20-يناير-2016

صدام حسين (Getty)

الشخص الذي لا يغيب عن حائط الفيسبوك عندي هو صدام حسين، لا يمر يوم إلا ويظهر في عدة بوستات مختلفة، بصفحات أصدقاء ينشرون صورته أو حديثًا عنه، أو من خلال صفحات ممولة بأسماء بناته أو أسماء عنيفة كلها تمجّد أبا عدي. سألت الأصدقاء إن كان صدام حاضرًا في صفحاتهم أيضا فأجابوا بنعم واثقة.

مشكلة الحنين المجاني أنه ينحو مع الوقت نحو تخليص الماضي من كل الشوائب، فيجعله صورة ناصعة

التفكير في الحياة الثانية التي يعيشها صدام في فيسبوك، يقود إلى التساؤل المستمر عما يمكن وصفه بمتلازمة "النظر إلى الخلف" في كل زمن تراجع أو انتكاس. الملاحظ هنا أن الواقع المأزوم، أو الحاضر المأزوم، يفرض على من يعيشون أزمته خيارات حادة ومحددة، وبالتالي فردات فعلهم تجاه ما تفعل بهم أزمات الحاضر محددة ومحصورة أيضا، وبما أن شطرًا وافرًا ممن يعانون من الحاضر المأزوم يفكرون بتغيير هذا الواقع، فإن هذا التغيير يعني شيئين محددين، الفعل من أجل التغيير، والفعل وفق خطة للتغيير، أو نموذج.

"النظر إلى الخلف"، يسهّل المهمة نظريًا، فهنالك نماذج وخطط مجربة وعاشت أزمنة ذهبية، ويمكن العمل على تطبيقها في الحاضر. هذا يعني أن النظر إلى الخلف يخفف من حجم المهمة وجسامتها. بل يمكن التجرؤ على القول إن كل من يفكر بالتغيير يفكر باستعادة شيء ما، سواء ماض في تاريخه هو أو تاريخ غيره.

أما أكثر الحالات انتشارًا فهي النظر إلى الخلف من باب الحنين وحسب، حنين مجاني دون أي فعل أو رغبة جادة بالاستعادة. مشكلة هذا الحنين المجاني، أنه ينحو مع الوقت نحو تخليص الماضي أو ما نراه عند النظر إلى الخلف، من كل الشوائب، فيجعله صورة ناصعة محببة تصلح لحنين كثير.

طبعًا يساهم الواقع المرير والمأزوم في عملية التنقية هذه، يصبح ما نراه عند النظر إلى الخلف خاليًا من كل عيب أو تناقض، يصبح منزهًا تمامًا. لذلك ينشغل كثيرون بصدام، كأحد وجوه الماضي التي استوفت الكثير من مقومات الإعجاب.

كل ما سبق لا يكفي لتبرير حضور صدام تحديدًا، فما الذي جعله هو تحديدًا يظل يظهر. دعونا لا ننكر أن عبد الناصر وياسر عرفات مثلًا نموذجان يشبهان صدام في هذه الاستعادة الحنينية المجانية، وإن لم يكونا بلغا ما بلغ من حضور. ما الذي جعل هؤلاء حاضرين دومًا في أزمنة الهزيمة والانكسار؟

كان صدام حسين خبيرًا في بث مشاعر تلبي حاجات نفسية تلحّ على المنكسرين والمهزومين، وهي مشاعر الفخر والعزة 

يمكن القول أن صدام كان خبيرًا في بث مشاعر تلبي حاجات نفسية تلحّ على المنكسرين والمهزومين، وهي مشاعر الفخر والعزة والمنعة والقوة. صدام برع في صناعة هذه المشاعر وبثها، وتلقفها الناس في دول عربية عديدة بحاجة ملحة.

نحن جميعًا نعلم اليوم وأمس أن كل ادعاءات صدام تلك لم يكن هنالك ما يبررها -اللهم إلا رمزية إعدامه دون أن يبحث لنفسه عن تسويات-، كانت مجانية، ولكنها كانت مطلوبة ومحببة. وحالة انعدامها تزيد من الحاجة إليها. والأهم أن النقاش حول صدام، من محبيه، مجاني أيضًا، ولا قيمة عملية له، وهو أحد أكثر أشكال النقاشات كشفًا لطبيعة الحوارات الأخلاقية الفارغة من أي مضمون، غالبًا ما يواجهك محبو صدام بأسئلة من قبيل: أتنكر أنه بطل؟ أتنكر أنه حارب الأمريكي؟ هل يوجد زعيم عربي بشجاعته؟ الكل تآمر عليه، هل تنكر؟ أليس أفضل ممن جاؤوا بعده؟ ألم يكن العراق أفضل بوجوده؟

كل هذه الأسئلة تحيل إلى حقيقة واحدة، أن صدام صفحة وطويت، ولا قيمة للإقرار بأي مما يريد مريدوه وما أكثرهم. والأسئلة أسذج من أن تكون أسئلة للتأريخ مثلًا، بل إن التجربة الصدامية كلها ظلت حكرًا على النقاشات الشعبوية، دون سعي جدي لنقل التأريخ الجاد للتداول العام أو الصحفي والتخفيف من حضوره المتضخم على صفحات الفيسبوك.

من يدفعون لهذه الصفحات وينشرون أخبارها وموادها العجيبة، يدركون أن "صدام حسين" لا يزال "تريندي" بلغة السوشيال ميديا، وهم مثل صدام ومثل كثيرين من الزعماء والقادة العرب، يبيعون وهمًا. وفي أزمنة التردي سيشتري الناس الوهم بكامل السعادة والرضا، خاصة إن لم يكن هنالك ما يباع لهم غيره.

اقرأ/ي أيضًا:

روزخونات العراق

"المصالحة الوطنية" في العراق