01-مارس-2017

لا ينقضي شتاء فلسطين، عادةً، قبل أن تترك "المستقرضات" بصمتها الخاصة، المتمثلة بشدة البرد وغزارة المطر. لكن هذه الأيام لها أصلها لدى العرب بشكل عامٍ، وليس في تراث فلسطين فقط، إذ تُعرف لديهم بأنها "أيام العجوز" أو "مستقرضات الروم" أو "الأيام الغُبر".

"أيام العجوز" سبعة أيامٍ كاملةٍ لها أسماء ووصف وطرائف، تأتي في خمسينية الشتاء، وتهل مع قدوم "سعد السعود"

وتبدأ "أيام العجوز" في السادس والعشرين من شباط/فبراير، وآخرها نهاية الرابع من آذار/مارس، فهي ثلاثة من شباط وأربعة من آذار، وإذا كانت السنة كبيسة فتكون أيام العجائز أربعًا من شباط وثلاثًا من آذار.‏

اقرأ/ي أيضًا: رحلة شتوية في تراث فلسطين

والمستقرضات أيام مطرٍ وخيرٍ غزير، ورياحٍ شديدةٍ وزمهرير، وفيها يكون البرد في أشدّه، ولذا يقولون: "في المستقرضات عند جارك لا تبات". وعادة ما يسبق هذه الفترة ارتفاعٌ في درجة الحرارة بشكل ملحوظ، حتى يظن بعض الناس أن البرد قد انصرف، فيُقال: "لا تقول خلصت الشتوية حتى تخلص المستقرضات المَنكية"، "إذا تأخر المطر في شباط عليك بالمُستقرضات".

من أين جاءت التسمية؟ 

سُميت بـ"أيام العجوز" لأنها في جميع قصصها الخرافية تدور حول حكاية عجوزٍ كبيرةٍ في السن، استهانت بمطر شهر شباط وبرده، "ومن برد شباط بتتلفع العجايز في البساط". وقيل لأنها تأتي في عجز الشتاء، وفي اللغة: آخر كل شيء هو عجزه.

أما تسميتها بالمستقرضات فقد جاءت لأن شهر شباط استقرض عدة أيامٍ من شهر آذار، "مِثل شباط بعير وبستعير وبيضل ناقص". وقولهم، "مستقرضات الروم"، فالروم هنا مقصودٌ بها التقويم الغربي. "ما فيه طرش يقوم، ولا مركب يعوم، إلا بعد مستقرضات الروم"، "ما في قيامة بتقوم، إلا بعد مستقرضات الروم"، وقولهم عنها "الأيام الغُبر"، ذلك للغبرة وشدّة الظلمة.

ولكل يومٍ من هذه الأيام اسمٌ عند العرب وهي: صن (لشدة البرد)، صنبر (يترك الأشياء متجمدة قاسية من البرد)، آمر (يأمر الناس بالحذر منه(، مؤتمر (يأتمر بالناس بالشر والأذية)، وبر (يمحي الآثار من شدة المطر والبرد)، معلل (يعلل الناس ويمنيهم بتخفيف البرد(، مطفئ الجمر (من شدة البرد، وبعده لا يوقد جمر لارتفاع البرد).

يسبق "المستقرضات" ارتفاعٌ في درجات الحرارة، ولكل يومٍ من أيامها اسمٌ خاصٌ به، وقد تشاءم العرب منها دائمًا

ويرى العرب هذه الأيام على أنها أيام نحسٍ، فكانوا يتشاءمون منها، ويحذرون منها، ويقولون عنها أيام (الحسوم)، وكانوا يتجنبون فيها الزواج والتجارة. ولم يكن الرجل يجامع زوجته لأنه يعتقد بأن الجنين سيكون مشوهًا، وأن الأشجار التي تزرع في تلك الفترة لا تثمر. ولذا قالوا: "ما حَلال بيدوم إلا بعد الحسوم"، "إذا نويت بالحسوم نعمتك ما بتدوم، استنا تا يجي عمك نيسان وصلي ع النبي العدنان".

أساطير وحكايات العجوز

قد تكون أساطير عجوز المستقرضات من أكثر ما روي عن الأيام والفصول، وقد ذكرت المصادر عدة رواياتٍ عن ذلك، نورد بعضًا منها:

1- رأت أحد العجائز ارتفاع درجات الحرارة وتحسنَ الجو في شهر شباط، فطرحت الثياب الثقيلة عنها، فباغتها برد هذه الأيام فماتت، ولذا قيل بأن "برد شباط عدو العجائز".

2- قيل بأن عجــوزًا كانت تخبر قــومهــا ببــرد سيقع في هذه الأيام، فلم يهتموا لقولها، حتى جاء البرد فعلاً فأهلك زرعهــم وضرعهــم، فقيل للأيام أيام العجوز أو برد العجوز. 

