علينا أن نفهم: نحن الآن في خضمّ مرحلة من الرّدة في العمل السياسي. يتبدّى هذا بشكل واضح مع توجه المؤسسة الإسرائيلية نحو القمع الفاشي دون اضطرارها هذه المرة لارتداء قناع "عملية السلام" أو مكياج "الديمقراطية". ومع احتدام الثورة المضادة في البلدان العربية وقمعها باستخدام كافة أساليب البطش والقمع الوحشي لوقف، بل معاقبة، مطالب الجماهير بالحرية والعدالة، ومع استفحال اليأس وبلوغ الضياع حدًا يجعل بعضنا يدافع عن الإجرام السلطوي أو الساديّة باسم الدين أو الطائفة باعتبارهما طريقا إلى الخلاص، ووصولاً إلى انزلاق مجتمعات الدول الإمبريالية باتجاه كراهية البشر والتطرف الشوفيني.
لقد أثبت التاريخ أن المحرّك الرئيسي لتطور البشرية بشكلٍ عام، ولنمو الفعل الجماهيري الثوري نحو إسقاط المؤسسات القمعية القديمة وإنشاء قاعدة جديدة لتطور المجتمعات، هو الأمل والإيمان بقدرتنا على بناء مستقبل أفضل. فالعمل السياسي يخضع لقوانين التطور البشري، وهذا التطور، بدوره، يعتريه المدّ والجزر، الفعل وردّ الفعل. وبناءً عليه، فمن الطبيعي في مرحلة الردة، أن يتركز نضالنا على الدفاع والتكاتف والتضامن في وجه العدو الذي يحاول أن يستغل اختلال موازين القوى ليغيِّر قوانين اللعبة لصالحه.
يرى حكام إسرائيل العنصريون أن العرب يشكلون خطرًا وجوديًا على مشروعهم الاستعماري بناءً على بقاء العرب على هذه الأرض
كان من المتوقع أن نكون أكثر صلابة في معارك الدفاع عن النفس. فهذه المعارك لا تطلب منا إبداعًا وطرح أفكار أو مفاهيم جديدةٍ يمكن أن نختلف عليها أو نخطئ في صياغتها، فنحن في هذه الحالة، ندافع عن وجودنا وعن حقوقنا التي اكتسبناها خلال عقود من النضال. بناء عليه، فإنني أرى أهمّية لمراجعة بعض التجارب الأخيرة خصوصا تلك التي تمحورت حول قضية اعتقال الدكتور باسل غطاس.
الحقيقة والتحقيقات
يرى حكام إسرائيل العنصريين (وأنا هنا أعني القيادة الإسرائيلية تاريخيًا، منذ نشوئها وحتى اليوم، وبما يشمل الـ"معارضين" و"حماة الديمقراطية الإسرائيلية" أيضًا) بأن العرب يشكلون خطرًا وجوديًا على مشروعهم الاستعماري الاقتلاعي بناءً على بقاء العرب على هذه الأرض. ونحن نشهد الآن، كما شهدنا سابقا، كيف افتعلت القيادات السياسية وتفتعل التحريض ضد العرب، وكيف تلاحق "أجهزة الأمن" المواطنين العرب، فيما يتعامل الجهاز القضائي مع العرب مدفوعًا بالعدوانيّة ورغبات الانتقام. ولذلك فمن المستحيل أن نتعامل مع أي تحقيق تمارسه هذه الأجهزة باعتباره محاولة للبحث عن الحقيقة. كما أنه من المستحيل أن نتعامل مع قرارات هذه الدوائر القضائية الحاقدة بأنها تجسيد للعدالة.
اقرأ/ي أيضًا: غطاس في قفص الاتهام.. ملاحقة سياسية
يبدو لي مستهجنًا، أولًا، قول البعض بأنهم "ينتظرون انتهاء التحقيق". بيد أن الأسوأ من أولئك هم من يحاكمون المتهم قبل أن يصدر جهاز القمع والتلفيق حكمه بحقّه. إنّ هذا يعدّ ظلمًا، حتى بحسب قوانين الاحتلال العنصرية.
