قول

عندما يصبح البحث عن الطعام رحلة موت في غزة!

24 مايو 2025
عندما يصبح البحث عن الطعام رحلة موت في غزة
عندما يصبح البحث عن الطعام رحلة موت في غزة
محمد نشبت
محمد نشبتكاتب صحفي من فلسطين

لم تعد الكلمات كافية لوصف المشهد. فكيف للغة أن تحتمل ثقل الجوع، أو ترسم ملامح طفلٍ ينام على صوت قرقرة بطنه، وأمٍّ تبيع حليّها لقاء رغيفٍ يُبقي أطفالها أحياء؟ في غزة، لم يعد الجوع مجرد شعور، بل صار راويًا صامتًا لحكاية لا تحتاج إلى كلمات، بل إلى ضمير عالمي غائب.

في رحلة بحث محفوفة بالموت عن كيس طحين أو علبة طعام في غزة، يفقد أطفالٌ عيونهم، وتفقد أمّهات أبناءهن، ويدفن القصف عائلات بات أطفالها جوعى، يحلمون بالرّغيف 

في زوايا المخيمات، حيث يُقاس الصبر بأيام بلا طعام، ويتحوّل الأمل إلى سلعة في سوق المقايضة، تصبح الحياة مسرحية مأساوية. الأطفال يلعبون بأحلامهم لينسوا ألمهم، والكهول يتساءلون: "هل سنموت تحت القصف أم من شدة الجوع؟". الأسواق خاوية إلا من الفقر، والمستشفيات مكتظة بضحايا لم تقتلهم القذائف، بل أودت بهم المجاعة البطيئة.

غزّة، التي كانت تُلقَّب يومًا بـ"قطعة من الجنة"، تحوّلت إلى جحيم مفتوح. لم يعد الجوع مجرد نقص في الغذاء، بل صار سلاحًا يُستخدم بدمٍ بارد، ليُكمل ما بدأته الحرب. أما العالم، فيكتفي بالمشاهدة كأنها مشهد سينمائي، ثم يُغلق الشاشة عند النهاية.

لكنّ الغزيين لا يملكون زر الإيقاف. فهم يعيشون هذا الفيلم كلّ يوم، بلا مؤثرات صوتية، ولا مخرج، ولا نهاية سعيدة. فقط الجوع، والخوف، وانتظار معجزةٍ قد لا تأتي.

على أرصفة المدينة التي مزّقها القصف، لم يعد الركام مجرد شاهد على الدمار، بل صار أرشيفًا يخبئ بين حطامه أشلاء حياة وبقايا طعام. هنا، لا يُنقّب تحت الأنقاض لانتشال الضحايا فحسب، بل لانتشال لقمة تسكت صرخة الجوع.

في رفح، حيث الماضي القريب لا يزال نابضًا في الذاكرة، والحاضر يقتل ببطء، يخرج الرجال والنساء والأطفال في رحلات محفوفة بالموت. ليس خوفًا من قصفٍ قد ينهال فجأة، ولا من دبابات قد تقتحم الشوارع، بل سعيًا وراء كيس طحين نجا من القنابل، أو علبة طعام لم تسحقها الجرافات.

من يعود منهم، يحمل "غنيمته" كأنما انتصر في معركة وجود. أما من لا يعود، فيُضاف إلى القائمة الطويلة: شهيد في خربة العدس، وآخر في الشابورة، وثالث في الحي السعودي قرب المواصي. يتساءل الناس: من التالي؟ من سينقل خبر مقتله، بعد أن صار الموت أثناء البحث عن الطعام حدثًا اعتياديًا؟

ثمانية من كل عشرة وجوه في شوارع غزة، تمدّ يدها للخبز قبل أن تمدّها للسلام. الأرقام الرسمية تقول ما تعجز العيون الجائعة

الأيام تتوالى، والقتل يتكرر، والجوع لا يرحم. اكتسب الموت في غزة معنى جديدًا: لم يعد تحت القصف فقط، بل في الجوع، أو في السعي خلف لقمة العيش. هنا، حيث الحياة رهانٌ والطعام حلم، لم يعد الموت رعبًا مؤجلًا، بل احتمالًا يوميًا يُقبل عليه الناس؛ لأن الجوع أقسى من الرصاص.

في زاوية غرفة مكتظة في مستشفى ناصر، يجلس محمود، ابن السنوات التسع، بوجه شاحب وعينين فارغتين سرق منهما الانفجار النور. تهب نسمة خفيفة من النافذة، فيسأل أمه بصوته الطفولي: "يما، كيف الدنيا برّه؟ حلوة زي وجهك؟ بس يمّا، وجهي بطل حلو، حتى بطّلت أشوف! معقول يرجعولي عيوني؟ عشان أرجع أقولك الدنيا شو لونها؟".

تغرق الأم في صمتٍ ثقيل، ثم تبدأ بسرد حكاية تختصر مآسي آلاف العائلات في غزة: "قبل فترة كنّا نستلم مساعدات، لكن حين صارت العصابات تسرق الأكل، والمؤسسات لا تقدر أن تصلنا، ثم رجعنا ننقّب في بيوتنا المهدّمة. يومها طلع محمود وأبوه على الحي السعودي، بيتنا هناك كان أهون من باقي الخراب. لاقوا ثلاثة أكياس طحين. فرحوا! لكن وهمّ خارجين، سمعوا صوت انفجار صغير في الداخل. ظنّوه زنّانة، لكنّها كانت علبة لحمة من مخلفات الجيش، انفجرت بوجه ابني. ومن أول ما فتحها، صار الظلام بعينه. يا عالم، شو كمان مخبيلنا؟! راحت عيون ابني، وصار وجعو أكبر من وجع الجوع اللي ناخر بطونّا!".

اليوم، يحاول محمود أن يتعرّف على أمه بلمسة من يده، بينما تنهمر دموعها التي لا تروي ظمأ الجوع، ولا تشفي جرحًا حفرته الحرب بقسوة. ففي غزة، لم يعد الموت خيارًا بين القصف والجوع فقط، بل صار أيضًا مختبئًا في علبة طعام.

لم تكن مأساة محمود، الطفل الذي فقد عينيه، بعيدة عن حكاية شروق التي فقدت جيرانها. تحت القصف، تتشابه المآسي وتختلط وجوهها. كلها تدفع ثمن الجوع، تلك العملة التي لا يعرف قيمتها إلا من دفع الثمن بنظرِه أو بحياته.

في خيمة لا تقي من حرّ النهار ولا برد الليل في خان يونس، تروي شروق (32 عامًا) حكايتها بصوت أنهكته الذكريات: "يومها طلعنا من بدري، بطوننا صارت كالأرض المحروقة. واحنا ماشيين، كنا نحكي: يا ريت يرجع الزمن، يوم كان همّنا الوحيد شو نطبخ عالغدا!".

خرجت شروق وزوجها صباحًا ضمن مجموعة إلى حيّهم المدمّر في تل السلطان برفح. تروي: "كنا نتسلّل مثل الظلال. السما مليانة زنّانات (طائرات مسيّرة)، والجيش بدوّر (يبحث) زي الذئاب الجوعانة. لقينا شوية أغراض وقلنا: ربنا رحمنا! بس القدر كان مخبيلنا غير!".

فجأة، انهمر الرصاص من موقعٍ عسكري قريب، تلاه قصف مدفعي عنيف. تصف شروق اللحظة: "سمعت الرصاص يطحن الهواء. بعدين كل شي صار أسود. صحيت بالمستشفى، يدي مصابة، وثيابي مليانة دم. عرفت إنه خمسة من جيراننا صاروا شهداء. كل هاد عشان شوية طحين! كنّا نظن الجوع هو أسوأ ما في الحرب. حتى اكتشفنا أنّ لقمة العيش نفسها صارت سلاحًا يقتل. رحنا نشتري الحياة بالموت، فإذا بالموت ياكل منّا وما يشبع". وبينما تتحدّث شروق، يلمع بلاتين يدها المكسورة في ضوء الشمس المتسرّب من ثقوب الخيمة.

ثمانية من كل عشرة وجوه في شوارع غزة، تمدّ يدها للخبز قبل أن تمدّها للسلام. الأرقام الرسمية تقول ما تعجز العيون الجائعة عن قوله: 82% من سكّان القطاع باتوا معتمدين على معونات قد لا تصل، أو تصل كفتات من موائد الموت، لا موائد الحياة.

نحو نصف البيوت في غزة (47% منها) لم تعد تعرف زينتها الأولى. بيع السجاد، والذهب، وحتى الذكريات، مقابل رغيف يذكّر الأطفال أن للبطن صوتًا غير صوت القنابل.

126 جسدًا على الأقل سقطوا منذ عام. لم تزهق أرواحهم تحت الركام، بل وسط أكوام الطعام المفقود. رحلوا وهم يحملون بقايا دقيق، فصاروا هم أنفسهم دقيقًا، يُطحن بين أرحية الحرب.

هذه ليست أرقامًا جامدة. إنها وجوه الجوعى الذين صاروا أرقامًا، وأرقامٌ صارت شواهد قبور.

الكلمات المفتاحية

الأمهات في يومهن الأول بعد الحرب

الأمهات في يومهن الأول بعد الحرب

من سيقنع الأمهات اللواتي اعتدن ضجّة البيت، واتساخ الأواني، وتكدّس الملابس في سلال الغسيل، ومنع التجوّل فترة الامتحانات، وصوت المنبّهات في الصباح من كل غرفة، أنه لم يعد هناك أحد؟


حصري: الولايات المتحدة تنتقد مؤتمر الأمم المتحدة بشأن القضية الإسرائيلية الفلسطينية وتحذر من العواقب

واشنطن تساهم بـ70% من المجهود الحربي الإسرائيلي.. هل تمتلك كامل السيطرة؟

"إسرائيل" ليست قوة عسكرية مستقلة بذاتها، بل هي في جوهرها مشروع تمويل استراتيجي أميركي يمنح واشنطن قدرة فعلية على التأثير في السياسة الدفاعية والاستراتيجية الإسرائيلية.


البلادة النفسيّة واللامبالاة الجماعيّة: محاولة فهم تجاهل قطاع غزّة.. «الضحيّة المقدّسة»

البلادة النفسيّة واللامبالاة الجماعيّة: محاولة فهم تجاهل قطاع غزّة.. «الضحيّة المقدّسة»

الصمت المتزايد والتبلد النفسي المستمر يدعوان إلى مراجعة جذرية لكيفية تعاملنا مع قضايا حقوق الإنسان، ويدعواننا للعودة إلى جوهر القيم الإنسانية التي تُعلي من شأن الحياة وتحترم كرامة الإنسان


أن نناضل باللغة.. كيف يقرأ هتافنا الداعم لغزة؟

أن نناضل باللغة.. كيف يقرأ هتافنا الداعم لغزة؟

الشعارات تحتل مكانتها في الحراكات الشعبية على مستوى الشعوب عادةً، للتعبير عن الحالة الراهنة، ولبث رسائل التضامن والوحدة أو وجهات النظر السياسية

اعتداءات المستوطنين في الطيبة: بؤرة استيطانية وحرمان من الأرض ومحاولات حرق كنيسة الخضر
تقارير

اعتداءات المستوطنين في الطيبة: بؤرة استيطانية وحرمان من الأرض ومحاولات حرق كنيسة الخضر

قال راعي كنيسة المسيح الفادي للاتين، بشار فواضلة، لـ"الترا فلسطين"، إن الاعتداءات على الطيبة "قديمة جديدة"

اشتباكات في غزة.. إصابات في صفوف جيش الاحتلال واستهداف مكثف لآليات الاحتلال
أخبار

اشتباكات في غزة.. إصابات في صفوف جيش الاحتلال واستهداف مكثف لآليات الاحتلال

شنّ سلاح الجو الإسرائيلي غارات على نحو 90 غارةً في أنحاء القطاع


أطفال غزة يعانون بسبب "بدائل الحفاضات" أيضًا
تقارير

أطفال غزة يعانون بسبب "بدائل الحفاضات" أيضًا

أسعار الحفاضات ارتفعت إلى 10 شواكل على الأقل للواحدة منها، ولذلك اضطرت الأمهات لاستخدام أكياس من النايلون وقطع قماش بدل الحفاظات

السفير الأميركي في تل أبيب يزور قرية الطيبة بعد تصاعد هجمات المستوطنين
أخبار

السفير الأميركي في تل أبيب يزور قرية الطيبة بعد تصاعد هجمات المستوطنين

في الطيبة، أضرم المستوطنون النار مؤخرًا في مقبرة خارج كنيسة الخضر التي يعود تاريخها إلى القرن الخامس

الأكثر قراءة

1
تقارير

مصادر لـ"الترا فلسطين": حماس لم توافق على خرائط الانسحاب ولا توجد اختراقات في المفاوضات


2
تقارير

مصادر فصائلية لـ الترا فلسطين: لا تقدم في المفاوضات وتوقف الاتصال المباشر مع واشنطن


3
قول

شرق أوسط تحت شرط الجدار الحديدي


4
مقابلات

حوار خاص | القيادي في حماس محمد نزال: المفاوضات المباشرة مع أميركا مستمرّة


5
مقابلات

حوار | سامي مشعشع: إسرائيل تسرّع خطواتها وتنتقل من شيطنة الأونروا إلى إنهاء وجودها