17-سبتمبر-2019

بطوله الفارع وجسده الممتلئ والمتناسق في آن، يقف نبيل أبو ميزر مستذكرًا لحظاتٍ قلبت حياته، بعدما أفقدته بصره ويده اليمنى وأحدثت تشوهات وإصابات في أنحاء مختلفة من جسده.

عشرات حقول الألغام زرعتها إسرائيل إبان حرب 1967 لعرقلة تحركات الجيوش العربية واستخدامها ككمائن

في مثل هذه الأيام قبل 42 سنة، كان أبو ميزر (57 عامًا) يجوب مع اثنين من أصدقائه أرض وادي دعوك عند مدخل بلدته عرَّابة قرب مدينة جنين، وفجأة عثروا على جسمٍ غريبٍ كان ملقى فوق الأرض، فعبثوا به ليحدث ما هو أسوا ويتبين أن ذلك لم يكن إلا لغمًا أرضيًا.

نبيل أبو ميزر

في عرَّابة كما هو الحال في عدة قرى ومدن بالضفة الغربية تنتشر عشرات حقول الألغام التي زرعتها إسرائيل إبان الحرب مع الدول العربية عام 1967 لعرقلة تحركات جيوشها واستخدامها ككمائن للإيقاع بهم، لكنها لم تُزِلها عقب الحرب بل أبقتها كما لو كانت عقابًا جماعيًا للفلسطينيين للحد من نشاطهم والوصول لحقولهم وأراضيهم.

تبدد الغصة

يستذكر أبو ميزر جيدًا حيثيات الانفجار وكيف أدى لبتر يده اليمنى وفقدان بصره، فتلك الغصة لا تغيب عن باله بتاتا بالرغم من عدم استسلامه لها، خاصة وأنه نجح في كسر إعاقته وداوى مرضه بالتي كانت هي الداء، فانطلق بعد تعافيه جيدًا لتوعية أهالي قريته لا سيما طلبة المدارس والمناطق المجاورة، فزار المدارس وحدث الناس وجهًا لوجه.

اقرأ/ي أيضًا: لا صلاة في 7 كنائس.. ألغام الاحتلال وراء ذلك

تبدو فرحة الرجل اليوم أكبر من أي شيء آخر بعد أن غدا المكان الذي تسبب بإعاقته خاليًا من أي ألغام، إذ تعمل جهاتٌ رسميةٌ من وزارة الداخلية الفلسطينية وفريق جورجي بدعم دولي ومنذ الأول من أيار/مايو الماضي على إزالة حقل ألغام وادي دعوك.

حقل ألغام عرابة خلال العمل به

ولا تقتصر الفرحة على أبو ميزر لوحده بل هذا حال البلدة بأكملها، خاصة أن حقل الألغام المقصود يقع بالقرب من الشارع الرئيسي المعروف بشارع جنين نابلس، ما يعني أن خطره كان يستهدف كل مار من الطريق.

وعن كثب تتابع بلدية عرَّابة ما يحدث في أرضها المقدرة باثني عشر دونمًا (الدونم يساوي ألف متر مربع)، فهذه مساحةٌ كافية للاستفادة منها بطريقة أو أخرى، فإذا كانت الأرض ملكية عامة سيصار لإقامة مشاريع بها، وإذا كانت بأكملها أو جزء منها ملكية خاصة فستعود لأصحابها.

حقل ألغام عرابة خلال العمل به

معاناة عمرها عقود

أطلعنا مدير بلدية عرَّابة عبد الكريم دقة على خرائط الموقع والأهمية التي يشكلها، وقال، إن ثلاثة شبان استشهدوا بينهم شقيقان وحيدان لعائلتهما من عائلة السواركة الذين يسكنون بمحاذاة الحقل، كما أُصيب خمسة آخرون بجروح مختلفة بعضها صعبة، وتسببت بإعاقتهم حركيًا أو بصريًا أو الاثنين معًا كما حدث مع أبو ميزر.

ثلاثة شبان من عرابة فقدوا حياتهم وخمسة آخرون أصيبوا إصابات صعبة بسبب ألغام الاحتلال

ومثل أهالي قريته، تكاد الفرحة لا تسع دقة، فالكوارث التي وقعت وكانت ستحدث بفعل هذا الحقل ستذهب بلا رجعة، خاصة إذا ما عرفنا أنه من حقل عرَّابة وحده أزيل 71 لغمًا مضادًا للأفراد، و80 لغمًا أعد للمركبات.

اقرأ/ي أيضًا: انتبه أمامك "ذكريات إسرائيلية" تجرح

وأضاف أن معاناتهم لا توصف بسبب هذا الحقل الذي كانت تغيب عنه -حتى وقت قريب وبعد مجيء السلطة الفلسطينية- أدنى سبل الحماية والأمان كاليافطات التحذيرية والسياج الشائك أو غيرها.

ووفق دقة، فقد كان الاحتلال الإسرائيلي يمنع إزالة هذه الألغام رغم خطورتها وانتهاء الهدف الذي وضعت من أجله، "لأجل تنغيص حياة المواطنين عبرها وجعلهم يعيشون بحالة إرباك وخوف دائم بفعلها" كما قال.

من أصل 16 حقلاً للألغام في الضفة الغربية، أُزيل حتى الآن ستة حقول ويجري العمل على إزالة البقية، إضافة لواحد وثمانين حقلاً على طول الحدود الشرقية (الأردنية - الفلسطينية)، وُضِعَت جلها عقب الحرب بين إسرائيل والدول العربية عام 1967.

تنظيف حقول ألغام الحدود الفلسطينية مع الأردن

عشرات الحقول

يجري العمل حاليًا في حقل المغطس، وهي نحو ألف دونم تتبع أراضي الكنائس في الأغوار المحاذية لمدينة أريحا، وحتى الآن تم إنجاز العمل في 136 دونمًا فيها مخلفاتٌ حربيةٌ ومفخخات، وفق ما أفادنا به مدير العمليات في المركز الفلسطيني لمكافحة الألغام العقيد عيسى غنيمات.

ويُبين غنيمات، أن العمل يجري في مناطق "أ" ومناطق "ج"، موضحًا أن الاحتلال لم يمنع إزالتها حتى الآن، لكنه يشترط وجوده بين الحين والآخر لضمان سير العمل وإطلاعه على الألغام المزالة مع الجهات المنفذة، "فالاحتلال لا يوجد لديه ما يخسره، لأن المشروع منحة مقدمة للفلسطينيين".

يؤكد غنيمات توثيق 400 حالة من أصل 1100 مواطن أُصيبوا أو قُتلوا بسبب هذه الألغام، بينما تتزايد المخاطر في ظل زحف المنازل في القرى والمدن الفلسطينية نحوها، عبر ما يعرف بالتمدد الطبيعي للسكان، فضلاً عن ضررها على المواشي بقربها من مناطق الرعي خاصتها.

يُذكر أن هذه الأراضي المستصلحة من الألغام -خاصة أراضي الكنائس- ستعود لأصحابها لكي يعمروها ويستثمروا بها، وبعضها سيتم تجهيزه واستغلاله لجذب السياحة إليه.

عاد المزارعون وأغنامهم للمناطق التي كانت حقول ألغام

اقرأ/ي أيضًا: 

نابلس - جنين: ذاكرة فلسطين ونفطها ورائحتها الزكية

معركة الدريجات: قاتلوا حتى نفدت ذخيرتهم

مذكرات بيريز: عن النووي وعمرو موسى والشارب المستعار