لدى الاطلاع على الكثير مما نُشر في الصحف العربية والعبرية حول قضية اعتقال الدكتور باسل غطاس، وبعد قيامنا بزيارته ليلة الافراج عنه. فهمت منه بأن القضية شديدة البساطة. أنا لا استطيع أن أقول بأن ما سمعته حقيقة مثبتة، ولكن، كما فهمت، فقد قام الدكتور باسل باستلام مغلّفاتٍ احتوت على بعض الكتب أو الرسائل وقام بتسليمها للأسيرين اللذين التقى بهما. وفيما بعد، ادّعت السلطات بأنها عثرت على هواتف نقالة داخل هذه المغلّفات.
بناء عليه، فإن من يدعي بأن الدكتور باسل قد تصرّف بشكلٍ غير مسؤولٍ أو خطير، إلى جانب أولئك الذين يدّعون بأنّه قد قام بعملٍ بطولي، فإن هؤلاء، معًا، يصدّقون رواية الأجهزة الأمنية ويرددونها. إن هذا التصرف هو تصرّفٌ غير مسؤولٍ، وخطير، ولا مبرر له وطنيًا. إلى جانب ذلك، فلا يوجد تفسير لادعاء البعض بأنه كان على الدكتور باسل أن يفحص المغلّفات أو يشكك في محتوياتها، لأن أصحاب هذا الادعاء يتبنّون، ولو ضمنيًا، النظرة الاسرائيلية العنصرية التي ترى في كل عربي خطرًا. وإن كان هنالك من يستبعد إمكانية تلفيق التهم وتزوير الأدلة من قبل المخابرات الاسرائيلية فإن علينا أن نوجه له سؤالاً إن كان قد سمع في السابق عن عمليات قتل الأطفال واغتيال القيادات والناشطين؟ فهل من المستهجن أن يرتكب نفس الجهاز أساليبا أخرى لتنفيذ "الاغتيالات السياسية"، بحق حزب وطني فلسطيني سبق وأن أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بأنه لا يرغب في بقائه في الكنيست؟
أما إن انتهى التحقيق و"ثبتت" التهم في المحاكم الاسرائيلية فإن هذا لا يعني شيئًا بالطبع. فنحن نعلم، من تجارب طويلةٍ أمام المحاكم بأن أجهزة القمع الاسرائيلية متخصصةٌ في انتزاع الاعترافات الكاذبة. كما فعلت محاكم التفتيش في القرون الوسطى التي عرف عنها بأنها كانت تربط حجرًا بعنق المشتبه به وترميه في البحر. فإذا غرق فإن الأمر يعني إثباتا لبراءته، أما إذا طفا، بقدرة قادر، فإن الأمر يعني أنه مدعوم من الشيطان، وبذا فيتوجّب قتله حرقا.
اقرأ/ي أيضًا: حرب إسرائيل على التجمع.. إلى أين؟
هنالك حقيقةٌ أخرى قرأناها في الصحف وسمعناها من الدكتور باسل، هي أن أحد أسباب تمديد اعتقاله كان رفضه إخبار المحققين باسم الشخص الذي قام بتسليمه المغلّفات. رغم أن معلومة كهذه تعدّ أمرًا لا يصعب على السلطات الحصول عليه. إن عمل د. باسل، في هذا الجانب يعدّ عملاً أخلاقيًا، بل وبطوليًا فعلاً.
الشرطة في خدمة الشعب
سمعنا الكثير حول السياسات الجديدة لحكومة إسرائيل التي وضعت نصب عينيها تدليل "عرب الداخل"، فقد خصصت لذلك ميزانياتٍ هائلة. وها نحن نرى كيف تم إهمال سكان مستوطنة "عامونة" الذين كانوا ينتظرون إخلاءهم قبل انقضاء العام وتعويضهم بملايين الشواكل، وبناء مستوطنة أخرى أكبر لهم. كلّ هذا لم يتحقق في نهاية الأمر. بل علمنا بأن نتانياهو قد أصدر أمره للبولدوزرات بالتوجه إلى القرى العربية والمدن المختلطة في النقب والسهل والمثلث والجليل لهدم بيوت العرب. لا تستغربوا، ولا تستهينوا بتكلفة يوم عمل لجرّافات الـD9، بل وزيدوا، فوق ذلك، تكاليف نشر المئات من بلطجية الوحدات الخاصة، ولا تقولوا أن الحكومة تتصرف ببخل مع العرب.
