا، فهو أن النسيج الشحمي لدى الطفل أقل من الكبير للحفاظ على درجة الحرارة. عدا عن أن مساحة السطح لدى الطفل بالنسبة للأعضاء الداخلية أكبر؛ ولذلك فقدان الحرارة لديه أكبر من الرجل الكبير.

ويؤكد الطبيب أحمد الفرا، أن الأطباء في المستشفى يتعاملون مع الحالات اليومية بالتدفئة ومنحها التحاليل اللازمة، وإجراء الفحوص الطبية؛ لأن بعض الأمراض تأتينا بنقص في درجات الحرارة مثل تجرثم الدم، أو انخفاض سكر الدم، و"لكن للأسف وصلتنا 8 حالات وفاة، 6 منها لأطفال دون عمر الشهر"، محذرًا من أن العدد مرشح للزيادة مع اشتداد فصل الشتاء ونتيجة الأوضاع المتردية للنازحين.