يقضي الفنان رمضان أحمد ساعات طويلة أمام قطعة صخرية، يمسك بمطرقة وأزاميل صغيرة، ومع كل طرقة على هذه الصخرة تدب فيها الحياة، وتتضح معالمها ووجهها الفلسطيني المناوئ للظلم والاحتلال.
ينحت الفنّان رمضان أحمد، الأمل وإرادة الحياة من قلب الحجارة، ويوثّق مشاهد الحرب والمآسي التي خلّفتها
يعيش أحمد وهو من مواليد العام 1961، وتعود جذور عائلته لقرية بربرة داخل فلسطين المحتلة، وتهجّرت سنة النكبة، في منزل متواضع غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، وقد ناله دمار خلال العملية الإسرائيلية البرية التي استمرت 4 أشهر في المدينة مطلع العام الماضي.
في هذا المنزل يمتلك أحمد متحفه الخاص، وفي أحد زواياه يجلس على كرسي وأمامه طاولة صغيرة يثبت عليها قطعة من الصخر يقول لـ "الترا فلسطين" إنه حصل عليها من مخلفات جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي جلب معه كميات هائلة من الصخور وغيرها من المواد اللازمة لشق طرق جديدة في المدن والمناطق التي اجتاحها في القطاع منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023.
إرادة الحياة
لا تتوفّر في غزة الساحلية مثل هذه الصخور الجبلية، ولا يمكن الحصول على مثلها إلا بصعوبة بالغة بالغوص في أعماق البحر. يقول أحمد رمضان إنه يعاني من أجل إيجاد الصخور المناسبة للنحت، ووجد بعضها بعد انسحاب الاحتلال من مدينة خان يونس في شهر ابريل/نيسان من العام الماضي.
ويجد هذا الفنان الستيني نفسه في متحفه، وبين الصخور، ويمارس هوايته في نحت المعالم والعناوين الوطنية والتراثية، ويقول: "هنا حياتي وطاقتي، وكل ضربة بالشاكوش فيها تفريغ نفسي من الضغوط التي نعيشها، وفيها أيضًا تعبير عن إرادة الحياة لدى الفلسطيني، خاصّة في هذه البقعة الصغيرة واسمها غزة".
الفنان رمضان أحمد: كل ضربة بالشاكوش فيها تفريغ نفسي من الضغوط وتعبير عن إرادة الحياة لدى الفلسطيني
ويشعر أحمد بالحزن الشديد على ما فقده من قطع أثرية ومنحوتات تاريخية خلال الاجتياح البري لمدينة خان يونس، ويقول إنه كان يمتلك في متحفه زهاء ألفي قطعة، وقد فقد الكثير منها تحت الأنقاض، ولا يعرف مصيرها وما آلت إليه، وكذلك لديه نحو 600 قطعة باسمه كانت معروضة في الجامعة الإسلامية بمدينة غزة، وقد اندلعت الحرب وتعرّضت الجامعة للقصف والتدمير ولا يعرف أيضًا ما حلّ بكنزه الأثري هناك.
وفي إحدى زوايا المتحف الصغير يضع الفنان أحمد لوحة صخرية كبيرة يعتبرها "إنجاز حرب" وقد نحتها بالكامل يدويًا ومن دون أيّ أدوات آلية بسبب أزمة انقطاع الكهرباء، وهذه اللوحة -وفقًا له- مكوّنة من عدد كبير من المنحوتات الصخرية التي تعكس أثر الحرب على حياة حوالي مليونين و300 ألف فلسطيني في القطاع، تركت الحرب آثارها الثقيلة على مختلف مناحي حياتهم.
وفي هذه اللوحة، تظهر طائرات ودبابات وزوارق حربية حرص أحمد على نحتها والتي كانت بمثابة "آلة القتل والتدمير" وتسببت في قتل وجرح ما يزيد عن 150 ألف فلسطيني، جلهم من النساء والأطفال، وتدمير آلاف المنازل السكنية وكل مقومات الحياة في القطاع.
وجرّاء هذا التدمير اضطر غالبية الغزيين للنزوح في الخيام، وقد جسّد الفنان أحمد هذه المعاناة في لوحته الفنية، وعكس من خلالها صعوبة حياة النزوح وافتقارها لأدنى المقوّمات الأساسية من مأكل ومشرب، وحتى المواصلات حيث بات الغزيون يعتمدون على عربات تجرها الحيوانات، بسبب توقف سيارات الأجرة نتيجة أزمة الوقود.
يقول الفنان رمضان أحمد إن هذه اللوحة هي نموذج مصغّر يجسّد الواقع المأساوي لأهالي غزة، بعد الحرب الدموية المدمرة، والتي لم تترك شيئًا في غزة إلا وأثّرت به بالقتل والتدمير، حتى المساجد والكنائس والمستشفيات والبنى التحتية.
الهوية الوطنية
"لا ينبغي أن ينسى أطفالنا هذه الجرائم المروعة، وحقّهم المشروع في الحرية والعيش بكرامة وأمان"، يقول الفنان أحمد الذي يعتبر فن النحت الذي يقوم به رسالة للأجيال القادمة وللعالم: "إننا شعب مظلوم سرقت أرضه ويقاوم من أجل استرداد حقوقه".
وفي سبيل ذلك يركّز على نحت معالم تاريخية وأثرية ودينية بارزة تمثّل حقبًا وحضارات مختلفة مرّت على أرض فلسطين، كالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة في مدينة القدس المحتلة، والمسجد العمري الذي دمرته آلة الحرب الإسرائيلية خلال الحرب الدائرة حاليا ويعود تاريخه لمئات السنين في قلب مدينة غزة، إضافة للكثير من المعالم والآثار الأخرى، التي يقول إنها تمثل "الهوية الوطنية الفلسطينية".
ووجدت هذه المنحوتات صدى واسعًا، وقد تحوّل منزل الفنان أحمد شبه المدمر في خان يونس إلى "مزار" للمهتمين والصحفيين، منذ ما قبل الحرب وخلالها، ويقول أحمد إنه يتلقى يوميًا اتّصالات من مختلف أنحاء العالم، وتم منحه عدة شهادات دكتوارة فخرية من جامعات ومؤسسات حول العالم.