نقطةٌ أخرى تشير إلى هذا الكرم الفائض: أثناء زيارتنا للدكتور باسل علمنا بأن استفادة العرب على حساب مستوطني "عمونة" لم تقتصر على البولدوزرات وقوات الياسام الخاصّة. فقد جهّزت سلطة السجون قسمًا خاص ومرتّبا في السجن لاستقبال معتقلي "عامونة" في حالة مقاومتهم الإخلاء، وقد دشنت هذا القسم باعتقال د. باسل فيه. وقد أطرى الدكتور على جودة البطّانيات الجديدة النظيفة الناعمة في هذا القسم، بعكس البطانيات الخشنة الوسخة في باقي السجون. خذوا هذا وتخيّلوا الآن: كيف سيجنّ جنون المستوطنين قهرًا إن علموا بأن كل هذا النعيم الذي حضّرته لهم حكومتهم قد صار مصيره، في نهاية المطاف، أنّ سجينا عربيّا قد استفاد منه!
الهواتف والعالم الشفاف
مع اعتقال الدكتور باسل كتبت مقالاً باللغتين العبرية والإنجليزية يوضح بأن تهريب الهواتف للأسرى هو مساعدةٌ إنسانيةٌ وليس خطرًا أمنيًا (فمن الواضح بأن جميع محادثات الهواتف في كل البلاد، إلى جانب تحليل مضامين المحادثات الجارية عليها، وتحديد موقع طرفي المحادثة بدقّة هو أمر تتم ممارسته الآن وهنا). تحت هذه الظروف، وتحت علم المعتقلين الأمنيين بالأمر، فإن دور الهاتف ينحصر في مقاومة الظروف اللاإنسانية للأسر، لا غير، وذلك من خلال توفير مجال للأسير للإتصال بأحبّائه. ولكن الأسرى أيضًا يعلمون أنهم يدفعون مقابل ذلك ثمنًا معروفًا ومبررًا (رغم كونه غير مقبول)، هو أن هذه الهواتف تساعد السلطات أيضًا على تكثيف عملها الرقابي.
تهريب الهواتف للأسرى هو مساعدةٌ إنسانيةٌ وليس خطرًا أمنيًا، من خلال توفير مجال للأسير للاتصال بأحبّائه
من الواضح أن السلطات تعرف بحقيقة وجود الهواتف في السجون، ولكن من الواضح أيضًا أنها معنيةٌ بأن يتم تهريبها وتمنع إدخالها بطرق رسمية، وذلك بهدف تحميل الأسرى وعائلاتهم تكاليف إضافية. وفوق ذلك كلّه، استخدام مسألة تهريب الهواتف واستعمالها "غير القانوني" كذريعةٍ للملاحقة والعقاب متى شاءت.
محاولة فهم عزمي بشارة
جانبٌ آخر من قضية اعتقال د باسل غطاس، كان الادعاء بأن المقالات التي استلمها منه الأسير وليد دقة كانت تحتوي على تعليمات مشفرة. وبعد الاستفسار حول الموضوع علمنا أنها مقالاتٌ للدكتور عزمي بشارة. لقد اتضح بأن رجال الشرطة قد حاولوا قراءة هذه المقالات، ولكنهم، بالطبع، لم يفهموا شيئاً منها. ومن هناك نبع اعتقادهم بأن هذه المقالات مشفرة. وها هو الأسير وليد دقّة يقبع في ظروف العزل والعقاب إلى أن يتمكن أحد من عباقرة جهاز الشرطة من تحليل المضامين "الخفيّة" في هذه المقالات.
اقرأ/ي أيضًا: