20-أبريل-2020

سينقضي شهران ونحن على هذه الحال. ولا أحد يعلم متى يمكن أن تعود الأمور سيرتها الأولى، إذا عادت أصلاً!

وإلى متى سيستمرّ الإيجاز الصحافي مرتين يوميًّا؟

ليست الأزمة في الحجر المنزلي. بل لعل هذا أفضل ما في المشهد لدى كثيرين، وأنا منهم، مع اختلاف الوصف.

ثمة فرق بين وجودك الطوعي في البيت، تفعل ما تشاء، وتنام وقت تشاء، دون أن تنظر إلى الساعة وتقول: تأخرتُ!، وبين أن تكون موجودًا رغمًا عن أنفك، ولو في الجنة

ثمة فرق بين وجودك الطوعي في البيت، تفعل ما تشاء، وتنام وقت تشاء، دون أن تنظر إلى الساعة وتقول: تأخرتُ!، وبين أن تكون موجودًا رغمًا عن أنفك، ولو في الجنة، ووفق قرار ضبابي، أجزم أن أصحابه لا يعرفون ما تخفي نهايته، ولئن كان اتخاذه في البداية أفضل ما يمكن، لكنه يشبه الصعود أعلى الشجرة هربًا من الطوفان، وفجأة، ظل الطوفان يأتي موجاتٍ موجاتٍ، لم يأتِ مرة واحدة واقتلع كل شيء، ولم ينتهِ. ما زال ممكنًا، دون معايير نستدل بها على حدود هذا الممكن.

اقرأ/ي أيضًا: عندما تفقد الأرقام معانيها

الحكاية هي في تحوّل الخارج إلى مكان مفخخ بالخوف، في كل سلوك وُدي ومحبب والألفة، بدءًا من المصافحة، وليس انتهاءً بالقبلة، بكل أنواعها، ودون أن نعرف كيف يمكن أن يمر كل هذا.

والإنسان عدو ما يجهل. ونحن نجهل ما يحدث أو ما الذي يجب علينا أن نفعله كي ننجو، وهل سننجو أصلاً؟

لم تنجح الجائحة التي تتجول في العالم في إلهاء كثيرين عن متابعة الجزء الرابع من المسلسل الإسباني "لاكاسا دي بابيل"، وانقضّ المتابعون على الحلقات الثماني، والتهموها بمجرد عرضها على شبكة "نتفلكس" وقرصنتها على كل المواقع والشبكات، لتنتهي الحلقة الأخيرة وقد فتحت بوابة ضخمة على جزء خامس، ليس معروفًا إن كان الأخير، أم أن عجلة الإنتاج راقها الإقبال المذهل، وستدور ما دام هناك جمهور ينتظر، كصاحبنا "الفيروس" الذي يمكن أن نتلمّس بدايته، لكننا لا نعرف متى ينتهي.

هل ستستمر سلسلة المسلسل الإسباني، وكذلك سلسلة انتشار الفيروس؟

لا أحد يدري.

اللافت هنا هذا التعاطف المحموم مع "البروفيسور" ومعه ثلة من اللصوص قرروا أن يسطوا على دار سك العملة الإسبانية، ليطبعوا 2.4 مليار يورو. وكرروا الأمر في سرقة البنك الإسباني المركزي.

ثمة حالة عارمة من كره الدولة، أي دولة، وجدت تجلياتها في تعاطف الجمهور مع سطو على مقدرات دولة- شعب، بمعزل عن المعنى الأخلاقي الذي فطر عليه البشر الأسوياء.

ثمة حالة عارمة من كره الدولة، أي دولة، وجدت تجلياتها في تعاطف الجمهور مع سطو على مقدرات دولة- شعب

إلا أن الدول اليوم محبوبة، على غير العادة. الكل يدين بنجاته إلى إجراءات الدول "الحكيمة"، والكل يسبّح بحمد حنكتها وجدارتها بقيادة الناس إلى بر الأمان، على أنه برّ مفتوح على صحراء، لا أحد يعرف نهايتها، وهي مملوءة بالسراب، كلما توغل واحدنا في الصحراء، وظن أنه اقترب من الماء، عطش أكثر.

اقرأ/ي أيضًا: أوبئة غيرت وجه الحياة في فلسطين

في اللحظة التي يتصرف فيها اللصوص بأخلاق تشبه سلوك النبلاء، يحبهم الناس، ولو كانوا لصوصًا أو غير جديرين بالمحبة. "البروفيسور" لص، لكنه أيقونة.

نستيقظ كل يوم وقت الإيجاز الصحافي، ونستمع إلى الأرقام والدعاء والنصائح، ثم ننزوي نكمل رتابة أيامنا، بانتظار الإيجاز المقبل، الذي ننتظر فيه جملة واحدة: هذا هو الإيجاز الصحافي الأخير، لقد نجونا، أو حتى انتهينا، نراكم في مناسبة أخرى.

