تقارير

شهداء غزة تحت الركام.. حين يعود الغائبون في أكياسٍ بيضاء

15 أكتوبر 2025
شهداء غزة تحت الركام.. حين يعود الغائبون في أكياسٍ بيضاء
Photo by Abed Rahim Khatib/Anadolu via Getty Images
محمد نشبت
محمد نشبتكاتب صحفي من فلسطين

لم يكن الغزيون يتخيلون أن تعود إليهم الأرض محمَّلة بهذا الثِّقل؛ ثقل الركام والذاكرة والغياب. فحين انسحب الجيش الإسرائيلي من عدد من مناطق قطاع غزة، بدا المشهد كأنه انكشاف فجائي للوجع المدفون تحت الإسمنت. عاد الناس إلى ما تبقّى من أحيائهم، لا بحثًا عن حياة يمكن استعادتها، بل عن موتٍ لم يكتمل وداعه بعد.

يسيرون بين الأزقة التي محاها القصف، يرفعون الحجارة بأيديهم العارية، ينفضون الغبار عن بقايا الأبواب والصور، ويتشمّمون رائحة الملابس المحروقة علّها تهديهم إلى أثرٍ من أبنائهم الذين فقدوا منذ شهور. في غزة، لم يعد الموت نهاية الرحلة، بل صار بدايتها. هنا تبدأ الحكايات حين يُعثر على رفات طال انتظاره، وتُعاد كتابة الفقد من جديد.

بين الركام والذاكرة، يواصل الغزيون الحفر بأيديهم وقلوبهم، بحثًا عن آخر ما تبقّى لهم من حقٍّ إنساني: أن يعرفوا أين يرقد أحباؤهم

رفات الانتظار: حين يتحول البحث عن الحياة إلى بحث عن الموت

خلال الأيام الماضية، سجّلت وزارة الصحة في غزة وصول أكثر من 650 جثمانًا من مناطق مختلفة، نُقلت بواسطة طواقم الإسعاف والدفاع المدني بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من مناطق مثل خان يونس والزيتون ونتساريم ومخيم جباليا. بعض هذه الرفات تعود لأشخاص فُقدوا منذ شهور، وآخرون ظنّت عائلاتهم أنهم أسرى في السجون الإسرائيلية، قبل أن يتكشف أنهم ظلّوا تحت الركام طوال هذه الفترة.

لكن ما جرى لا يُقاس بالأرقام وحدها؛ فكل جثمانٍ يُنتشل يحمل قصة انتظارٍ ووجعٍ وأملٍ خائب، ويختصر مأساة مدينة ما زالت تنبض بين الحياة والموت. في كل زاوية هناك من يبحث عن أحبائه، وهناك من يجدهم بطريقة مختلفة عن كل توقُّعاته، بين الركام والغبار، وبين الحزن والصدمة التي تفرض نفسها على كل لحظة من لحظات الوداع.

شهادات الغزيين: البحث عن الأحبة في التراب

في خانيونس، التي أنهكها الجوع والحصار قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي، يروي محمد الرنتيسي قصته وهو يبحث عن شقيقه الذي فُقد خلال المجاعة الثانية في شهر نيسان/أبريل الماضي: "في ذلك الوقت، كانت الناس تموت من الجوع، والطرقات مليئة بالنازحين. أخي أصرّ أن يعود إلى منزلنا في منطقة البريد ليجلب شيئًا من الطعام والملابس، رغم توسلاتنا له بالبقاء. تلك المنطقة كانت من أكثر الأماكن التي شهدت قصفًا ونزوحًا شديدًا خلال تلك الأيام. بعد ساعات من خروجه انقطعت أخباره تمامًا، واعتقدنا أنه ربما أُسر أو أصيب ولم يُعثر عليه".

يسكت محمد قليلًا قبل أن يتابع بصوتٍ يخنقه الأسى: "بعد انتهاء الحرب وانسحاب الجيش، عدت إلى المكان. لم أتعرف على الشارع أولًا من كثرة الدمار، لكنني وجدت أن منزلنا صار حفرةً كبيرة. بدأنا نزيل الركام بأيدينا، ومع أول حجر رفعناه ظهرت بقايا ملابسه التي كنت أعرفها جيّدًا. تحت الركام، وجدت أخي كما تركه… لكنه لم يعد يسمعني".

في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، تحكي ليلى أبو عكر وجع أمٍّ كانت تمسك بخيط الأمل الرفيع طوال شهور الحرب: "ابني محمد كان آخر من بقي في البيت. يوم اشتد القصف قال لي: ‘ما تخافي، راح أرجع بسرعة’. بعدها اختفى. بحثت عنه في المستشفيات، عند الإسعاف، حتى عند الصليب الأحمر، وكل مرة يقولوا لي: يمكن نازح أو معتقل. بعد انسحاب الجيش، رجع الناس للحي، وسلموا جثثًا كثيرة للإسعاف والدفاع المدني، وضجت الأخبار بوصول عدد كبير للمستشفى. في المستشفى العربي، عند ثلاجة الموتى، وجدت قميصه ومعه بقايا جسده. كل ما بقي مني ومنه صار قطعة قماش أحملها".

