تُلقي القيود الإسرائيلية المشددة على حركة المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية بظلالها الثقيلة على الغزيين في جنوب قطاع غزة وشماله، وقد تفشت المجاعة، ونهشت أجساد الغزيين، خاصة أولئك النازحين في الخيام ومراكز الإيواء التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
وفيما مرّ الغزيون في شمال القطاع بتجارب مشابهة وصعبة ومستمرة، فإن نحو مليونيّ فلسطينيّ من السكان والنازحين في جنوب القطاع يمرون في هذه الأثناء بأشد فترات الحرب قسوة من حيث المجاعة، التي وصلت حدًا اختفى معه الدقيق ورغيف الخبز، وتسببت أيضًا في إغلاق مشاريع صغيرة تعتاش منها أسر نازحة.
زهاء مليوني فلسطيني في جنوب القطاع يواجهون "مجاعة حقيقية وممنهجة"
ويقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، إن 80% من قطاع غزة أصبحت الآن مناطق عالية الخطورة، حيث يجبر الناس على الفرار بحثًا عن الأساسيات.
وفي جميع أنحاء القطاع أصبحت عملية إيصال القليل من المساعدات التي يُسمح بدخولها معقدة للغاية، بما في ذلك بسبب الطرق غير الآمنة، بحسب المكتب الأممي.
ومنذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي تشدد سلطات الاحتلال من قيودها المفروضة على حركة دخول شاحنات المساعدات من خلال معبر كرم أبو سالم التجاري، وهو المنفذ الرئيسي لدخول شاحنات المساعدات الإنسانية، وكذلك البضائع التجارية للقطاع الخاص، إلى مناطق جنوب القطاع.
وعلاوة على هذه القيود المشددة وإحكام الحصار، فإن شاحنات المساعدات الشحيحة التي يسمح الاحتلال بمرورها، وبينها شاحنات طحين خاصة بوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، تواجه مخاطر عالية من سطو عصابات اللصوص وقطاع الطرق والاستيلاء عليها وطرحها بالأسواق بأسعار جنونية، وبحسب الوكالة الأممية، فإن ما يدخل القطاع من مساعدات لا يتجاوز 6% فقط من احتياجات الغزيين.
مرض وجوع
وكان لهذا الواقع المرير أثره الخطير على النازح الخمسيني علاء حسين، الذي يعاني من سرطان الرئة، ويقيم مع أسرته (4 أفراد) وأبنائه وأحفاده حوالي 15 فردًا في غرفة واحدة داخل مدرسة تحولت لمركز إيواء غرب مدينة خانيونس جنوب القطاع.
ذاق علاء، 50 عامًا، ويلات النزوح المتكرر منذ المرة الأولى التي أُجبر فيها على النزوح من منزله في شمال القطاع خلال الأيام الأولى لاندلاع العدوان الإسرائيلي، وتنقل مع أسرته من مكان إلى آخر، ويقول إنه يقيم في هذه المدرسة منذ النزوح الكبير عن مدينة رفح على وقع الاجتياح البريّ الإسرائيلي في أيار/مايو الماضي.
"والله احنا أموات بالحياة"، يقول علاء لوصف المأساة التي يعيشها كمريض بسرطان الرئتين، ولا تتوفر له أبسط الأساسيات من دواء وطعام، ويضيف لـ "الترا فلسطين"، أنه خضع لعمليات استئصال من رئتيه قبل الحرب بعام واحد، وكان في رحلة علاج إلى مصر، وعاد إلى القطاع قبل اندلاع الحرب في حوالي شهر، ليخوض مع أسرته أصعب تجربة في حياته.
يحتاج علاء إلى أصناف من الأطعمة التي تناسب حالته الصحية، ولكن عدم توفرها يجبره على تناول المتوفر من الأطعمة المعلبة المشبعة بالمواد الحافظة، التي تترك أثرًا سلبيًا على صحته، وتجعله غير قادر على التنفس إلا باستخدام "بخاخة"، وهي عبوة يستخدمها من يعانون من أزمات صدرية وضيق بالتنفس عبر الرش بالفم.
