25-سبتمبر-2019

لم يكن سهلاً أن تكشف الفسيفساء عن وجهها الجميل، بعد أن شوهتها شظايا الاعتداءات العسكرية تارة والإهمال تارة أخرى، واليوم حينما أُزيل عنها الغبار كانت قد فقدت ما لم تفقده على مدار قرون، إنها الكنيسة البيزنطية شمال قطاع غزة .

الكنيسة البيزنطية في جباليا تم اكتشافها عام 1998 وتم ردمها بداية الألفية الثالثة لكن ذلك لم يحمِها من اعتداءات الاحتلال

في قطاع غزة، لا يعرف كثيرون أصلاً عن وجود هذه الكنيسة في بلدة جباليا، وهي التي تم اكتشافها عام 1998 أثناء عمليات تعبيد شارع صلاح الدين الرئيسي الممتد من شمال القطاع حتى جنوبه، وتم ردمها بداية الألفية الثالثة لحمايتها من اعتداءات الاحتلال، واليوم تُريد وزارة السياحة والآثار أن تنقذ ما يُمكن إنقاذه لهذا المعلم الذي يزيد عمره عن 1700 عام.

اقرأ/ي أيضًا: صور | هل تعود الروح لدير القديس هيلاريون؟

أعمال ترميم وحفريات تتم في الموقع الأثري أثارت جدلاً بين مواطنين، ظنًا أن ما يجري هو إزالة لغرض استخدام الأرض.

الترا فلسطين زار موقع الكنيسة البيزنطية، وإذا بمجموعة من الخبراء يعملون بحذر في أرض الفسيفساء المخدوشة، يحاولون جبر كسرها ببعض اللوحات القريبة من طرازها في جوٍ من الهدوء.

إنقاذ ما يُمكن إنقاذه

سألنا المشرف على مشروع إعادة ترميم الكنيسة أحمد البرش حول ما يجري، فقال: "هذا الموقع مكتشفٌ منذ التسعينات أثناء عمليات تعبيد لشارع صلاح الدين، وهو عبارة عن بقايا كنيسة مسيحية، تضم قبورًا وأرضيات فسيفساء وحولها أعمدة رخامية على مساحة 850 متر مربع من بينها 400 متر مرصوفة بالفسيفساء".

وبيّن البرش، أن الموقع يتكون من أروقةٍ معماريةٍ تظاهي كنائس مبنية بالنظام البيزنطي حاليًا في شرق أوروبا وتركيا وأماكن أخرى في العالم، موضحًا أن عمر الكنيسة أكثر من 1700 عام.

الكنيسة البيزنطية في جباليا تضم أروقة معمارية تضاهي كنائس مبنية بالنظام البيزنطي في شرق أوروبا وتركيا

الأعمدة الموجودة في الموقع استدل من خلالها الخبراء أن المنطقة تعرضت لزلزالٍ كبيرٍ في إحدى الحقب، تسبب بدمارٍ في بعضها، حيث توجد في هذه الأعمدة كسورٌ غير منتظمة.

وأضاف البرش، "طبعًا ليس هذا فقط ما تعرضت له الكنيسة، ففي عام 2003 أصيبت بأضرار جزئية جراء إحدى الاجتياحات الإسرائيلية للمنطقة، وتحديدًا الجزء الجنوبي من الكنيسة، رغم أنه كان في ذلك الوقت وإلى اليوم مردومًا بطبقات من الرمال".

اقرأ/ي أيضًا: صور | زيارة إلى دير الكرمل.. أسرار الرهبنة

وكان للكنيسة أيضًا نصيبٌ من شظايا حروب "إسرائيل" على قطاع غزة في سنوات 2008 و2012 ثم 2014، وبقيت على ما هي عليه من دمار وإهمال حتى اليوم.

سألنا البرش عن سبب إهمال الكنيسة لعقودٍ فقال: "كانت هناك محاولات وبالتنسيق مع اليونسكو لإنقاذ الموقع، لكنها -اليونسكو- أهملت كافة المواقع الأثرية بغزة ولم يعد لها وجود هنا، والمشروع طبعًا يحتاج لإشراف وتمويل كبير".

المكان تعرض لحرب دينية

الباحثة في التاريخ والآثار بوزارة السياحة هيام البيطار، تحدثت لنا عن تاريخ الكنيسة موضحة أن "الموقع لم يكن مهملاً بصورة مطلقة، فقد أجريت فيه عمليات تنقيب لثلاث سنوات سابقًا، وكشفت عن وجود كنيسة وجاءت بعثاتٌ من القدس والخارج واستغلت المعالم والمكتوبات باللغة اليونانية وأجرت دراسة لتاريخ الكنيسة وسبب وجودها".

أضافت، "حاولنا حماية الموقع بردمه بالرمال وبعض المزروعات حوله، خاصة أن مكانه متطرف على شارع صلاح الدين، لكنه تعرض للصواريخ والأضرار المباشرة على مدار السنوات الماضية ما تسبب بتكسير أسواره".

