25-نوفمبر-2018

تجتاح ظاهرة "الجمعة السوداء" (Black Friday) السوق الفلسطينية، إذ يتنافس التجار في الإعلان عن حملات التخفيضات في محلاتهم. ولكن كان من الملاحظ أن العديد من هذه المحلات اقتصرت الخصومات فيها على نسبة تتراوح بين 20 إلى 30 بالمئة. كما أن العديد من هذه العروض لم تقتصر على يوم الجمعة، بل امتدت لأكثر من يوم.

و"الجمعة السوداء" سميت بهذا الاسم لأول مرة عام 1960 من قبل شرطة فيلاديلفيا، نتيجة الاختناقات المرورية الكبيرة والتجمهر والطوابير الطويلة أمام المحلات في هذا اليوم، استجابة للتخفيضات التي تزيد عن 50 بالمئة وتصل لـ90 بالمئة، والتي تسببت بالكثير من الشجارات والجرائم. وتعود فكرة "الجمعة السوداء" للأزمة المالية في الولايات المتحدة عام 1869، حيث لجأ التجار لعمل تخفيضات كبرى على السلع والمنتجات لبيعها بدلاً من كسادها وتقليل الخسائر قدر المستطاع.

"الجمعة السوداء" وصلت فلسطين في وقتٍ تتنامى فيه الحراكات المناهضة لفكرة هذا اليوم عالميًا

ومنذ عام 1992، بدأت حملات مناهضة للجمعة السوداء لرفض مبدأ "التسوق من أجل التسوق"، و"الاستهلاك المفرط والتفكير المادي"، حاملة شعارات مثل "اليوم العالمي لشراء لا شيء"، و"أوقفوا التسوق، ابدأوا الحياة"، ومطالبة بوقف "جشع الرأسماليين وسلطتهم في الدولة"، وداعية المواطنين لأن يعيشوا حياة أقل إسرافًا وبذخًا، وخفض استخدام بطاقات الائتمان وتحريرهم من الديون.

وفي الوقت الذي تتنامى الحراكات المناهضة لفكرة هذا اليوم، نجد أن المجتمعات العربية باتت تروج له بشكل أكبر، حتى إن بعض الدول أطلقت عليه اسم "الجمعة البيضاء"، تماشيًا مع أهمية يوم الجمعة لدى المسلمين.

من المستفيد؟

يرى الباحث في مركز دراسات التنمية بجامعة بيرزيت على عامر، أن سبب التخفيضات هو التخلّص من فائض البضاعة المكدّسة (فائض الإنتاج)، "وهو أعمق أشكال الأزمة في النظام الرأسمالي"، معللاً هذه الأزمة بأنّ أغلبية سكّان كوكب الأرض هم أمّا عمّال أو عاطلون عن العمل، وأنّ مجموع أسعار البضائع التي ينتجها البشر أعلى من مجموع مداخيل العمّال في العالم، لأنّ سعر البضاعة يشمل أجور العمّال بالإضافة للربح وتكاليف الإنتاج الأخرى.

ويعزو عامر ظهور "الجمعة السوداء" في المجتمع الفلسطيني إلى انتقال أزمة تكدّس البضائع للمجتمع الفلسطيني، لأنّ "السياسة الاقتصادية الفلسطينية تتبنّى نموذج السوق المفتوح الخالي من أي شكل من أشكال الإدارة الوطنية أو التخطيط القومي الاقتصادي"، إضافة لعولمة ثقافة الاستهلاك، وانتشارها عبر العالم.

باحث فلسطيني: ظهور "الجمعة السوداء" في المجتمع الفلسطيني سببه انتقال أزمة تدس البضائع إليه، لأن السياسة الاقتصادية الفلسطينية تتبنى نموذج السوق المفتوح

ويقول عامر، إنه بالنظر إلى الواقع الفلسطيني الخاضع للاستعمار الاستيطاني الصهيوني ذو الارتباطات الإمبريالية العالميّة، وباعتبار كون الأغلبية الساحقة من البضائع المعروضة في السوق الفلسطينية هي بضائع مستوردة وليست منتجات وطنية، "ندرك دور هذه الظاهرة في إفقار ما تبقى من اقتصاد فلسطيني، بسبب تسرّب أموال الفلسطينيين للخارج كمقابل للاستيراد -عوضًا عن توظيفها في تعزيز القدرات الإنتاجية الوطنية- وما يرافقه من اختلالٍ خطيرٍ في الميزان التجاري، وهذا يقوّض أيّة إمكانية لبناء اقتصادٍ فلسطينيٍ يعمل على دعم الصمود وإسناد مشروع التحرر الوطني".

وعلى المدى البعيد، يتوقع عامر أن هذه الظاهرة ستؤدي لرفع نسبة القروض الاستهلاكية التي وصلت في بداية الربع الأخير للعام الحالي إلى حوالي مليار، ورفع نسب البطالة ومعدلات هجرة الشباب، وتفاقم أزمة فائض البضاعة، وزيادة الاعتماد الفلسطيني على العمل في سوق الاحتلال، "وسيرافق كل ذلك تعاظم النزعات الفردية الأنانيّة وتفسّخ المجتمع، ما يصب لصالح الهدف الصهيوني الاستراتيجي، وهو القضاء على وجود الفلسطينيين كشعب واحد. وستزداد الفجوة بين حلم التحرير والتحرير الفعلي للأرض الفلسطينيّة العربيّة".

الامتلاك مقياسًا للسعادة

من جانبه، يؤكد عضو الهيئة الأكاديمية في دائرة الإعلام بجامعة بيرزيت محمد أبو الرب، أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا هامًا في تشويق الناس للشراء "بفعل الإيهام بوجود عروضٍ وتصفياتٍ واستغلال أيقونة التسمية (الجمعة السوداء) كمدخلٍ جاذبٍ لدفع الناس لاتخاذ قرار الشراء".

ويتابع، "تضاعفت هذه الحالات بفعل الإعلانات الممولة والتصاميم الجذابة على شبكات التواصل الاجتماعي بتكلفةٍ زهيدةٍ؛ ومع خيار تكرار العرض، فيصبح المتلقي أمام خيارٍ وحيدٍ وهو البحث بين الخيارات لاتخاذ قرار الشراء بمعزلٍ عن مسألة الحاجة للمنتج أو السلعة من عدمه".

أكاديمي فلسطيني: ظهور "الجمعة السوداء" في المجتمع الفلسطيني ليس له جوانب سياسية

ويرى أبو الرب، أن عملية اتخاذ قرار الشراء تعتمد على تراكم محفزاتٍ لدى المستهلك، متجاوزة وعيه لعملية دفعه نحو الشراء. ولا يعتقد أبو الرب أن انتشار "الجمعة السوداء" له "جوانب سياسية"، معتبرًا أنها استغلال لأيقونة "الجمعة السوداء" بما تحمله من دلالات استهلاكية ورأسمالية.

ويقول: "في عصر الترويج عبر منصات التواصل الاجتماعي لم يعد السؤال قائمًا على مدى حاجتي لهذه السلعة أو تلك بقدر ما هو مفاضلةٌ ورغبةٌ جامعةٌ بامتلاك الأشياء كمقياسٍ للحكم على السعادة وتحقيق الذات. وهو شعور آني سرعان ما يتراجع بمشاهدة سلعةٍ أو منتجٍ آخر، يبدو أكثر قدرة على الجذب من المنتج الأول، وليس أكثر تلبية لحاجة. وهكذا تستمر حلقة الإعجاب والرغبة للتملك وتتصاعد بفعل عمليات الإغراء الرقمي".

استغلال Every day

سألنا 19 مواطنة ومواطنًا من فئاتٍ عمريةٍ مختلفةٍ إن كانوا قد استفادوا من عروض "الجمعة السوداء" في فلسطين. وكانت إجابة سيدة واحدة منهم فقط بنعم، إذ اشترت نظارة كان ثمنها ألف شيقل بـ340 شيقل. فيما قالت مجموعة من الباقين إن موعد "الجمعة السوداء" جاء في نهاية الشهر في وقت ينتظر فيه المواطن صرف راتبه. كما أن آخرين اعتبروا أن العروض "ليست جذابة" والإعلان عنها لم يكن قويًا بما فيه الكفاية.

العروض في "الجمعة السوداء" كانت على البضاعة الصيفية، وسوق الإلكترونيات خارج المنافسة خلافًا لما يحدث في العالم

وقالت مريم أبو ماضي إنها لم تسمع عن هذه العروض في مدينتها طولكرم. فيما قال ظافر خياط: "لم أستفد لأنه ليس لدي مزاج للتسوق. أشتري فقط عندما أكون محتاجًا جدًا لذلك". أما المواطنة لمى من غزة، فعلقت مازحة: "هون كل أسبوع عنا جمعة سوداء"، في إشارة لسوء الأوضاع في القطاع والمواجهات التي تقع أيام الجمعة مع قوات الاحتلال.

من جهته، قال أنس الحمد الله: "العروض كانت على البضاعة الصيفية. كما أن سوق الإلكترونيات لم يقدم أي خصومات. في البلاك فرايداي تتنافس أسواق الإلكترونيات لعمل خصومات ضخمة، فمن الممكن أن تشتري حاسوبًا محمولاً بـ30 دولارًا".

أما عبد الغني عبد ربه من محافظة نابلس، فقال متهكمًا: "استفدت لدرجة أنني اشتريت حذاءً كان سعره 250 شيقلاً بـ300 شيقل". وأوضح أنه ذهب ليشتري حذاءً من متجر أعلن عن عروض في "البلاك فرايداي"، إلا أنه فوجئ بأن الأسعار مرتفعة جدًا، وأضاف "إحنا عنا استغلال Every day مش "Black Friday.

وفي واقعة فريدة من نوعها، أعلنت سلسلة من محلات "سوبر ماركت" في مدينة رام الله عن خصوماتٍ زادت عن 50 بالمئة يوم "الجمعة السوداء"، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورٌ ومقاطع فيديو لتدافع المواطنين للشراء من هذه المحلات. والمفارقة كانت عندما أعلنت المحلات عن إغلاق أبوابها قبل موعد انتهاء الدوام، وذلك لشدة الطلب عليها ما أدى لنفاذ جميع بضائعها.


اقرأ/ي أيضًا:

البالة الإلكترونية.. سوق بلا ضرائب

التكييش يغزو الأسواق مسببًا خسائر فادحة

مليونيرية يقودون عصابات "الشيكات البنكيّة"