08-يونيو-2018

انتشرت في غزة الآن الفوانيس المصنوعة في الصين ضعيفة الجودة - (gettyimages)

كان الصوت خافتًا بادئ الأمر لكنه ما لبث أن اقترب، خرجَت من الخيمة حافية القدمين ووقفَت أمام بابها ترقب مرور مجموعة أطفال من غزة كانوا يحملون في أياديهم "الفوانيس المضيئة" ويغنون بعلو الصوت: "حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو".

التفتت انشراح سرور - وكان عمرها حينذاك ثماني سنوات - يمنةً ويسرة، فإذا بأطفال مخيم الشوا (أول مخيم أقيم للاجئين الفلسطينيين بغزة في عام النكبة) كلهم يلاحقون قناديل الضوء بعيونٍ متلألئة وقلوبٍ تنزف. تذكّرت حينها رمضان المجدل المهجّرة؛ عندما أخذها والدها صاحب التجارة والأطيان في العام الذي مضى إلى محل "السمكري" إبراهيم المعصوابي هناك، واشترى لها فانوسًا رائع الجمال صُنع من الصفيح والزجاج الملون، وبداخله فتيلٌ مغموسٌ بالكاز، يصعد كلما احترق بواسطة منظمٍ موجودٍ على إحدى جوانبه. كان سعره 4 قروش، وكان الجنيه الفلسطيني الواحد وقتها بـ 100 قرش.

الفوانيس في فلسطين قديمًا كانت تُصنع من العلب الفارغة وتُضاء من خلال قماشة بالية تُغمس بزيت زيتون

عادت إلى الخيمة، وسألت أمها: "فانوسي ظل في المجدل، راح تشترولي غيره من غزة؟". لا تنسى المرأة التي صار عمرها اليوم على أعتاب الثمانين نظرة أمها المنكسرة، عندما تأتأت وهي تجيب: "بس نرجع بنجيب أحسن منه".

والدها قرر أن لا يتركها تنام باكية، أخرج من إحدى علب الإغاثة محتواها من الفول، وبدأ يطرقها بالمسامير من كل الجوانب، ومن القاع أيضًا، حتى أحدث فيها كلها ثقوبًا، ربط بين طرف القاع وطرف فم العلبة بسلك رفيع، وجلب قماشةً بالية، ثم غمسها بزيت زيتون كان لديهم، وأشعله، وأعطاه لانشراح التي لم تسعها الدنيا من شدة الفرحة.

اقرأ/ي أيضًا: عندما وقف "أهل العز" في طابور الخبز

تقول: "خرجت في ذلك اليوم من الخيمة وصرت ألوّح بالفانوس يمنةً ويسرة، وأغني مثل الأطفال الذين مروا قبل قليل، ليلحق بي بعد عدة دقائق أطفال المخيم كلهم يحملون فوانيس الصفيح اليدوية (..) جُبنا المخيم ليلتها بالغناء والضوء". تضحك وتضيف: "صحيح تلسوعنا من حماوة الصفيح أكثر من ما انبسطنا، بس اسمه مسكت فانوس، ولا تضل حسرة في قلبي".

حتى ما قبل عشرين عامًا تقريبًا، معظم سكان قطاع غزة من لاجئي المدن والقرى الفلسطينية المهجّرة، أو حتى من سكانها الأصليين ذوي الدخل المحدود، لم يعرفوا سوى فوانيس الصفيح اليدوية تلك التي كانوا يصنعونها من علب رب البندورة، أو علب السمنة، أو حتى علب حليب "النيدو"، "في حين كان ثمن فانوس الصفيح المصنوع بأيادي الحرفيين يساوي مبلغًا وقدره، فلا يستطيع شراءه إلا أبناء الذوات"، وهذا ما تؤكده ابنة حمامة المهجّرة هبة مقداد (30 عامًا) عندما حدّثتنا عن فانوس الطفولة في مخيم الشاطئ برفقة أمها المجدلاوية رويدة زقوت (70 عامًا).

الشمعة ومصروف الجيب

تقول هبة: "كنت الصغيرة بين 18 أخًا وأختًا، كان رمضان بالنسبة لنا يعني الفانوس الذي يصنعه أبي، ولأننا كنا كثيرين، كان والدي قد حدد لكل واحد دورًا من أجل أن يحصل على فانوس يتوافق مع دور انتهاء محتوى علبة الصفيح المتواجدة لدينا، بندورة.. سمنة.. فول..الخ. وكان هذا يعني أنني سأفرح بفانوسي مع نهاية الشهر، لكنني لم أسمح لهذا أبدًا أن يحدث".

كانت هبة مع إعلان حلول شهر رمضان الكريم، تجوب معسكر الشاطئ كله، بحثـًا عن علب الصفيح الفارغة، وكان يمكن أن يدفعها إصرارها حتى للبحث بين أكوام مخلّفات البيوت، ويا لحظها حين تجد علبتين أو ثلاثة، كانت تساوم عليهن أبناء الجيران بأن يأخذوا منها واحدة بشرط أن يجعلوها زعيمة جولة الليلة، أو أن يصنعوا فانوسها بأيديهم.

تضيف، "كان أبي بمجرد أن يعلنوا قدوم الشهر الكريم، يجلس عند الباب في الخارج، فيأتيه الأطفال من كل أنحاء المخيم يحمل كل واحدٍ منهم علبة بندورة فارغة وشمعة، فيبدأ بطرق العلب بالمسمار وتجهيز أذرعها من الأسلاك القديمة، حتى يجعلها فانوسًا جاهزًا".

كانت هبة تأخذ مصروفها اليومي (أغورتين) في ذلك الوقت، وهما ثمن الشمعة التي كان عليها لو أرادت أن تشعل فانوسها أن تشتريها بمصروفها لأن حال أسرتها "على قده"، لكنها كانت ذكيةً بما يكفي لتحتفظ بمصروفها لها، وتشعل فانوسها في الليل أيضًا.

