01-مارس-2023
Yousef Masoud/ Getty Images 

Yousef Masoud/ Getty Images 

اسمي أحمد. تخرّجتُ من كليّة التجارة ثم تقدّمتُ لعشرات الوظائف لكنّي لم أحصل على شيء. اشتغلتُ عاملَ نظافة وعدتُ أبحثُ عن عمل من جديد. كبرنا مع الاحتلال الإسرائيليّ والانقسام والحصار والحرب والتهديد المستمر بالحرب، وتحوّل المكان الذي نعيش فيه إلى مستنقع؛ نفتح التلفاز فنسمع كلامًا يحيّي صمودنا ونخرج إلى الشارع فلا نرى إلا البؤس. بانعدام قيمة محاولاتي في الواقع أشعر بانعدام قيمتي نفسها، هذا يحطّمني. ثم لماذا عليّ أن أدفع ثمن عدم انتمائي لفصيل سياسيّ؟ فحتى الفوز بفرص التشغيل المؤقت يحتاج إلى تزكية من أقرب مسجد! أريد تأسيس عملي الحرّ، وهذا الفقر الملعون لم يكن يومًا قدرًا.

لماذا على "الحياة الكريمة" أن تساوي ما كابدتُه حتى الآن كي أصل إلى هنا؟ كيف للحياة الكريمة أن تعادل إزهاق الحياة نفسها؟ وكيف سأستعيدُ روحي التي أعرفها لأكمل بها حياتي التي لم تنتهِ بعد؟ 

كنتُ من أشدّ المعارضين للهجرة من غزة، إذ حلمتُ أن أؤسس شركة للدعم اللوجستي فيها، لكن بعد أن انهار القطاع الخاص وتبخّرت الفرص لم أعدْ أشعر بالأمان، وأضحى مستقبلي بلا ملامح، فبدأتُ أفتّشُ عن طريقة لمغادرة القطاع. باعتْ أمّي مجوهراتها لتمكنّي من الحصول على تأشيرة سفرٍ إلى تركيا، لكن الأموال لم تفِ باحتياجاتي الأخرى. أعملُ الآن في مخبزٍ لأربع عشرة ساعة يوميًا كي أتمكّن من السفر، على أن أسعى لاحقًا للوصول إلى أوروبا.

لا أستطيع انتظار دوري في كشوفات الراغبين بالسفر عبر معبر رفح، إنها المرة الثالثة التي أحاول فيها الوصول إلى مطار القاهرة. سأدفع ألفًا ومئتي دولار "كتنسيقٍ" لأضمن النَفاذ من الحدود، لن أحتمل أن أعلَق هنا مرة أخرى إذا أُعيدَ إغلاق المعبر، لا نعلم ماذا ينتظرنا. سأدوّن الآن البند الأهمّ في قائمة المصاريف: "ألفيّ يورو للمهرّب في اسطنبول".

ماذا سيحِلّ بأمّي بعد سفري؟ هل قسوتُ عليها ولم أرَ إلا نفسي؟ هي التي انتظرت سنوات طوال كي تراني يافعًا قويًا؛ أشدّ أزرها عندما تكبر، وإذ بها تلْتفتُ حولها في البيت فلا تراني، فتغدو كأنغام التي باع زوجها المنزل وغادر عبر الأنفاق بحثًا عن عمل، ثم انقطعت أخباره، فباتت وحيدة مع ابنتها بلا زوج ولا مال! لا زالت كلمات الرجل الذي هاجر أبناؤه من القطاع ترِن في رأسي: "أشعر بالقهر. أنا كبير في السنّ وأحتاج أولادي إلى جانبي. أصبحتُ كمَن طارت عصافيره خارجًا. أتواصل معهم يوميًا، لكنّي أتجرّع الألم كل يوم لأنّهم ليسوا معي. هناك جرح في قلبي بسبب هذه الهجرة". ماذا لو قالت أمّي لي يومًا أنّي كسرت قلبها بتركها وحيدة؟ هل سأضع جانبًا كلّ ما بذلته من عرق ومال وأعود لأعيش معها في غزة؟

