20-مايو-2019

صورة تعبيرية - gettyimages

كانت الساعة السادسة صباحًا حينما وصل محمود ومحمد إلى شواطئ أزمير القريبة من جزر اليونان بعد مشي مسافة لا تقل عن 30 كم، لم تكن الضريبة الأولى التي يدفعانها في غربتهما، فقبلها حاولا أن يكونا على قيد حياة كريمة، بعد خروجهما من تابوت الموت في قطاع غزة إلى حياة الرغد "ظنًا" في تركيا.

محمود عوض الله غرق أثناء لجوئه بحرًا إلى اليونان وبعد 17 يومًا خرج إلى الشاطئ وكان جسده متحللاً

لم يشأ الصديقان أخذ قسطٍ كبيرٍ من الراحة بعد تلك المسافة، فعزما أمرهما وركبا البحر لكن دون فُلكٍ تجري بهما في أمواجه، ركباه بجواز سفريهما فقط، كان البحر باردًا لكن كلاً منهما كان يشدُّ أزره بالآخر، بدءًا بالسباحة، فمحمود ذو الـ22 عامًا كان ماهرًا فيها منذ أن كان يهرب من جحيم الفقر بمنزلهما المكشوفة جدرانه غصبًا إلى بحر غزة قبل أن يغادرها.

اقرأ/ي أيضًا: سماسرة هجرة غير شرعية ينشطون مجددًا في غزة

قطع الصديقان مسافة لا يُستهان بها، ناطحا أمواج البحر وصارعا ضعف جسديهما، وبعد سباحة استمرت ساعتين، ابتعدا عن بعضهما مسافة لا تقل عن 500 مترًا، كان فيها محمد قد سبق محمود ذو الجسد النحيف، لكنه كان يحدثه بعينيْه أن "أسرع يا محمود إني أرى الجزيرة سنصل ياصديقي".

في تلك الأثناء كان محمود قد فقد كل قواه، لم يتبقّ بجسده رصيدًا من الطاقة، أصيب بشدّ في عضله وفجأة اختفى عن نظر محمد الذي لم يكن بقدرته العودة للبحث عنه وسط تخبّط الأمواج، استمر في السباحة مسرعًا حتى وصل إلى جزيرة عصمته من الموت، وسلّم نفسه لخفر السواحل اليونانية، مستغيثًا بهم: "أنقذوا صاحبي أرجوكم".

لم تُفلح مسيرة بحث بالطائرات والسفن التي استمرت لأيام في العثور على محمود، وبعد 17 يومًا خرج وحده إلى الشواطئ اليونانية، كان جسدًا متحللًا، لم يعرفه محمد إلا من قميصه وجواز سفره.

في تلك الأثناء كانت قلوب أهل محمود الساكنين محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة تتقطّع حيرة وهواجسًا، إلى أن تلّقوا يوم الإثنين بتاريخ 13 أيار/مايو الجاري اتصالًا من السفارة الفلسطينية في اليونان: "عظم الله أجركم في غريقكم محمود حسن عوض الله".

انتفض على خط الفقر

فاتن عوض الله (40 عاما) كانت قد رأت في منامها قبل ليلة "أن محمود واقف يبكي عليّ لأنه يريد أن يرحل" وفق ما روت لـ الترا فلسطين والبكاء حديثها: "قالوا لي ابنكِ معتقل لا تخافي، لكن قلبي كان يُكذبهم جميعًا، لقد رأيت في منامي أنهم جاءوا به لأتعرف عليه وكان منّفخٌ جسده ولم أعرفه إلا من أصبعه، ثم راحوا به".

أشد ما يحرق قلب الأم المكلومة أن ابنها حينما خرج هجرة من غزة قبل سبعة أشهر، كان يُريد أن يصل بأي طريقة إلى اليونان ليعمل ويُنفق على أسرته التي تعيش تحت خط الفقر.

"ابني كان يعيش في حالة نفسية صعبة، لا زاد ولا بيت زي الناس، حتى أن يكون له غرفة خاصة به، ما كان"

تقول أمه فاتن: "ترجاني بشكل جنوني أن أستدين له المال ليخرج من غزة، وجمعت من هنا وهناك وهو أيضًا استدان ودفع لمكتب مبلغ 3600 دولار، ابني كان يعيش في حالة نفسية صعبة، لا زاد ولا بيت زي الناس، حتى أن يكون له غرفة خاصة به، ما كان".

اقرأ/ي أيضًا: من غزة إلى بلجيكا.. مغامرة ينقصها الموت

أضافت، "بعدما دفع المبلغ جاءني في الليل وقال لي: أنا مسافر بكرا يا أمي، غسلت له غيارًا واحدًا لا يملك غيره من ملابسه الداخلية وبنطالاً وقميصًا، هي الوحيدة عنده".

