21-سبتمبر-2019

مراجعة تاريخ المشرق والمغرب العربي عبر القرن الماضي، خصوصًا تاريخ ثوراته، يُبرِزُ بشكلٍ جليٍّ تواصل الثورات والثوار في مجمل البلدان العربية بالحد الأدنى، وسعيهم للاستفادة من التجارب الثورية المختلفة، وسيجد الباحث حضورًا لأهل فلسطين وبعض أبناء نخبتها في معظم الثورات العربية، وحضورًا للكثير من قادة وكوادر هذه الثورات في فلسطين.

وبالإضافة للحضور العملياتي المباشر لأهل فلسطين في مقاومة البلدان العربية المختلفة للمستعمر الأجنبي -وهو حضورٌ لم يُدرس ولم يُؤرَّخ بعد- استحضر قادة وشهداء الثورات العربية، واستحضرت التجارب الثورية من أجل تحريض أهل فلسطين على المستعمر الأجنبي، فـ"الاستعمار واحد".

خلال شهري أيلول وتشرين الأول من العام 1931 ضجت فلسطين لاستشهاد "البطل المغوار والأسد الكرار عمر المختار" بعد إعدامه على يد الطليان

خلال شهري أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر من العام 1931، ضجت فلسطين لاستشهاد "البطل المغوار والأسد الكرار عمر المختار" بعد إعدامه على يد الطليان. استكمالاً لسلسلة المقالات المدونة هنا عن أكرم زعيتر ونصوصه في التحريض على الثورة، يستحضر هذا النص احتفاء أكرم زعيتر بالشهيد المختار كنموذجٍ من الاحتفاء بالقادة الشهداء لتعزيز التوجه الثوري في فلسطين، كخطوةٍ تُمهدُ من ضمن خطواتٍ لإطلاق ثورة البنادق على المستعمر البريطاني بعد حين.

اقرأ/ي أيضًا: أكرم زعيتر.. بواكير قيامة البنادق

يوم السبت 19 أيلول/ سبتمبر 1931 كتب أكرم زعيتر في يومياته، "أذيع اليوم نبأ إعدام الطليان البطل المغوار والأسد الكرار عمر المختار. هذا الثائر الطرابلسي العظيم هو بقية السيوف من شوس طرابلس، وبرقة، الذين أبلوا في قراع الطليان أعظم البلاء".

لم تكن معرفة زعيتر بالمختار عابرة كما تبرز يومياته، إذ يوثق اهتمامه بمتابعة أخبار جهاده التي كان يشيعها فلسطينيٌ آخر سكن مصر وأسس فيها صحيفة عبرت بأخبارها وصفحاتها أقطار العالم الإسلامي المختلفة، يقول زعيتر: "كنا نتتبع أخباره بلهفة. كنا نقرأ رسائله للسيد محمد علي الطاهر في الشورى بإكبار".

كان أول احتفاء زعيتر بالشهيد المختار في افتتاحية الجامعة العربية يوم الاثنين 21 أيلول/ سبتمبر 1931، وجاءت تحت عنوان "استشهاد البطل عمر المختار، إيطاليا تقتل أسيرها رميًا بالرصاص، فليأخذ العرب والمسلمون بثأره". بدأ زعيتر في مقالته بنعي الشهيد "البطل المقاتل والشجاع الحلاحل، خواض المعامع، غشّاء المعارك، الشهيد الخالد عمر المختار"،الذي صدق ما عاهد الله عليه، داعيًا أول الأمر إلى أيقنة الشهيد المختار "فإذا أردت أيها العربي، بل أيها المسلم، الهمام الماجد الأبي، وفتشت عن الشريف الحمي الوفي، فأذكر عمر المختار، فهو مفخرة الأجيال ونادرة الرجال". "عمر المختار رجل في الثمانين، أوفى على المجد وأتى على الفخار، قارع الدهر مستخفًا برشوات الحياة مستهينًا بمناعم العيش، لا يهزه رهب ولا يرعبه هول، ثم باع روحه وأعار الله جمجمته بعد أن استشهد في المعركة أولاده، فما وهن لما أصابه وما استكان، رضي الله عنه وبرده ثراه، وأكرم مثواه". وأضاف زعيتر "لقد كان عمر المختار المثل الأعلى في البطولة، فخلدوه، والرمز الأسمى للتضحية فأذكروه، وقد استمات فقتل، واستشهد من قبله بنوه فلا تجحدوه".