ننتظر أن يغيّر الناطق الرسمي الآية- المكافأة التي حفظها الجميع، بعد أن يطلب منا البقاء في بيوتنا: "ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا". نريد أن نسمعه يقرأ: "فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه".

وننتظر أن يتخلص أذان الصلاة من الجملة الطارئة "الصلاة في بيوتكم"، لنسمعه مرة أخرى "حي على الصلاة، حي على الفلاح".

وسط كل هذا، تطل علينا "إبداعات" عجيبة، يراها البعض تحايلاً على الفيروس وتداعياته، واستحضارًا لفكرة الحديقة المنزلية المنتجة، والإنتاج المنزلي لكل شيء، بدءًا من عجينة الكنافة، وليس انتهاء بعجينة الفلافل.

لطيفة حكاية أصص الورد على الشرفات والفلافل المنزلي، لكنها كلها لحظات عابرة. وهي "تحايل" تَرَفي. إن كلفة شراء الفلافل جاهزًا، أوفر من شراء العجينة وقليها في البيت، أو هي الكلفة نفسها في أفضل الأحوال.

نحن نقنع أنفسنا أننا قادرون على "النجاة"، مع أن أحدًا لم يتحدث عن نقص في المواد الغذائية. وليس الفلافل من المواد الضرورية.

نحن نقنع أنفسنا أننا قادرون على "النجاة"، مع أن أحدًا لم يتحدث عن نقص في المواد الغذائية

وفوق هذا، فالاكتفاء الزراعي المنزلي ليس بزراعة الورود، أو ببيتين من البندورة أو الخيار.

اقرأ/ي أيضًا: هل سيطيح كورونا بالنظام الاقتصادي الحر؟

الاكتفاء الزراعي نهج حياة كامل، وليس عملاً موسميًّا، وهذا ما لم يحدث. ولن يحدث. كلنا ننتظر أن تفتح مؤسساتنا أبوابها، لنعود موظفين أنيقين مرتاحين، قليلي التعرّق.

غدًا، ستموت النباتات وتذبل وتتحول إلى اللون الأصفر، ونحن ننتظر اللون الأخضر للإشارات الضوئية في طريقنا إلى أعمالنا أو عودتنا منها. وسنشتري الفلافل من أول مطعم شعبي يفتح "نصف فتحة"، وسنرمي بقية العجينة المفرّزة في الحاوية القريبة، ومعها عجينة الكنافة التي تقنع أبناءك أنك تعدّها بشكل مذهل ولذيذ، وهي في منتهى البشاعة.

الحديث عن الاقتصاد المنزلي تسلية نقنع أنفسنا بها، وستسقط فور عودة الأمور إلى عاديتها.

والتسلية المؤذية الأخرى هي الحديث عن التضامن بين "كل فئات الشعب"!

الميسورون يعيشون حياتهم بمنتهى الرتابة والأناقة. بيوتهم فسيحة، وأموالهم في حساباتهم، ولن يؤثر عليهم إغلاق البلاد أشهرًا، بل سنوات.

هؤلاء سيفتقدون صوت موظفة المطار التي تستعجلهم للذهاب إلى بوابة طائرتهم. سيفتقدون المضيفة اللطيفة التي تسألهم: "بيف أور تشيكن؟".

في ظل الحجر المنزلي الإجباري، بتّ أرى سيارات فارهة بمئات آلاف الدولارات واقفة لا تتحرك، وأصحابها يرتدون ملابس رياضية بماركات عالمية ويركبون دراجات هوائية ثمينة ليسرّوا عن أنفسهم.

كل هذا سوف يمر، وسيعود الأغنياء إلى غناهم، وسيتعمق ألم الفقراء وسينكشفون

كل هذا سوف يمر، وسيعود الأغنياء إلى غناهم، وسيتعمق ألم الفقراء وسينكشفون.

كتابة العناوين فن، وعنوان مقالي هذا كان من سطر كامل، قبل أن ترفضه برمجة الموقع، وهو أيضًا يسقط في أي امتحان صغير. كان عنواناً طويلاً جدًّا، ومربكاً ومرتبكًا.

الأستاذ إبراهيم ملحم، لمن يعرفه، ملك العناوين، إنه مذهل في قراءة التقرير أو التحقيق ووضع عنوان لافت. هذا ملعبه.

الإيجاز مهارة، خانتني هذه المرة، فجاء المقال طويلاً، وعنوانه كذلك.

المعذرة، كورونا أتى وأحضر معه أدواته وعاداته.


اقرأ/ي أيضًا: 

أي رسالة خفية حملها فايروس كورونا للبشرية؟

ما هو سر قوة الفلسطينيين في مكافحة كورونا؟