29-يناير-2020

من مسيرات غزة الرافضة لصفقة لقرن (Majdi Fathi/ Getty Images)

لم يشهد الفلسطينيون في فلسطين وحول العالم حدثًا سياسيًا حاز متابعة لحظيّة مثل إعلان ترامب ونتنياهو من البيت الأبيض لبنود ما يعرف بـ"صفقة القرن". هذا المستوى من التواصل الإعلامي والمتابعة الحثيثة جعلت الحدث مختلفًا وجللًا.

وترافق مع المتابعة إعلان مواقف لحظي واسع في كل وسائل الاتصال إعلامية كانت أم اجتماعية. وعي شامل بالرفض، وغياب مطلق لأي صوت تنازلي. تسجّل هذه الحالة درجة وعي سياسية غير مسبوقة. تتأكد هذه الحالة عند النظر في المصادر التاريخية بمختلف أشكالها عن وضع الفلسطينيين كشعب عند أي إعلان دولي تعلق بقضيتهم. بدءًا من وعد بلفور وصولًا للحظة الراهنة. لطالما قالت مصادر وشخصيات سياسية وثقافية وعامة أن درجات متباينة من الوعي بخطورة ما يخطط لفلسطين كانت حاضرة في المحطات السابقة. بل عزت مراجعات تاريخية مرور صفقات وأوضاع سابقة بغياب الوعي الجماهيري الواسع بخطورتها، وغلبة الوعي الصهيوني وتقدّمه.

  لا صوت إلا صوت الرفض الكاسح، وأقصى درجات الوعي هذه تترافق مع مستوى غير مسبوق من ضعف الفاعلية السياسية لدى جميع الأطراف الفلسطينية  

ولكننا اليوم أمام حالة مختلفة. كان يمكن سابقًا سماع أصوات تدعو لأخذ المطروح والموافقة عليه، نتيجة موقف تخاذلي أو ادّعاءات عملية وعقلانية، أو توازنات سياسية، أمّا اليوم فلا صوت إلا صوت الرفض الكاسح.

أقصى درجات الوعي هذه تترافق مع مستوى غير مسبوق من ضعف الفاعلية السياسية لدى جميع الأطراف الفلسطينية وكذلك الشعبية والجماهيرية.

وعند وضع الفعالية السياسية اليوم في مقارنة مع كل المحطات الماضية، يتبدّى أن الفعالية كانت أعلى في كل محطة مضت، والفاعلية هذه ساهمت إلى حد بعيد في تقويض عديد الصفقات والمشاريع وبطرق شتى، شعبي عام وسلمي من تظاهر وضغط على القيادات السياسية، أو عنفيّ، اتصل بالبدء بفعل مباشر ضد تمرير الصفقات أو إتمامها، والفعل كان موجهًا للاحتلال وفي حالات كثيرة لعرابي الصفقات ومنفذيها. 

حتى في حالة اتفاق أوسلو ورغم الزخم السياسي الذي وفّرته قيادة منظمة التحرير للاتفاق إلّا أن عوامل فاعلية داخلية، بالإضافة إلى التنكر الإسرائيلي لأي اتفاق، وصلت بأوسلو إلى مأزق انتفاضة الأقصى. ومن يومها لم تتوقف لازمة "موت أوسلو" منذ ذلك الحين وحتى اليوم.

المراجعة التاريخية السريعة تقول إن الفاعلية السياسية هي العامل الرئيس في تقويض الصفقات. ورغم "التباكي" بأثر رجعي على غياب الوعي العام بخطورة المخططات المستهدفة للقضية الفلسطينية، كانت فاعلية قطاعات فلسطينية قادرة على تعكير التنفيذ وإبقاء القضية حيّة بالمعنى النضالي حتى بعد تنفيذ الصفقات. لا يمكن ببساطة تجاوز أن الرئيس الفلسطيني، الشخصية المحورية في توقيع أوسلو وفي الذاكرة البصرية المتعلقة بها، قال أمس إن أوسلو تنازل عن سبعين بالمئة من فلسطين. هذا المنطق يدلل على قدرة الفاعلية المستمرة على تقويض المسارات حتى لو تجسّدت في الواقع. وجود حالة غزة الرافض، والمدى الافتراضي والعملي لردها العسكري، واقع عمليّ على "موت أوسلو". الحالة السياسية في مناطق 48، دليل عملي آخر على اللاحتمية في الصفقات والإعلانات والاعترافات الدولية.

تفتح لحظة الوعي الراهنة سؤالًا عن علاقتها بالفاعلية السياسية، ولا بدّ أن تتوجه لسؤال تقويض الفاعلية، وهو ما تورطت فيه النخبة السياسية الفلسطينية بمشاريعها الضيّقة. إن غياب دعوة رسمية واضحة لمواجهة الصفقة حتى بالاحتجاج الشعبي في نقاط التماس في الضفة أو بالمظاهرات على حدود القطاع يدلل على ما فعلته مشاريع تقويض الفاعلية السياسية لدى الفلسطينيين. إن اختزال القضية بسلطة إدارية وأمنية بدون أي ضمانات حقيقية حتى لبقاء هذه الأدوار الوظيفية، يضع السلطة نفسها في قلب المأزق، يسحب منها أي قدرة على المناورة، هذا على فرض توفّر هذه النية. وتفرض اللحظة الراهنة أيضًا مساءلة لأشكال المواجهة وتطوّرها فلسطينيًا، والوصول بها إلى كونها أداة غير قادرة على الفعل في لحظة مصيرية كالتي نعيشها. لم تطرح حماس خياراتها للمواجهة حتى الآن، ويغلب على الموقف التنديد العلني حتى الآن. هذا أيضًا يجعل التفكير في أن راديكالية الأدوات لا يعني فعاليتها السياسية دومًا، ولا قدرتها على تغيير الواقع، فهي حتى الآن تنجح في عدم ذهابه للأسوأ في جغرافيا غزة الضيّقة، ولكنها مكبّلة إلى حد لا يخفى على أي فلسطيني.

        معضلة اليوم هي في كيفية استثمار لحظة الوعي غير المسبوقة لتحويلها إلى فاعلية سياسية رافضة      

وقد لا يخفى على النخب السياسية الفلسطينية والتنظيمات جميعها، مقدار إسهامها كنخب وتشكيلات وسلطات في عملية تقويض الفاعلية السياسية، بنية أو بدون نية. ولا تخفى حقيقة أنها ستدفع ثمنًا قادمًا، يبدو في فداحته أكبر من كل الأثمان.

إن معضلة اليوم هي في كيفية استثمار لحظة الوعي غير المسبوقة لتحويلها إلى فاعلية سياسية رافضة. يحتاج الأمر قيادات وتشكيلات ونخبًا وطنية تدرك أن ما يحدث غير مسبوق، وأن أدواتها تتقلّص، وأنه لن يقول أي كان في المستقبل إن وعي الفلسطينيين بخطورة ما يجري تسببت بحدوثه. الموقف واحد وجمعي حتى الآن، يبقى السؤال عمّا سنفعل به. 


اقرأ/ي أيضًا:

الغائب عن "صفقة القرن"

عن فلسطين التي لا شأن لنا بها!

صفقة القرن.. ضجة الشعار وخِفّة السخرية