وقد انقطع علاء عن المتابعة والعلاج منذ نزوحه عن شمال القطاع، بسبب كثرة التنقل وعدم توفر الأدوية، وجرّاء ذلك فإنه يشكو من أثر الغبار والأتربة وانبعاثات النيران وتداعيات القصف الإسرائيلي على حالته الصحية.
وفي كثير من التأثر، يقول علاء: إنهم "يتفنون بقتلنا، بالصواريخ والتجويع"، ويتابع "الاحتلال يسمح بدخول أصناف محددة من المساعدات والبضائع وبسياسة التنقيط، وهي كميات ونوعيات لا تغني ولا تسمن من جوع".
أحلام أسرة
"شو بنفسك؟"، بلا تردد تجيب حور سامي الجزار، 6 أعوام: "نفسي آكل دجاج محمر"، ولا تتذكر هذه الطفلة النازحة آخر مرة تذوقت فيها طعم الدجاج، الذي يدخل إلى القطاع بكميات قليلة، وفي فترات متباعدة.
وتقيم حور مع أسرتها، 6 أفراد، في مركز إيواء داخل مدرسة عبد القادر الحسيني بمدينة خانيونس، وبعدما عبرت عن اشتياقها للدجاج المحمر، شاركتها الحديث ابنة عمها فلّة صلاح الجزار، بالقول: "وأنا نفسي بالمقلوبة".
ولا تتوفر اللحوم والدواجن في الأسواق، إضافة إلى غالبية الأصناف كالبيض والأجبان والألبان، ومختلف السلع والبضائع، التي يمنع الاحتلال دخولها للقطاع، فيما تشهد الأسواق ارتفاعًا هائلًا وغير مسبوق على الخضار والسلع الشحيحة المتوفرة.
ويقول سامي، 42 عامًا، والد حور، لـ "الترا فلسطين"، إن "صحن سلطة الخضار كلّفه نحو 50 شيكل، فما بالك لو بدنا نطبخ مقلوبة؟"، وتجيبه زوجته هبة، 38 عامًا: "بتكلفنا حوالي 250 شيكل، وكمان مقلوبة كذابة وليست حقيقية".
وفي ظلّ عدم توفر اللحوم والدواجن يصف أهالي غزة المقلوبة وغيرها من الأكلات التي يعدونها بالأرز فقط بالكذابة، وتكلفهم ماديًا أكثر من تلك التي اعتادوها في حياتهم الاعتيادية قبل الحرب.
"حياتنا كلها كذبة كبيرة وكأننا نعيش كابوسًا لا ينتهي"، ويضيف سامي: "اشتقنا لكل شيء، والله اشتقت لحياتي الطبيعية"، وبعد صمت، أضاف: "أكلتي المفضلة السمك وآخر مرة تذوقته كانت قبل الحرب".
وعادت زوجته هبة للحديث وفصلت في تكاليف إعداد أكلة "المقلوبة الكذابة"، وقالت: "الأسعار في غزة أعلى من دبي وباريس"، وتحتاج المقلوبة للرز وسعر الكيلو منه 42 شيكلًا، وكيلو الباذنجان بـ 25 شيكلأ، ولتر من زيت الطهي (الطهي) بـ 60 شيكلًا، وتقدر الأم أنها بحاجة لنحو 250 شيكلًا لطبخ المقلوبة "الكذابة"، لأسرتها المكونة من ستة أفراد.
ونظرت هبة نحو أطفالها، وتابعت الحديث: "كل شيء معدوم في غزة (..) إحنا كبار وبنتحمل الجوع، لكن كيف الأطفال يتحملوا قرصاته؟ والله بتألم وأطفالي بشتهوا الفواكه والخضار وما بنقدر نوفرها، وصرنا نشوفها (نراها) في الأحلام والمنام".
