03-ديسمبر-2016

بعد أن أثار زوبعةً من ردود فعلٍ ساخرةٍ على شبكات التواصل الاجتماعي، يسلتزم خطاب الرئيس محمود عباس قراءةً تحليليةً هادئةً، منا نحن كفلسطينيين. علينا أن نكون موضوعيين، وإن اقتضت الحاجة “براغماتيين”، نظرًا لحساسية وضعنا وكوننا نمرّ بلحظة “حاسمة” أو فارقة، كما ذكر الرئيس في أكثر من مرة في خطابه. والمشكلة الحقيقية تبدأ هنا بالتحديد، عند محاولة قراءة الخطاب -الذي امتد لزمنٍ قياسيٍ بلغ قرابة الساعتين- نجده خطابًا فضفاضًا يكاد يخلو من السياسة.

بعد قراءةٍ متمعنةٍ للخطاب، نجد أن جزءًا غير قليلٍ منه مرّ بأحداثٍ ومعلوماتٍ تاريخية، عن تاريخ الحركة وبعض الأحداث المهمة، ثم جاء قسم منه كلامًا عاطفيًا اعتدنا أن نسمعه في المهرجانات والخطابات السياسية. كلامٌ عن الشهداء والأسرى والقادة، نعرف جيدًا أنه كلامٌ جميل، ولا يُقصد منه أن يكون أكثر من ذلك. ثم قسمٌ آخر، عن إنجازات الحركة أو السلطة أو “الدولة”، من بناءٍ للمؤسسات وانضمامٍ للمنظمات الدولية، والمشاركة في المؤتمرات والقمم، وإنجازاتٍ اقتصاديةٍ هنا وهناك، وطموحاتٍ مستقبلية.

يكاد خطاب الرئيس عباس يخلو من السياسة، لقد مر بأحداثٍ تاريخيةٍ ثم تحدث بكلامٍ عاطفيٍ اعتدنا سماعه وانتقل لإنجازات الحركة أو السلطة

لكننا - وإن أعجبنا فرضًا كل ما سبق- ما إن نبحث عن أي شيءٍ سياسيٍ، بمعنى السياسي المحض، وأنا أتحدث هنا عن خياراتٍ سياسيةٍ، إنجازاتٍ سياسيةٍ، رؤى وطنيةٍ، لا نجد إلا الفراغ. أميل إلى وصف هذا الخطاب بأنه خطاب مفرغ من السياسة. وأتعجب كيف لرئيس دولةٍ أن يقف ساعتين دون أن يقول شيئًا جوهريًا. هناك فكرةٌ أخرى تطاردني: إن الرئيس الذي يقف ساعتين يثرثر عن التاريخ والإنجازات ويداعب عواطف الحاضرين والمستمعين بشعاراتٍ مللناها، هو رئيس بالتأكيد ليس لديه ما يفعله! ليس هذا ما يتوقعه شعب محتلّ من رئيسٍ أو قائدٍ أو مسؤول.

اقرأ/ي أيضا:  مؤتمر فتح السابع وفشل دحلان المستمر

وكوننا سمعنا في هذا الخطاب ما يكفي من التاريخ، وما يكفي من الكلام الجميل، وما يكفي من التغني بالإنجازات. سأنتقل مباشرة نحو القليل مما يمكن أن نعتبره كلامًا خطيرًا في السياسة. أحد الأشياء الأساسية التي يجب أن نسلّم بها من هذا الخطاب، هو أن إسرائيل أغلقت الباب - بلا رجعة- على المفاوضات. بعد عقود من التنازلات والهزائم السياسية، إسرائيل لم تعد تريد أن تجلس إلى طاولة المفاوضات.

فكما ذكر الرئيس في خطابه، فإن إسرائيل رفضت أن توقف الاستيطان شرطًا للمفاوضات، واستمرت في سياساتها بل كثفت أنشطتها الاستيطانية في الضفة أكثر من ذي قبل. إن اشتراط وقف الاستيطان ليس موقفًا وطنيًا لدى السلطة، فحق العودة وقضية الأسرى ليسا أقل أهمية من منظورٍ وطني، لكن مسألة الاستيطان هي تهديد وجودي للسلطة بقدر ما هي تهديد لكل الفلسطينيين. ولربما كان من سخرية الأقدار أن تلتقي هموم السلطة مع هموم الشعب لأول مرّة، وأن يصبح ما يهدد الشعب على أرضه، هو نفسه ما يهدد السلطة ويجهض طموحاتها ووجودها.

لم يعد هناك ما يمكن للسلطة أن تشترطه على إسرائيل، بعد أن قدمت كل التنازلات، أما مسألة الاستيطان، فهي ليست شرطًا لوقف المفاوضات، بل هي موضوع المفاوضات الأصيل، فكيف للدولة أن تقوم مع وجود أكثر من 300 مستوطنة منها ما يفوق حجم مدنٍ إسرائيليةٍ، ومع وجود ما يزيد على 800 ألف مستوطن في الضفة الغربية؟ إن قيام دولة مرهون بإزالة المستوطنات، هذا ليس شرط مفاوضات، هذا شرط وجودي رفضته إسرائيل، وبالتالي فهي أجهضت مسألة قيام الدولة من أساسها، وتبنت مبدأ حل مسألة الصراع من طرف واحد.

