تحت وطأة القصف المستمر وأصواته التي لم تهدأ لأكثر من عام، يعيش كبار السن في غزة وسط أنقاض البيوت وأطراف الخيام المهترئة، التي تعجز عن حمايتهم من برد الشتاء القارس أو لهيب الصيف الحارق، وسط ظروف مأساوية تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة الإنسانية، من رعاية صحية، وأدوية، ومأوى آمن.
يعيش كبار السن في أنقاض البيوت وأطراف الخيام المهترئة، وسط ظروف مأساوية تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة الإنسانية، من رعاية صحية، وأدوية، ومأوى آمن
حزنٌ مميت
في زاوية غرفةٍ نجت بأعجوبة من الدمار في حي الدرج، استقرَّ الحال بالمسنّة "أم صباح" المزيني (88 عامًا) بعد رحلة نزوح مريرة ومتكررة. كانت حياتها سابقًا هادئة ومنظّمة، تحيا وسط أبنائها بطمأنينة، لكن كل شيء انقلب رأسًا على عقب فجأة.
لم تكن رحلة النزوح سهلة على جسدها الواهن؛ إذ تنقّلت ليلاً عبر طرق وعرة ومسافات طويلة على كرسي متحرك. تقول حفيدتها هبة: “من أصعب ما مرت به جدتي كان شعورها بالعجز. كانت تخشى الوقوف بمفردها بعد سقوطها المتكرر، كما أن الظلام كان يرعبها بشكل كبير”.
معاناة "أم صباح" لم تتوقف عند مرارة النزوح؛ فقد عانت أيضًا من شح الأدوية التي كانت تعتمد عليها، وقلة الطعام الذي لم يكن يكفي. زاد من آلامها الحزن الذي أثقل قلبها بعد فقدان ابنها المقرّب في قصف إسرائيلي دمّر منزله.
تشير هبة إلى أن أكبر أمنيات جدتها كانت رؤية ابنتها النازحة جنوب القطاع، لكن الحرب لم تمهلها لتحقيق ذلك. فقد رحلت قبل أيام من إعلان وقف إطلاق النار تاركة وراءها وجعًا لا يُنسى.
وحشة وحرمان
في زاوية منزله المتصدّع بحي الشيخ رضوان، يجلس السبعيني "أبو محمد" الكتوت، يتلمّس ضوء شمعته الوحيدة التي تخترق عتمة الليل البارد. يقتسم مع زوجته وجع المرض وعناء الحرب، فكلاهما يعاني من السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب، والتقرحات المزمنة.
بصوت متعب ومكسور يقول "أبو محمد": “ما في أدوية تخفف وجعنا. اللي بنلاقيه قليل وبعد معاناة كبيرة. المستشفيات بعيدة، والطريق مليانة ردم وحجارة. فش سيارات نركبها، ولو فكرت أروح مشيًا، بخاف أوقع وأكسر حالي”.
نزح "أبو محمد" مرات عديدة بحثًا عن مأوى يقيهم من جحيم الحرب، لكنه استنزف قواه وتملَّكه اليأس لكثرة التنقل. قرر البقاء في بيته المتضرر، وسط جدران متشققة ونوافذ مهشّمة. يقول بحسرة: “البيت أحسن من الخيمة، لكن ما في مي، ولا أكل. بحاول أدبر حالي وأغسل وأطبخ. ما بدي من الدنيا غير يرجعوا بناتي من الجنوب، أشوفهم أنا وإمهم قبل ما نموت”.
أموت كاملة
"لو انكتب عليّ أموت، خليني أموت في بيتي، ليش أموت في بيوت العالم؟" هكذا تُلخص المسنة شهرات هاشم (86 عامًا) أمنيتها بعدما أضناها النزوح مرارًا، ونبشت الحرب في ذاكرتها تفاصيل التهجير قبل 77 عامًا.
تقول شهرات: “بعد كل هالعمر، ما بدي إشي. نفسي أموت شهيدة، بس أموت كاملة، من غير ما تفتتني الصواريخ. نفسي أولادي يعملولي قبر عليه شاهد، مشان الكلاب ما تاكل جثتي”.
تقف شهرات هاشم عاجزة عن استيعاب كل التحولات المفاجئة التي طرأت على حياة الفلسطينيين في غزة خلال الحرب. سنوات طويلة من حياة اعتادت على نمطها، انقلبت في لحظة، لتجد نفسها في دوامة من التغيير لم تعد قادرة على التكيُّف معها. أبناؤها يحاولون، بصبر يومي، التخفيف عنها وشرح ما يحدث.