ترفع رأسها قليلًا وتضيف بصوتٍ متكسّر: "كان ما بدي إلاّ أعرف وينه، أحيانًا كنت أقرأ عليه الفاتحة منشان أرتاح. هو ما رجع حيّ، بس الأرض رجّعته لي بطريقة ثانية".

ومن منطقة نتساريم، التي تحوّلت إلى مقبرة صامتة بعد انسحاب الجيش، يصف أحمد حامد لحظة اكتشاف رفات والده: "كنا نعتقد أن والدي أسير. بعد انسحاب الجيش من المناطق المتفق عليها، أعلنوا عن وصول دفعات من الرفات إلى المستشفى، ذهبنا جميعًا. الجثامين كانت في أكياس بيضاء، بلا أسماء. لما فتحوا أحدها، رأيت البنطال الذي كان يلبسه أبي يوم اختفى، ومعه محفظته. لم يبقَ من وجهه شيء، لكن الحذاء والملابس كانت كافية لأعرفه. في تلك اللحظة تمنيت لو لم أعرف".

ويضيف بصوتٍ متردّد: "كان المكان مليئًا بالعائلات، كل واحدٍ منهم يفتش عن علامة تخصّه، عن بصمة صغيرة. كل عائلة في غزة إلها كيس أبيض تنتظره".

أما في جباليا شمال القطاع، فقد تحوّل المشهد إلى لقاءٍ موجع بين الصور والرفات. كانت تهاني أبو الهوى تقف قرب بوابة مستشفى الشفا بعد وصول موكب مهيب من سيارات الإسعاف والدفاع المدني، وهي تشعر بدافعٍ غريب يدفعها للدخول رغم خوفها؛ إحساسٌ داخلي لم تفهمه، كأن شيئًا ما يربطها بالمكان ويهمس لها: "ادخلي". وتابعت: "كنت متردِّدة أدخل، بس شعورٌ غريب دفعني لأتقدّم. دخلت، وشممت ريحة تراب وموت قديم. لما شفت الحذاء، عرفته فورًا… كان حذاء أخوي. بعدها تأكّدت من القميص، ومن ساعته الصغيرة اللي ما كانت تفارقه. صار فيني شيء غريب، لا بكيت ولا صرخت، بس حسّيت كل العالم توقف حولي".

تتوقّف تهاني عند الباب، تتنفس بصعوبة، وتضيف: "رجعلي أخوي، لكن ليس كما تمنّيت. عاد من الأرض محمَّلًا بكل صمت الموت، بكل الحكايات التي لم تُروَ، وبكل الفراغ الذي تركه رحيله. شعرت بأن جزءًا مني عاد معه، وجزءًا آخر بقي مدفونًا في التراب".

حين تُنتهك كرامة الموتى

يؤكّد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، في تقريره الصادر عن «الوضع في غزة بعد العمليات العسكرية»، أن ترك الجثامين دون توثيق أو دفنٍ لائق، أو دفنها في أماكن مجهولة، يمثل انتهاكًا لحق الإنسان في الكرامة حتى بعد موته، ويُعد جريمةً ضمن جرائم الحرب بموجب القانون الدولي. ويشير المركز إلى أن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وخاصة المادتين 33 و55، تلزم القوة القائمة بالاحتلال بالبحث عن الجثامين، وحفظ كرامة الموتى، وتمكين ذويهم من التعرّف عليها واستلامها.

بدوره، يوضّح غازي المجدلاوي، الباحث الرئيسي في المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسريًا في قطاع غزة، أن ملفّ المفقودين لا يزال أحد أكثر الملفات تعقيدًا بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى المناطق المتفق عليها ضمن خطة السلام الأميركية، إذ تشير التقديرات إلى وجود ما بين ثمانية إلى تسعة آلاف مفقود، يُعتقد أن غالبيتهم تحت الركام أو في المقابر الجماعية. 

ويؤكّد المجدلاوي أن توقف القتال لم ينهِ المأساة، فغياب المعدات الفنية وصعوبة الوصول إلى مناطق الدمار يعوق عمليات البحث والتعرّف على الجثامين. ويشدّد على ضرورة تدخل الأمم المتحدة لإرسال فرق إنقاذ وخبراء طب شرعي لتحديد الهويات ودفن الضحايا بكرامة، معتبرًا أن تأخر التحرك الدولي يُبقي آلاف العائلات رهينة الفقد والغموض.