وتعتمد هذه الأسرة على المعلبات اعتمادًا كليًا، ولديها "بقايا طحين" وتلجأ هبة إلى "تقنين الاستهلاك" في ظلّ أزمة حادة في الطحين، تسببت في ارتفاع أسعاره على نحو غير مسبوق، ووصل ثمن الكيس زنة 25 كيلوغرامًا نحو 800 شيكل، وأجبرت كثيرًا من المخابز على الإغلاق.
جروح غائرة
وللسبعينية فاطمة النجار حكاية معاناة ترويها لـ "الترا فلسطين"، بكثير من الألم، وهي نازحة من بلدة بني سهيلا شرق مدينة خانيونس، وقد خاضت تجربة النزوح مرارًا منذ اندلاع الحرب، وفي إحداها سقطت أرضًا، وكسرت ساقها وأصيبت بجروح.
وتقيم فاطمة حاليا مع أبنائها وأحفادها (15 فردًا) في خيمة داخل مركز إيواء بالمدينة، وسط ظروف قاسية، وتقول إنها لم تبرأ بعد من جروحها، وبحسب ما أخبرها الأطباء، فإن السبب يعود إلى الظروف المعيشية وعدم تناولها الأطعمة المناسبة لعمرها التي تساعدها على التئام الجروح والشفاء منها.
وتتساءل بحرقة: "كل البلد ما فيها بيضة، من وين أجيب البيض والدجاج واللحوم، وحتى لو توفرت من أين لي بثمنها والأسعار جنونية؟".
وفيما كانت تتوسط مجموعة من أحفادها وأطفال النازحين من حولها، واصلت السيدة التي تعاني أيضًا من مرض السكري، وقالت: "حتى الخبز مش عارفين نحصل عليه"، وتشير إلى أن آخر مرة استلمت فيها الطحين المجاني من الأونروا كانت قبل نزوحها عن مدينة رفح في أيّار/مايو الماضي.
وزادت معاناة فاطمة وأسرتها مع توقف مشروع صغير قريب منهم تديره امرأة نازحة من بلدة بيت حانون في شمال القطاع، كانت تعد الخبز وتبيعه للنازحين والمارة، غير أنها اضطرت أخيرًا إلى إغلاقه، وتقول صاحبة المشروع سهاد أبو عمشة لـ "الترا فلسطين": "أغلقت فرن الطين لعدم توفر الطحين، وارتفاع أسعاره بشكل جنوني، ولم يعد مجديًا بيع الخبز".
وكان هذا الفرن ملاذًا للكثير من النازحين وغيرهم في الخيام ومراكز الإيواء المحيطة به، وبحسب أبو عمشة، فإنها وأسرتها وأقاربها من الدرجة الأولى حوالي 62 فردًا يواجهون حاليًا أزمة حادة في الحصول على الخبز والطعام اليومي، وتؤكد "نعيش مجاعة حقيقية".
مجاعة ممنهجة
ويرجع مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة في حديثه لـ "الترا فلسطين" هذه المجاعة لـ"سياسة إسرائيلية ممنهجة وللقيود المشددة على دخول المساعدات، بحيث يسمح في أفضل الأحوال بإدخال ما بين 20 إلى 30 شاحنة فقط في اليوم الواحد منذ ما يقارب شهرين، ولا تسلّم غالبيتها من سطو عصابات اللصوص وقطاع الطرق المحمية من الاحتلال".
وبحسب الثوابتة، فإن زهاء مليوني فلسطيني في جنوب القطاع يواجهون "مجاعة حقيقية وممنهجة يتشارك الاحتلال وعصابات اللصوص في خلقها، بهدف الضغط على الجبهة الداخلية وزعزعة الأمن والاستقرار المجتمعي"، بحسب قوله.
ويتجسد ما تحدث عنه الثوابتة، من المشكلات والخلافات الحادة التي وصلت "حد استخدام السلاح أمام المخابز القليلة المتبقية في جنوب القطاع، وتشهد اكتظاظًا كبيرًا من أجل الحصول على ربطة خبز واحدة"، مما أدى إلى سقوط ضحايا.