وتستذكر إسراء، حفيدة شهرات، بعض المواقف التي زادت من سوء حالة جدتها النفسية قائلة: “في كل مرة ننزح فيها، كانت جدتي تبقى شاردة الذهن، تفكر ببيتها الذي عاشت فيه 55 عامًا، تشتاق لرائحته وكل تفاصيله الصغيرة. صحتها تدهورت بسبب الجوع، وكانت تعاني بشدة من فكرة أنها مجبرة على أكل الشعير -الذي وصفته بأنه طعام الحيوانات- بعد أن كانت مدلّلة وسط أبنائها وأحفادها”.
هجرة أخرى
بعد أن عاش تفاصيل النكبة وذاق ويلاتها، اضطر "أبو محمد" زكي (86 عامًا) إلى الغربة بعيدًا عن وطنه لسنوات طويلة، تفرّق خلالها عن عائلته مرات عديدة في سبيل تأمين حياة كريمة لأبنائه، قبل أن يعود إلى غزة محمّلًا بالأمل أن يشيخ في بيته وبين أحبّائه، ينعم بما تبقى من حياته بسلام.
سعى أبناء زكي بكل جهدهم لتوفير راحته، ففرشوا البيت بالسجاد، وركّبوا قطعًا على الجدران ليعتمد عليها أثناء تنقّله، ووفّروا له طعامًا صحيًا ومفيدًا. لكن الحرب قلبت حياتهم رأسًا على عقب؛ إذ وجدوا أنفسهم مهجّرين ونازحين مرة أخرى، هاربين جنوبًا إلى بيوت الآخرين وخيام النزوح.
تقول فاطمة، ابنة زكي، بحزن: “كان والدي يعيش في أفضل حال وصحة، لكنه الآن محصور في غرفة واحدة مع سبعة أفراد، رغم أنه يحتاج إلى رعاية واهتمام خاص، لكن كل شيء هنا مفقود”.
وتضيف: “ذات مرة كنت أبحث عن ملابس شتوية تناسب والدي، لكنني لم أجد شيئًا يلائمه أو يقيه من البرد. جلستُ في المحل وبكيت من كل قلبي. كان والدي يرتدي أجود الملابس، واليوم لا أجد له ما يناسبه”.
عانى زكي من نقص الأدوية، وسوء التغذية، والتوتر الشديد نتيجة القصف المتواصل، إلى جانب خوفه الدائم من فقدان أحد أحبّته في هذه الحرب. ولم تمهله الحياة طويلًا قبل أن يودّع ابنه الوحيد، الذي استُشهد في شمال القطاع بعيدًا عن عينيه، دون أن يحظى بنظرة وداع أخيرة.
مرحلة العدم
في زمن الحرب، لا يتوقف الوجع عند حدود المعاناة اليومية، بل يتضاعف مرات عديدة بالنسبة للسبعيني أبو أحمد رجب، الذي يعاني من خلل في عمل الكلى. يعيش سجينًا للألم المستمر، لا دواء يخففه ولا تشخيص يغيّر من واقعه، متنقلًا بين بيته والمستشفى، بحثًا عن علاج مفقود أو طبيب غائب وسط انعدام كل شيء.
يقول ابنه أحمد بأسى: “والدي لا يتوقف عن الأنين. يحتاج إلى طعام خاص يناسب حالته، لكننا لا نجده. نبحث في كل الصيدليات عن أي مسكن يخفف أوجاعه، على أمل أن تنتهي الحرب ونستأنف علاجه ورؤية طبيبه، لكن دون جدوى. كل يوم يمر يزداد وضعه سوءًا”.
في خيمته التي نزح إليها، يفتقد أبو أحمد أبسط مقومات الحياة. يتناوب أبناؤه على البقاء بجانبه، يساعدونه في الحركة أو الانتقال من مكان إلى آخر، خوفًا من سقوطه على الأرض غير المستوية. وحتى لقضاء حاجته، يضطر إلى قطع مسافة طويلة، ما يزيد من معاناته اليومية.
ويبقى كبار السن يواجهون قدرًا لا يرحم، يحملون على أكتافهم ذكريات النكبة ومرارات الغربة، ويجدون أنفسهم اليوم في دوامة جديدة من الفقدان والحرمان، محرومين من أبسط حقوقهم في حياة كريمة، ويعيشون على أمل أن تنتهي الحرب قبل أن تخطف ما تبقى من أعمارهم.