ثمة جرح في قلبي بسبب هذه الهجرة. ماذا لو قالت أمّي لي يومًا أنّي كسرت قلبها بتركها وحيدة؟ هل سأضع جانبًا كلّ ما بذلته من عرق ومال وأعود لأعيش معها في غزة؟

ها أنا ذا أجلس مطمئنًا في الطائرة. مضى على إقلاعنا بعض الوقت، وتوقّف الركّاب عن الكلام. صمتٌ كثيف يلتفّ حولي على الرغم من دويّ المحركات، ألتفتُ نحو النافذة، فأرى البحر المتوسط خلف سُحب ناصعة يتلألأ في شمس الشتاء الوادعة.. أيّ لوحة وضّاءة هذه التي تُخفي تحتها عويلًا وجثثًا مزرقّة ومتفسّخة؟ هنا غرق عشرات الغزّيين بينهم عائلات بأكملها وفُقد مئة آخرين؛ في هجرة غير شرعية نحو إيطاليا، عندما قام مهربون بإغراق القارب الذي كانوا على متنه بعد أن أبحَر بهم من مصر في ذلك اليوم من سنة 2014.. ما الذي رآه واحِدهم قبل أن يلفُظ أنفاسه الأخيرة؟ ضحكات ذويه الذين تركهم في غزة ولن يروه مرة أخرى؟ أم بلد المهجر التي سيعيش فيها حياة كريمة ولن يصلها أبدًا؟ وما آخر ما أحسّ به؟ غصّة حظ عاثر أثقل من ماء البحر أم سخرية من الذات بحجم الكون؟ لن أسمح لنفسي أن ألقى هذا المصير، سأسلك الطريق برًا من تركيا إلى اليونان ولن أعبر البحر مهما كان الثمن.

قبل لقائي بالمهرّب في اسطنبول، جمعتْني الصدفة بشاب من غزة وقع مرتين "ضحية المهربين" كما قال. كان محبطًا من الهجرة غير النظامية، ويخاطبني في المقهى وهو يدخن دون أن ينظر إليّ: "المهرّبون كاذبون، لا يُهمّهم سوى المال، فيما يريد بعضهم الآخر النجاح لجذْب شبان آخرين. حاولتُ مرتين الوصول إلى أوروبا من اليونان: في المرة الأولى هربتُ وعدتُ إلى تركيا بعد أن انكشف أمري، وفي المرة الثانية ضُربت وسُجنت لأسبوع قبل أن تعيدني الشرطة اليونانية، ولم أصلْ إلى أيّ مكان كما ترى". لا أريدُ أن أصدّق أن كلّهم لصوص. كنتُ قد سمعتُ قصة أخرى لمهاجر وعَده أحدهم بإيصاله إلى السويد مقابل عشرة آلاف دولار، لم يكن المبلغ بحوزة الرجل فباع بيته في غزة للحصول عليه! وما أن استلم المهرّب المال لم يتمكّن صاحبنا من الوصول إليه أبدًا! فهل أعتبِر؟

أيُّ عار سيلفّني أمام أصدقائي إذا فشلتْ خطتي؟ وكيف سأنظر حينها إلى وجه أمي؟

حدث أيضًا أن فشلتْ خطة شاب آخر في التهريب أثناء وجوده في تركيا، فأصبح عاجزًا عن تأمين مصروفه اليوميّ وتذكرة الطائرة، إلى أن أرسل والده المال كي يعود إلى غزة، وعاد بخفيّ حُنين. أيّ عار سيلفّني أمام أصدقائي إذا فشلتْ خطتي؟ وكيف سأنظر حينها إلى وجه أمي؟ لكن لماذا أنا متشائم إلى هذا الحدّ؟ لماذا لا ألقَ مصير ذلك الشاب الذي هاجر من غزة وإذ بالحظّ يبتسم له في عالم التصوير وينجح فيه نجاحًا منقطع النظير؟

