17-ديسمبر-2019

بناء حكاية، بناء سردية للرواية الجماعية، تحضير ملف لاجتماع عمل، هو التوصيف الأفضل لما نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم" عن الـ 150 مليار دولار تعويضات لليهود المهاجرين من إيران والعالم العربي. مشروعٌ إسرائيليٌ سريٌ بدأ منذ سنوات، كشفت نتائجه الصحيفة ووصفته بأنه يشبه العثور على كنزٍ في تاريخ اليهود القادمين من إيران والعالم العربي، أما الذين أتوا من بولندا أو روسيا أو المكسيك فلا كنوز وراءهم.

مشروعٌ إسرائيليٌ سريٌ بدأ منذ سنوات، وصفته الصحيفة بأنه يشبه العثور على كنزٍ في تاريخ اليهود القادمين من إيران والعالم العربي، أما الذين أتوا من بولندا أو روسيا أو المكسيك فلا كنوز وراءهم

قبل أن أكتب، أعرف أن مقالتي هذه ستكون مثل مناظرة إسرائيلية فلسطينية لا طائل منها، وأنا موافق، ولكن قوة صناعة الكذبة في الجانب الآخر، تحتم علينا الحديث. فالحق دائمًا أصلاني، وتاريخي، ولا يظهر فجأة مُصنَّعًا وجاهزًا للمطالبة على أية طاولة مفاوضات سياسية، ثم إنه يولد في الهوية ويظهر في عمرها الزمني، فلماذا لم يظهر هذا منذ عقود في إسرائيل؟

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل: 150 مليار دولار قيمة أملاك اليهود المتبقية في دول عربية

في الحقيقة إن خلف "إسرائيل" منذ تأسيسها ماكنة سرد رسمية تشتغل فيها أكثر من خطوط شبكة الكهرباء القُطْرية، سردٌ حول اللغة وحول المكان والمأكولات والثياب وأسماء التلال الصالحة للاستيطان، والمفاجآت لا تكف عن الظهور، فستانٌ إسرائيليٌ عليه صورة قبة الصخرة، الفلافل أكلة يهودية، والزعتر شتلةٌ أنتجتها مختبرات الجيش، وهكذا.

قوة الحق في الحالات السابقة تجعلنا كفلسطينيين نمر مرور الكرام المحترمين على "الدعايات الإسرائيلية"، لكن للأسف فإن هذه الكذبات تتحول إلى سرد ونثر وكلام موجود يؤسس لرواية ما، بغض النظر عن صدق هذه الرواية أو كذبها.

للأسف فإن موقفنا "المحترم" والواثق من قوته في مواجهة هذه الكذبات، لا ينفع في ظل هذه الصناعة الإسرائيلية الثقيلة والسرية.

موقفنا "المحترم" والواثق من قوته في مواجهة هذه الكذبات، لا ينفع في ظل هذه الصناعة الإسرائيلية الثقيلة والسرية

تعمل "إسرائيل" على استراتيجيةٍ كاملةٍ في تقويض حق العودة، وكان الجانب اللغوي في الموضوع أهم أدوات الساردين الإسرائيليين، فمنذ 2009 ومع صدور "قاموس المصطلحات" الإعلامي والخطابي الذي أنتج ضمن مشروع إسرائيلي أميركي مشترك، وتم تسريبه بعد سنوات، تصنع "إسرائيل" سردية وتمشي فيها بلا أي ارتباك، دون أن يكون للفلسطينيين أو العرب أي جهد مقابل في هذا الموضوع.

عدت صباح اليوم مع صدمة الخبر الإسرائيلي إلى قاموس المصطلحات هذا، وفي الفصل 12 المتعلق بحق العودة يشترط السارد المستعمر على متحدثيه وناطقيه وسفرائه أن يتحدثوا عن حق التعويض لأنه يبني مستقبلاً، وترك حق العودة لأنه ماض، العالم يريد المستقبل طبعًا.

يشترط السارد المستعمر على متحدثيه وناطقيه وسفرائه أن يتحدثوا عن حق التعويض لأنه يبني مستقبلاً، وترك حق العودة لأنه ماض، والعالم يريد المستقبل طبعًا

السارد المستعمر يوصي الناطق باسمه: قُل إن طالبي العودة بلا دولة، فليعودوا إلى دولة يبنونها في "المناطق". لكن ليس إلى دولة لا علاقة لهم بها، أدر الحديث عن حق العودة بالقول إننا نقبل تعويض تاركي المنازل والعقارات من كانوا هنا، لكن لماذا أحفادهم الذين لو يولدوا هنا؟ اقبل أيها المتحدث بعودة الفلسطينيين إلى "المناطق" إن استطاعوا بناء دولة رشيدة فيها، لكن إلى "تل أبيب" وحيفا فهذا غير منطقي. فكيف سنطرد من جلسوا مكانهم منذ سبعين عامًا؟ اجعل الأذن الأوروبية تخاف من أن يكون حل عودة من تركوا سابقًا على حساب طرد مئات آلالاف الذين جاءوا الآن.

في نفس الفصل 12 الخاص بالرد على "حق العودة" يحمل السرد الاحتلالي عبارة"thanks 11/9"، شكرًا 11 سبتمبر الذي عذب العقل الأميركيين بالإرهاب، وجعلهم لأول مرة يصابون برهاب الهجرات الجماعية لأراضيهم، وهنا توصية المستعمر لسفيره في الولايات المتحدة أو في أوروبا: ذكّرهم بما يعني فيضان مئات آلاف المهاجرين إلى بلدك. لا تقبلونها لأميركا فلا تقبلوها لـ"إسرائيل".

اليوم انبلج عصرٌ خطابيٌ كاملٌ في "اسرائيل"، سيصدع رؤوسنا في المستقبل، سيظل يكرر نفسه إلى أن يستأجر كرسيًا في الحقيقة. خطاب تعويض اليهود الذين قدموا لـ"إسرائيل" بعد النكبة، سيصير هذا الخطاب دفتر داني دانون الأقرب إلى قلبه، فرقة التفاوض على هذا "الحق" ستدفعنا ثمن خيط قبعة حاييم التي نسيها في اليمن، وكرة الخيوط والإبرة التي تركتها راحيل في طهران قبل ثمانين عامًا.

عودةٌ إلى العقل الفلسطيني "المحترم.. الواثق بالحق"، الذي يرى في حادثة الـ 150 مليارًا كذبة مثلما كتبت، هذه الثقة لن تفيدنا، فالسرد الإسرائيلي يتحرك في فراغ، وما لم نملأ هذا الحيز بروايةٍ معاكسةٍ عن حق العودة سنخسر.

منذ أعوام لم نعد نحتفل بذكرى النكبة كما يجب، انفصلنا عن ستة ملايين لاجئ مؤسساتيًا، أدواتنا تقليدية في حق العودة وصانع القرار نائم على ثقته "بالحق التاريخي" وهذا لن يطعمنا خبزًا في العقود المقبلة.


اقرأ/ي أيضًا: 

مهاجرون إلى إسرائيل يأخذون جنسيتها وأموالاً ثم يغادرون

هل لديكم فكرة عن اليهود الذين هاجروا من إسرائيل؟

شلومو ساند وديناصور الشعب اليهودي