فكرة فوانيس رمضان أتت إلى فلسطين من مصر، ومصدرها الاحتفال بجعل القاهرة عاصمة للدولة الفاطمية

تتابع، "كنت أجمع زبالة الشمع من فوانيس الأطفال المُهملة، وأضعها في صفيحة على النار حتى تذوب، ثم أشكلها شمعةً من جديد، وهكذا أضمن إنارة فانوسي ليلاً، ومصروفي في جيبي أيضًا". تذكر هبة أن من كان يحمل فانوسًا كبيرًا جهزه له والده من علبة نيدو كبيرة مثلاً، كان يمشي في مقدمة صفوف الأطفال الذين كانوا يغنون "حالو يا حالو.. ووحوي يا وحوي" "تمامًا "كزعيم العصابة" تعلق ضاحكةً.

زجاجة وألوان "فلوماستر"

أمها رويدة تؤكد أنها مذ ولدت في عهد النكبة 1948، لم تعرف سوى فانوس الصفيح هذا، تصنعه بيدها، وتشعله إما بفتيل مغموس بزيت الزيتون أو الكاز، أو بشمعة إن توفر ثمنها، بينما كانت الفوانيس الجميلة ذات الزجاج الملون يجلبها المسافرون إلى مصر لأطفالهم في غزة، حيث كان هناك حرفيون كثر يصنعونها بإتقان، ولم يكن بقدرة كثير من أهل غزة شراءها، لغلو أثمانها.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تجمّلت نساء فلسطين قبل النكبة؟

في مرةٍ عادت رويدة باكيةً لأمها بعد أن رأت أحد الأطفال يحمل فانوسًا مهندمًا جلبه له والده من مصر بعد أن كان في رحلة عمل هناك، وقالت لها: "أريد مثله الآن"، لتخبرها أمها بأنها ستصنع لها أجمل منه، فقط لو انتظرت قليلاً. جلبت سكين الزجاج (أداة معروفة وقتها لقطع الزجاج)، وقطعت عنق زجاجة كانت موجودة لديهم، ثم لونتها من الجوانب بألوان "الفلوماستر" الأزرق والأحمر ثم أشعلت بداخله شمعة، فأعطى وهجًا ملونًا رائعًا، على حد تعبيرها. خرجت رويدة تحمله "ومين قدها" تتبختر به على طول الشارع كي يراه الجميع، سيما ابن الجيران صاحب الفانوس الجديد.

العهد الفاطمي في فلسطين

المؤرخ خالد الهجين، أكد أن أهل فلسطين عرفوا الفوانيس ذات الزجاج الملون التي كان يصنعها "السمكري"، أو "التنكجي" كما كانوا يسمونه، منذ زمنٍ بعيد، لارتباطهم التاريخي بمصر، فلما كان منشأ قصة فوانيس رمضان من رواية تقول إن أهل القاهرة خرجوا بالمشاعل والقناديل والهتافات لاستقبال المعز لدين الله الفاطمي الذي قرر أن يجعل مدينتهم عاصمة للدولة الفاطمية، وصادف ذلك أول أيام شهر رمضان المبارك للعام 362 هجرية، كان لا بد أن تنتقل الفكرة إلى كافة أرجاء الدولة الفاطمية التي ضمت بلاد الشام كلها بعد السيطرة الكاملة عليها واقتطاعها من جسم الخلافة العباسية على يد الفاطمي جوهر الصقلي عام  358 هجرية".

قبل النكبة، كانت فوانيس الصفيح الملونة للأغنياء في المدن، أما فوانيس القرى فهي للإنارة فقط

ويُيبين الهجين، أن الفلسطينيين من أهل المدن، الذين كانت تزورهم قوافل التجار قبل النكبة، يافا، وحيفا، والمجدل، وغزة، وغيرها، كانوا يعرفون جيدًا فانوس الصفيح بشكله الجميل المرتب الملون. لكن أهل القرى - على الأغلب - ما كانوا يكترثون لفكرة حمل الفانوس أصلاً إلا للإضاءة، وإن فعلوا صنعوه من علب الصفيح بشكل يدوي عبر طرقه بالمسامير وإضاءته بشمعة أو سراج الكاز، والمحظوظ فيهم من كان والده تاجرًا يزور المدن فيعود بفانوس متقن الصنع هدية لأطفاله، وغالبًا يكون من ذوي الدخل الميسور.

في غزة اليوم واحدٌ أو اثنين من الحرفيين يصنعون فوانيس الصفيح المزركشة بدمجها مع الزجاج والقصدير، ونقشها بالعبارات ذات الدلالة الرمضانية، لكنها تباع لارتفاع سعرها الذي قد يزيد عن 100 شيقل غالبًا لأصحاب المحال التجارية فقط، الذين يطلبونه بطول متر، ليعلقوه أمام أبواب محالهم كزينة لشهر رمضان.

ما عدا ذلك، اختفت فوانيس الصفيح اليدوية تمامًا، وانتشرت مع بداية الألفية الجديدة فوانيس الصين البلاستيكية الملونة، رخيصة السعر، التي تضيء بواسطة مصباح صغير بداخلها بعد تزويدها بالبطاريات، وتغني كذلك عوضًا عن صاحبها بأغاني رمضان المعروفة (وحوي يا وحوي إيوحا.. أو حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حلو).


اقرأ/ي أيضًا:

ما هي ألعاب الفلسطينيين قبل النكبة؟

صور | عن "الناس الطيّبة" في فلسطين قبل النكبة

فيديو | بماذا تغني أجدادنا "أيام البلاد"؟