سلّم عليها صباحًا ولم تحتضنه لأنها -كما قالت- لم تكن "تصدق أنه سيسافر، قلت له بيضحكوا عليك يا ابني، فقال ادعيلي وراح وما رجع".

طوال سبعة أشهر لم يزدد محمود في غربته لأجل لقمة عيشه إلا المزيد من الهم، كان دائمَا مكتئبًا، وجد بعد بياتٍ في العراء ثلاثة أيام شقة بها مجموعة من الشبان السوريين والفلسطينيين الهاربين من جحيم بلادهم  لتركيا، أقام معهم وبدأ بالبحث عن عمل ليدفع أجرة السكن.

قالت والدته: "أحد الشباب السوريين دلّه على معمل خياطة واشتغل فيه عاملاً وليس خياطًا. على فكرة ابني متعلم يابنتي معه شهادة من الكلية التقنية وهو من صرف على تعليمه منذ أن كان في الإعدادية، أبوه معه أزمة وعايشين على الشئون".

عادت لحديثها "كانت الماهيّة قليلة جدًا على قدر مصروفه بل أقل، في يوم من الأيام انكسّرت نظارتي، طلبت منه لكن والله غصب عني أن يرسل لي، فأرسل لي ثمنا بالتمام 35 دولار، بعدها بشهرين طلب مني 100 دولار، واكتشفت أنه يستدين من الشباب لكي يعيش هناك، دبّرتها وأرسلتها له".

صمتت ثم صاحت، "محمود الشاطر في السباحة يغرق! حينما كنا نذهب للبحر هنا كان يسبح ويبعد ولا أراه إلا كالنقطة وأصرخ عليه أن يخرج، فالبحر غدّار".

ودع صديقه ولحق به

كان الشاب الطموح الذي لا يتحمّل القنوط في بيته الفقير، يُخفي عن أهله الحالة السيئة التي وصل إليها في غربته، خاصة وأنه حاول الخروج من تركيا عبر السفن رسميًا وتهريبًا وفشل، وفي مرة من المرات سرقت المافيا ملابسه وبعض أمواله، فأصبح لا يملك إلا ما يرتدي وجواز سفره.

محمود عوض الله كان يُخفي عن أهله الحالة السيئة التي وصل إليها في غربته

أسراره تلك كان يشكوها لشقيقته سهى ذات الـتاسعة عشر من العمر، وهي أقرب إخوته له، قالت في حديثها لنا: "أخي كان مهمومًا هنا في غزة، كان يحاول أن يصرف على أمي وإخوتي وما يلاقي شغل، سافر إلى تركيا، وكنت أظنه مبسوط، لكنه كان دائمًا يقول لي أنا تعبان يا سهى ووضعي صعب".

أضافت بألم "كان يستسرني، يقول لي لا تحكي شيئًا عن وضعي أمام أمي، فقط قولي الحمد لله بخير".

قبل أشهر ودّع محمود، صديقه محمد أبو شملة، وهو شابٌ من غزة خرج من أجل لقمة عيشه فعاد إليها محمولاً على نعشه بعدما أصيب نتيجة سقوطه من الطابق الرابع في الفندق الذي كان يتواجد به في مدينة أزمير، أثناء هروبه من ملاحقة الشرطة التركية لمجموعة من الشبان الذي ينتظرون دورهم للهجرة إلى اليونان عبر البحر.

قالت أمه: "يوم أن أعلنوا وفاته اتصلتُ أطمئن عليه، فبكى قال لي: هذا صاحبي يا أمي، كان مقيم معي في الفندق وودعته قبل أيام".

أجهشت بكاءً: "محمود لحق بصاحبه، هرب من مرار العيشة بغزة، كنت أوصيه بالابتعاد عن طريق البنات وعن كل شيء يلهيه عن هدفه في تلك البلاد، ويقول لي: لا تخافي يا أمي أنا هنا أعمل فقط".

عاجزون عن استعادته ميتًا

حلم شهيد لقمة العيش ذاب غرقًا، أما أهله فأصبحوا ينشدون الجهات المسؤولة أن تساعدهم في إحضار جثة ابنها إلى غزة، كي توّدعه "وتشتري له قبرًا تزوره فيه كل حين والثاني".

المشرحة في اليونان أحذت عيناتٍ من تحليل الـDNA ليتم إضافتها لسجل الجثة، لكن والده قال مختصرًا: "خلص راح محمود، لكن نأمل أن يستجيب الرئيس ويُحضر ابني لغزة، أنا لا أملك شيئًا ووضعي لا يعلمه إلا الله".


اقرأ/ي أيضًا: 

مغتربات في غزة.. لا شفاء من البعد

غزة: زوجات مغتربين بين تضييق الأهل ونار الشوق

بيتين.. المغتربون