لم تكن معرفة زعيتر بالمختار عابرة كما تبرز يومياته

أيقنة الشهيد المختار لم تكن دعوة لزعيتر فقط، وإنما ستتردد على غير لسان في فلسطين، من ذلك ما كتبه محمد اسعاف النشاشيبي، "فلتشهد السماوات والأرض على أعمال الظالمين وليظل اسم عمر المختار مثلاً أعلى للبطولة العربية والإسلامية أبد الدهر". وسيكون أول تجلياتها العملية إطلاق تسمية أحد شوارع مدينة غزة الرئيسية بشارع عمر المختار، الذي احتفت بلدية غزة بتدشينه في تشرين الأول/أكتوبر 1931.

اقرأ/ي أيضًا: أكرم زعيتر.. عن جيش الدفاع

وفي الذكرى السنوية الثانية للشهيد المختار، كتب أحد أبرز كتاب مجلة "العرب" أحد المنابر المنافحة للمستعمر البريطاني، والدعوة للثورة عليه، "عمر المختار جاور ربه بعد أن قام بالواجب. فنذكر الأمة العربية بثلاثة أشياء أولاً: أن تقص كل أم قصة هذا المجاهد على ولدها أو أولادها. ثانيًا: أن تعلم الأم ولدها أو أولادها أن الاستعمار واحد. ثالثًا: أن تعلم الأم ولدها أو أولادها مقاطعة الأجانب. سيأتي يوم يثأر فيه لعمر المختار".

الدعوة الثانية التي أطلقها زعيتر في مقالته الافتتاحية كانت للتضامن الإسلامي، تضامن المقهورين ضد القوى الاستعمارية، كتب زعيتر:

"تتوالى على المسلمين النكبات وتترى المصائب، فهم كل يوم أمام مظلمة تثور لها النفوس الأبية، وعرضة لخسف لا يقيم عليه الأذلان، وكأن جد الإسلام لا يفارقه العثار، وها هم اليوم يصابون بالعزيز عليهم، ويرزأون بالكريم لديهم، وأساس كل هذه النكبات والمصائب استخفاف في المستعمر القوي بالمسلمين استخفافًا عظيمًا يرجع إلى ضعفهم وتخاذلهم [.....] أيها المسلمون، إن القوى مجمعة على محاربتكم والاستهانة بكم، والأخطار محدقة بكم من كل جانب، فكونوا أقوياء، وتعاونوا على رفع الحيف، وادفعوا بتضامنكم الجور".

ختم زعيتر، بقول عمر المختار "إذا أنا مت فالثورة على الباطل ستستمر بعدي.. يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون". وفي ظلال دم الشهيد عُقِدَ مؤتمرٌ لأهل فلسطين بدعوةٍ من اللجنة التنفيذية العربية يوم 20 أيلول/سبتمبر 1931 للنظر في شأن القضية الفلسطينية.

كتب زعيتر بعد تدوينه لمقررات المؤتمر الذي احتفى بشهادة المختار، "لقد ظللت في أثناء المناقشات صامتًا، وإن أيدت ما ارتأيت تأييده من مقررات، وصرت أعتقد أن هذه المؤتمرات، وإن هي أذكت الروح الوطنية، لا يمكن أن تنقذ البلاد. فلا بد من فئة مؤمنة بمبادئها، تتولى هي الدعوة إلى عصيان الحكومة وتحطيم قوانينها، وتضرب من نفسها مثلاً في التضحية".

هذه الخاتمة ليومية زعيتر ستكون تمهيدًا لحزب الاستقلال العربي، الذي جاء متأثرًا بتجارب عربية سابقة، كمحاولة على طريق الثورة، الطريق الذي سيعبد بدم أيقونة ثورة فلسطين "القسام" في يعبد بعد حين.


اقرأ/ي أيضًا: 

أكرم زعيتر: السجن وقهر من بقي

عن محارب وسط رام الله

ثورة يافا.. أول كفاحنا المسلح