كان سمير وهو غزاويّ يعيش في اسطنبول يرفض أن ينْعَته الآخرون "مهرِّبًا" ملقِّبًا نفسه: "دلّالَ هجرة". التقيتُ به في الظهيرة بعد أن جبْتُ جنبات المدينة متنقلًا بين جوامعها وأسواقها المزدحمة. كنتُ قد لمستُ في وجه الرجل ونبرة صوته ما يطمئنُ شابًا مُتشككًا مثلي. بعد أن تحدثنا كثيرًا قال بأسلوب حاسم: "كُلفة الهجرة تتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف يورو. معظم الشبان يودّون الوصول إلى بلجيكا لأنها تعامل الفلسطينيّ بشكل جيّد. نحاول إيجاد وسائل آمنة لاجتياز الحدود اليونانية وصولًا إلى سالونيك أو أثينا، وهناك يمكن الوصول إلى أيّ بلد أوروبي". لم أدرِ وقتها كيف أيّدت كلام الرجل ورتّبتُ معه التفاصيل الأخيرة للرحلة: استلام المال وتوقيت ومكان التجمّع وما يمكنني ولا يمكنني حمْله.. خططتُ لكلّ شيء بثقة مريبة، وعزمتُ على مَقْصدي، مُلقيًا بمخاوفي ورائي أترقّبُ اللحظة التي كان لا بدّ لها أن تحين.

يتمّ تهريب المهاجرين من تركيا إلى اليونان إمّا بحرًا بقوارب متهالكة أو برًا من خلال الغابات. اخترتُ أنا الوِجهة الثانية. تجمّعنا بالقرب من مدينة أدرنة الحدودية حيث التقى بنا رجل غريب يبدو أنه تركي. كنا تسعة مهاجرين قادمين من سوريا وأفغانستان وغيرهما. اقتادنا الرجل عبر طريق وعرة في غابة لأكثر من ساعة؛ مررْنا خلالها بجدار حدوديّ يفصل البلدين عن بعضهما البعض، فتساءلتُ: "كيف سنعبر الحدود إذا استمرّ الجدار بملازمتنا؟" لكنه فجأة اختفى، فقدّرت أننا وصلنا نقطة العبور، وبعد قليل تناهى إلى مسامعي صوتًا كان يعلو كلما تابعنا المسير، لكني استهجنتُ أن أسمعه هناك؛ كان خريرُ الماء! وإذ بنقطة العبور التي بذلتُ في سبيلها كلّ ما استطعتُ جمعه من مال لم تكن يابسةً وإنما نهرًا!

قال الرجل الغريب: "اقطعوا النهر بهذا القارب وستصلون اليونان على الضفّة الأخرى خلال دقائق"! فانبريتُ له بنبرة غاضبة: "مستحيل! لم أدفع آلاف الدولارات كي ترسلني في النهاية إلى الجحيم!" لكنّه أشهر سلاحًا في وجهي وهدّدني لأصعدَ المركب مع الصاعدين، فصعدتُ مغلوبًا على أمري. ساد الوُجوم على وجوهنا، لكن لم يكن أمامنا خيار آخر، وما إن وصلنا وسط النهر حتى بدأنا بفقدان السيطرة على القارب؛ إذ أخذتْ تيارات مائية تجرفنا في طريقها، وكانت تزداد قوة كلّما سحبتنا معها أكثر، فأخذ المجذّفون يصيحون على بعضهم البعض في محاولة بائسة لتوجيه المركب، وصرخ آخرون: "أخرِجونا.. لا نريد أن نموت"، ثم تدفّق الماء إلى أرضية القارب، فشعرتُ أنّي احتُجزت في كابوس لا يمكنّي الفِكاك منه، وبعد لحظات فقدْنا توازننا جميعًا دفعة واحدة، وتبدّدت نُتَف الضوء التي رافقتْنا على السطح آخذةً معها اللهاث والصراخ، إلى أن تلاشتْ في ظُلمة وسكون ثقيلين.