من الأمور - السياسية- الأخرى التي نستشفها من هذا الخطاب، هو أن فلسطين والسلطة الفلسطينية لم تعد على قائمة أولويات الدول الكبرى، والدول المانحة بالأساس. لقد شكر الرئيس دولتي الجزائر والسعودية على استمرارهما بتقديم الدعم المادي للسلطة، إضافة إلى جهاتٍ عربية وإسلامية أخرى، لكنه لم يتطرق لذكر دور الدول المانحة أو أي التزام اقتصادي من الدول الكبرى. وهذا يدعم قراءاتنا عن تراجع اهتمام الدول الكبرى بالقضية الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، هذا إن لم تكن قد أدارت ظهرها تمامًا وتركت فلسطين لمصيرها المجهول.

يبدو واضحًا من خطاب الرئيس أن إسرائيل أغلقت الباب تمامًا أمام المفاوضات، وأن الدول المانحة أدارت ظهرها للسلطة الفلسطينية

نتذكر هنا ما قاله وزير الخارجية الأميريكي جون كيري بشأن حل الدولة الواحدة ثنائية القومية، حيث اعتبر أن كل ما يحدث يدفع باتجاه هذا الحل، وأن دول العالم عليها إما أن تتحرك، أو أن تسكت. وإن كان هناك دول لا ننسى مواقفها الإنسانية والأخلاقية تجاه قضيتنا، مثل دولة السويد، إلا أنه يبدو لي أن خيار دول صانعة القرار هو السكوت. الصمت الذي يسمح للأشياء التاريخية أن تطبخ في هدوءٍ قبل أن تدوي وتنكس الواقع رأسًا على عقب.

اقرأ/ي أيضا: نوبة ضحك وطنية

يقترح كيري أن كل ما يحدث يدفع باتجاه دولة ثنائية القومية، ويتفق الكثيرون مع هذا الطرح، دولة واحدة لشعبين، ورغم أحقية هذه الفكرة بأخذها في الاعتبار، إلا أنني أجد صعوبة في تصديق أن إسرائيل سوف تسلم بهذا الخيار الذي ليس في صالحها لأسبابٍ عدةٍ أهمها السبب الديموغرافي. هذا ليس خيارًا يخدمُ إسرائيل وطموحاتها التي قامت لأجلها، ببساطة شديدة، ولا أرى أي شيء يحدث على أرض الواقع يهيىء لقيام مثل هذه الدولة. فمسألة فرض اللغة العربية -على سبيل المثال- في المؤسسات الإسرائيلية، لا يعني أن إسرائيل تحولت لوكالة خيرية تخطط لضم ملايين الفلسطينيين إلى كنفها.

يرعبني أن يكون هناك خيارٌ آخر، لا نعلم بوجوده، خيارٌ مفاجىءٌ كخيار النكبة مثلاً، الذي لم نستشرفه، وبقينا نراهن على النوايا الحسنة والمنطق. كثيرون ليسوا على علمٍ بوجود أطروحات أخرى، أشد خطورة وفتكًا من خيار الدولة الواحدة. بعض الإسرائيليين كتبوا وتحدثوا عن خيار دولةٍ ثنائية القومية لا تكون إسرائيل طرفًا فيها، دولةً تقام على أراضي الضفة فقط، يسكنها المستوطنون المتدينون والفلسطينيون. المستوطنون الذين يقترب عددهم من المليون، والذين يتكاثرون بمعدلات تفوق الفلسطينيين أحيانًا. هؤلاء المستوطنين الذي يعتبرهم نخبة من الإسرائيليين عبئًا على إسرائيل التي ترى في نفسها دولة ديمقراطية علمانية. النخبة الإسرائيلية التي ترى في نفسها وريثة لعصر التنوير ترى في هؤلاء المستوطنين المتعصبين تهديدًا للمبادئ التي قامت عليها إسرائيل، فلم لا تقيم لهم إسرائيل دولةً في الضفة الغربية، فتنقل الصراع إليهم، وتكسب دولة جارة يقطنها الكثير من اليهود؟ علمًا أن هذا الخيار يترك غزة خارج إطار هذا الحلّ، فإما أن تضمّ لمصر، وإما أن تبقى شبه دولة تديرها "حركة حماس الإرهابية"، حسب وصف هؤلاء.

هذا أحد السيناريوهات التي تجعلني أتساءل عن وجود سيناريوهات أخرى ممكنة، حيث لا يبدو أن هناك ما هو مستحيلٌ بالنسبة لإسرائيل، وهي اليوم أقوى دولة في المنطقة، ومن أقوى الدول عسكريًا في عالم أثبت لنا أنه لا يتواصل إلا بلغة القوة، في عالم لا تزال الإنسانية والأخلاقية تزحف ببطء نحو بلوغ مكانة مؤثرة. لقد كرر الرئيس أكثر من مرة أن هذه اللحظة “حاسمةٌ” أو “فارقةٌ” دون أن يوضح الأسباب، لماذا هي حاسمة ولماذا هي فارقة. إن هكذا خطاب لا يعبر إلا عن الهزيمة، ولم يعد أمام قيادتنا إلا الهروب للأمام، حيث إن الاصطدام بالأفق المسدود والانهيار التام لم يعد إلا مسألة وقت.

اقرأ/ي أيضا: 

دُور السينما الفلسطينية.. لم يبق إلا الأسماء

الختامة.. فرحة اندثرت في نابلس

خريجون رفضوا صعود قطار البطالة.. ماذا حل بهم؟