اقرأ/ي أيضًا: الشتاء في لهجتنا العاميّة

3- يُحكى أن العرب جزت الأصواف والأوبار مؤذنة بالصيف، وقالت عجوز منهم لا أجز حتى تنقضي هذه الأيام فإني لا آمنها، فاشتد البرد بها، وأضر بمن قد جزّ وسلمت العجوز بما تملك.

4- قيل بأن العجوز هي من عجلت بجز الصوف لحاجتها إليه، فجاء البرد وموّت غنمها، إذ كان لديها سبعةٌ من الماعز ماتت في كل يوم واحدة، ولذا قيل عنها "أيام العنز"، "لا تعد غنماتك يا راعي تا يمرق التسعاوي"، أي حتى تمر الأيام السبعة إضافةً ليومين آخرين.

5- ونسبوا الأمر لعجوزٍ كانتٍ بالجاهلية، ولها ثمانية أولاد فسألتهم أن يزوجوها وألحّت عليهم فتآمروا بينهم وقالوا: إن قتلناها لم نأمن عشيرتها، ولكن نكلفها البروز للهواء سبع ليالٍ، لكل واحد منا ليلة. فقالوا لها إن كنت تزعمين أنك شابة فابرزي للهواء سبع ليال، فإننا نزوجك بعدها. فبرزت للهواء، ولما أصبحت قالت: "يا بنىّ إننى لناكحة، وإن أبيتم إننى لجامحة، هان عليكم ما لقيت البارحة". فقالوا لها لا بد أن تنجزي وعدك في الليالي السبع، ففعلت وماتت في الليلة السابعة ونسب العرب إليها برد الأيام السبعة.

6- وقيل أيضًأ، إن "المستقرضات" هي المقصودة بقوله تعالى في سورة الحاقة، (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ). والمراد بالآية: العذاب الذي نزل بقوم عادٍ بسبب كفرهم وتكذيب الرسل. ونُسبت للعجوز لأن عجوزًا من عاد دخلت سربًا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن.

7- وقيل بأن عجوزًا كانت لها بقرة واحدة، وقد أغراها نهار شباط الدافئ فتركت بقرتها في المرعى (المراح) حتى اليوم التالي، فوجدتها ميتة من البرد، فقالت: (لا تقول شباط راح، شباط نايم بالمراح).

8-  ولعل القصة الأشهر هي حكاية العجوز التي فرحت بانتهاء شباط دون أن تتأذى منه وراحت تُعَيّره وتسبُّه، وقد حفظت لنا الذاكرة الشعبية عشرات الأمثال عن ذلك.

"أجا شباط وراح شباط وحطينا بظهره المخباط"، والمخباط: قطعة خشبية كانت تستخدم لتنظيف الصوف. "راح شباط أبو الزلازل والأمطار، وحشينا فيه المخباط، ترفعوا يا عرب الى فوق شوية بعد ثلاثة أيام يهل آذار وتفتح العنقاء ويبيض الشنار". "فات برد شباط لا أخذ غنمه ولا رباط وضربناه في المخباط". "راح شباط وضربناه بالمخباط، وبروح آذار وبنضربه بالمقحار".

أساطير عجوز "المستقرضات" قد تكون أكثر ما روي عن الأيام والفصول، وبعضها تعود لأيام الجاهلية

فسمع شباط هذا الكلام فغضب وذهب إلى ابن عمه آذار يطلب عونه للانتقام من العجوز قائلاً: "آذار يا ابن عمي أربعة منك وثلاثة مني تا نخلي العجوز تولي". "آذار يا ابن عمي ثلاثة مني وأربع منك خلينا نرد العرب للمشاتي وخلي العجوز تحرق مخباطها والمغزلي". "آذار يا ابن عمي أربعة منك وثلاثة مني نخلي دولاب العجوز ع المية يغني". "آذار يا ابن عمي، ثلاثة مني وأربعة منك تا نخلي العجوز توقد مخباطها". "يا أخوي يا آذار ثلاثتك مع أربعي نخلي العجوز بالسيل تقرعي". "آذار يا ابن عمي أربعة منك وثلاث مني، تا نخلي واد العجوز يغني". "آذار يا ابن عمي أربعة منك وثلاث مني، تا نخلي العجوز توقد مخباطها وتحط راسها بين إركابها". "آذار يا ابن عمي أربعة منك وثلاثة مني، بنخلي الصبية تحرق قبقابها، والعجوز تشعل دولابها وتنضب ورا بابها".

وقد هطلت الأمطار بغزارةٍ وسالت الأودية وجرف السيل أغنام العجوز، وبدأت العجوز تصرخ قائلة: "يا سيل درجهـن على مهلهن، معاشير ليرمن بهمهن"، أي أنها تناشد السيل أن يرفق بالأغنام، كي لا يفقدن ما يحملن به.

اقرأ/ي أيضًا:

هذا ما تبقى من أكلات فصل الشتاء

"لحم الفقراء" في تراث فلسطين

"أبو قاسم وحريمه" في الموروث الشعبي!