توقّف الزمن بانقلاب القارب. وعلى الرغم من فقداني السيطرة على جسدي وشعوري أنّي أصبحت خارجه، استمرّ صوت في ربطي بالعالم الذي أعرفه، ثم ظهر مذيع بَليد يعلن أخبارًا على طريقة الروبوتات: "شهِد عام 2019 حوادث لموت مهاجرين من قطاع غزة.. لقيَ شابان غزّيان مصرعهما في محاولة للهجرة من الجزائر.. انتحر فلسطينيّ في معسكر للجوء في جزيرة ليروس.. هذا وأفادت الشرطة التركية بأن جميع من فُقِدوا على القارب كانوا من مدينة غزة.. توفّي محمد أبو شملة عندما سقط من الطبقة الرابعة هربًا من الشرطة في اسطنبول.."، كما وجدتُني أرفْرف بذراعيّ فوق ساحل كئيب في جزيرة ساموس؛ وأحدّقُ في جُثث محمد البحيصي ومحمود عوض الله وعبد الله المصري باحثًا بينها عن نفسي، إلى أن سمعتُ صفيرًا خافتًا آتٍ من بعيد، أخذ يلعو شيئًا فشيئًا حتى ظننتُ أنه سيفجر أذنيّ، وإذ بي أشهَق وأزفُر على سطح الماء دون توقف، وأجذّفُ بذراعيّ بقوة وحشية، زادها إصرارًا ظهور ثلاثة من رفاقي يسبحون حولي في نفس الاتجاه ويصيحون: "هيّا، سوف نصل".

لم أصدّق أني نجوتُ إلا حينما رأيتُ بوضوح صفًّا من الأشجار على الضفة الأخرى، وعندما وطأتْ قدمايَ الأرض انفجرت بالبكاء، فأخذ الشبان ينظرون إليّ دون أن يتكلموا، وبدا أنهم أرادوا أن يبكوا لكنهم عجزوا عن ذلك، وما إن وصلنا حتى ألقينا بأجسادنا على اليابسة وكأنّ دهرًا كان يجثُم فوقها. التقطنا أنفاسنا وجلسنا ننظر معًا نحو النهر، بينما واصلتْ ضفادعٌ نقيقها على وقْع جسمين طافيين كانا يبتعدان مع التيار إلى أن اختفيا في العدم.

بعد أن أمضينا الليل على الجانب الآخر لنهر إيفْروس، كان علينا أن نشدّ الرحال بحذر إلى مدينة أليكسندروبوليس، إذ لم يكن مقبولًا أن نقع في قبضة الشرطة اليونانية بعد ما جرى. كنتُ أمشي بعيونِ مفتوحة على وُسعها، وفي صدري وقْعٌ أقرب إلى خفقان قلب قاتل أكثر من أي شيء آخر، أستشعرُ من دَبيب خطايَ على العشب الخشن ذبذبات تدعوني لنهْش كل من يأمرني بالتوقّف، وأنصتُ لزقزقة عصفور رقيقة وهي تذيب رطوبة الصباح الهائلة.. أمشي حاضرًا في الزمان والمكان والشعور والذهن معًا، أمشي وأسأل: لماذا على "الحياة الكريمة" أن تساوي ما كابدتُه حتى الآن كي أصل إلى هنا؟ كيف للحياة الكريمة أن تعادل إزهاق الحياة نفسها؟ وكيف سأستعيدُ روحي التي أعرفها لأكمل بها حياتي التي لم تنتهِ بعد؟ وماذا عن الخطوة التالية؟ تزوير جواز سفر والإقلاع من مطار يوناني إلى ألمانيا وطلب اللجوء عند الوصول؟ وهل سيكون حصولي على اللجوء نهاية الحكاية أم بدايتها؟ كان ما تبقى لديّ من يقينٍ حينها يحثّني فقط على المسير؛ حيث يبقى الاحتمال الذي تضيء عينيّ لأجله قائمًا، ويصبح التراجع الجنون الوحيد غير المقبول في قصتي.

*الكاتب أيمن عويضة (aymanowida@gmail.com)