الجريمة التي دُفنت تحت الركام

ما كشفت عنه الشهادات السابقة لا يُعدّ مجرّد مأساة فردية، بل يُمثّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني على مستوياتٍ متعددة. وهذا ما يؤكّد عليه الحقوقي المتخصّص في القانون الدولي الإنساني، محمد النحال، أن ما جرى في مناطق القطاع، من ترك الجثامين تحت الركام أو دفنها بطريقةٍ عشوائية، يُعدّ انتهاكًا مزدوجًا؛ إذ يشمل انتهاك حقّ الإنسان في الحياة نتيجة وفاة المدنيين دون تسجيل رسمي لمصيرهم، وانتقاص كرامتهم بعد الوفاة من خلال حرمان ذويهم من أداء واجبهم الديني والإنساني تجاه أحبائهم.

ويشير النحال إلى أن هذه الممارسات تُصنّف على أنها جريمة حرب وفق القانون الدولي، لأنها تتضمن الإخفاء القسري للرفات، ومنع العائلات من معرفة مصير أبنائها، وهو ما يعرض المسؤولين الجنائيين للمساءلة أمام المحاكم الدولية. كما يمكن أن يُصنّف هذا الانتهاك على أنه جريمة ضدّ الإنسانية إذا تمّ على نطاقٍ واسعٍ ومنهجي، لأنّه يوسّع دائرة العدوان لتشمل المدنيين الأحياء والأموات على حدّ سواء.

ويضيف النحال أن القانون الدولي لا يقتصر على واجب البحث والانتشال فقط، بل يشدّد على حفظ الهوية الإنسانية بعد الوفاة، وحظر التعامل مع الجثث كأدوات أو مخلفات، بما يضمن احترام الكرامة الإنسانية. وما شهدته غزة من دفنٍ عشوائي أو ترك الرفات دون توثيق يعكس خرقًا متعمّدًا لهذه الالتزامات، ويؤكّد الحاجة إلى فتح تحقيقٍ دوليّ مستقلّ لتوثيق الانتهاكات، وتحديد المسؤولية الجنائية، وضمان حقّ العائلات في استلام رفات أحبّائهم واستعادة كرامتهم حتى بعد الموت.

على أطراف المدن والبلدات المهدّمة، تتكرّر المشاهد ذاتها: أمٌّ تمسك بقطعة قماشٍ مبلّلةٍ بالدم، أبٌ ينحني فوق بقايا عظام، طفلٌ يسأل أين أخوه ولماذا لم يعد. وبينما تُرفع الجثامين على النقالات، يهمس المسعفون بكلمات المواساة، ثم يعودون للبحث بصمتٍ يشبه الصلاة. وبين الركام والذاكرة، يواصل الغزيون الحفر بأيديهم وقلوبهم، بحثًا عن آخر ما تبقّى لهم من حقٍّ إنساني: أن يعرفوا أين يرقد أحباؤهم.

الكلمات المفتاحية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل


اقتحامات الضفة الغربية

10 أيام من الاقتحام: الاحتلال يحوّل منازل في يعبد إلى ثكنات عسكرية ويُشرد العائلات

"منذ اليوم الأول للاقتحام، احتلّ الجنود ستة منازل بالكامل، والآن يسكنون فيها، بعد أن أجبروا سكانها على المغادرة وإبقاء الأبواب مفتوحة".


رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين

رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين

64 عاملاً استشهدوا منذ بداية الحرب على غزة، منهم نحو 40 عاملاً منذ مطلع العام 2025. وهناك أكثر من 3 آلاف إصابة موثقة خلال العامين الماضيين


الدفاع المدني في غزة.. حربٌ أخرى ضد الركام

الدفاع المدني في غزة.. حربٌ أخرى ضد الركام

يقف جهاز الدفاع المدني أمام مهمة تفوق قدرته، إذ يواجه نقصًا حادًّا في المعدات الثقيلة والآليات الميدانية، مما يجبر طواقمه على العمل بما تيسّر من أدوات يدوية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
تقارير

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن
مقابلات

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن


مركز غزة: مليوني فلسطيني بالقطاع يعيشون كارثة إنسانية تتفاقم يوميًا مع اقتراب الشتاء
أخبار

الإعلام الحكومي: 288 ألف أسرة بغزة لا تملك أبسط مقومات الحياة

قطاع غزة يحتاج 300,000 خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأساسي للسكن الإنساني.

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"
أخبار

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"

في 10 شباط/فبراير، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس نقل صلاحية صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى إلى مؤسسة "تمكين"، تحت عنوان "إصلاح النظام المالي" واستعادة المساعدات الدولية المعلّقة

الأكثر قراءة

1
تقارير

اغتصاب وتعذيب جنسي.. محرّرو غزة يروون لـ"الترا فلسطين" فظائع السجون


2
تقارير

الجبهة الديمقراطية لـ"الترا فلسطين": مصر عرضت على الفصائل خطّة من 5 بنود وهذه تفاصيلها


3
تقارير

داخل صندوق أسود: هكذا تُدار الدبلوماسية الفلسطينية


4
تقارير

خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة


5
راصد

توني بلير.. سيرة إداري للإيجار