تعرضت الكنيسة لقصف صاروخي إسرائيلي ألحق بها أضرارًا مباشرة وتسبب بتكسير أسوارها

وأوضحت البيطار، أن الكنيسة "مرت عليها امبراطورياتٌ بيزنطيةٌ، وبعد الحقبة البيزنطية 12 خليفة مسلم من الدولتين العباسية والأموية".

النصوص اليونانية الموجودة على أرضيات الفسيفساء مكتوبةٌ بلغة الكتاب المقدس، وبعد ترجمتها تبين أن معظمها إشادة بالأشخاص الذين قدموا الدعم والتبرعات لإعادة بناء مرافق الكنيسة خلال فترات متباعدة بين الأعوام 497 م و773 م وإلى حين الوجود الإسلامي في فلسطين.

اللافت في أرضيات الفسيفساء أن بعض الأشكال فيها قد أزيلت عمدًا، وهو ما عللته البيطار بالقول: "نعم هذه لم تكن من آثار الحروب، بل إن المنطقة تعرضت لحرب الأيقونات -صراع ديني- وهو مذهبٌ كنسيٌ في المسيحية كان في عهد بوليانو، حيث تقضي هذه الحرب بمسح وتغيير الأشكال ذات الأرواح".

اقرأ/ي أيضًا: الزواج المسيحي: سر الكنيسة وإكليل الانتصار

أما القبور الموجودة فهي لأباطرة وداعمين للكنيسة، وقد تم التنقيب عن عظامهم واستخراج بعض العملات النقدية والأواني الفخارية وأشكال أثرية وغيرها من المقتنيات، ونقلها إلى متحف قصر الباشا، وفق البيطار.

افتتاحه كمعلم سياحي

هذه المقتنيات ستبقى في المتحف، ولن تُعاد إلى الموقع بعد إتمام عملية إعادة ترميمه وتحويله لموقع سياحي سيتم افتتاحه لاحقًا للسياح والزوار.

فمؤخرًا أخذ المركز الثقافي البريطاني ومقره لندن على عاتقه تمويل مشروع ترميم وتأهيل الكنيس، بإشراف الإغاثة الأولية الدولية ووزارة السياحة والآثار بالشراكة مع خبراء المدرسة الفرنسية للآثار بالقدس.

يقول البرش: "يجري في المرحلة الأولى الحالية وبشكل دقيق جدًا من الخبراء ترميم أجزاء كبيرة من أرضيات الفسيفساء باستخدام مواد بناء ملائمة لطرازها".

كما يجري نصب ممراتٍ خشبيةٍ على أعمدةٍ حديديةٍ للزوار حتى يتمكنوا من مشاهدة جمال الكنيسة دون أن تطأ أقدامهم أرضيات الفسيفساء.

العام المقبل سيتم افتتاح الكنيسة البيزنطية كمعلم سياحي للزوار لكنه سيحتاج لسنوات لإنعاشه كموقع أثري

ومن المقرر أن ينتهي الترميم في شهر كانون ثاني/يناير 2020 المقبل، رغم أن "ما حلّ بالمكان يحتاج إلى سنواتٍ من أجل إنعاشه كموقع أثري من أهم المواقع على سواحل بلاد الشام" كما يؤكد البرش.

سرقة الآثار لا تتوقف في غزة

شهود عيان أكدوا لـ الترا فلسطين أن مواقع أثرية تعرضت للنهب والسرقة والنبش دون علم الجهات المختصة، أبرزها موقعٌ أثريٌ لكنيسةٍ بيزنطية في بلدة عبسان الكبيرة شرق محافظة خانيونس، وقد ضاعت أغلب أرضيتها الفسيفسائية. يؤكد الشهود أن عبسان الكبيرة زاخرة بآثار تعود لمن يعرفون باسم "أولياء صالحين" وقد تعرضت للضياع دون اهتمام أحد.

أكدت البيطار على ذلك وقالت: "لا أخفيكم أن هناك من الناس من ينقبون عن آثارٍ في بيوتهم أو مناطقهم ويأخذون القانون بأيديهم، بالإضافة لنقل مواد ورمالاً من مواقع، ولم يكن لدينا علم بذلك، وقد يكون هذا لطبيعة أرض غزة المليئة بالآثار".

واستدركت البيطار، "لكن الوضع حاليًا أفضل بكثير مما سبق، وهناك متابعة من مباحث الآثار لهذا الأمر، فحاليًا المواقع الأثرية المكتشفة والمعتمدة حاليًا لدى الوزارة جميعها محاطة برعاية أمنية على مدار الساعة".


اقرأ/ي أيضًا: 

مار سابا.. قصة دير مُحرم على النساء

فيديو | كنيسة برقين.. البداية من بئر لعز المرضى

دير كريزمان.. البداية من نبيذ الصلاة