06-مارس-2023
مياه عادمة

ليس بالإمكان تقريبًا التأريخ للأدب أو المسرح  أو الشعر أو الموسيقى والغناء أو الصناعة أو حتى النخبة اليسارية وخلافاتها ودورها في تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين، دون قراءة مساهمة "كيبوتس ألفا"، ففيه احتدمت السجلات بين اليسار حول الأولويات، وتغنت به القصائد، وتبلور وعي نخبة صاغت وجه "إسرائيل"، من بينهم شعراء ومفكرون  ورئيس أركان وقادة  "الهاغاناة"،  ورجال الصناعة والمال.

هذا "الكيبوتس" قدم كثيرًا لـ"إسرائيل"، وفي المقابل بعض ما قدمه للفلسطينيين والسود في جنوب أفريقيا، "مدفع المياه العادمة" لتفريق الاحتجاجات السلمية

إن "كيبوتس ألفا" هو نموذج مُصغّر لـ"إسرائيل" كما تخيّلها آباؤها المؤسسون: "أوروبيون بيض في الشرق الأوسط يعيشون حياة رغيدة". هذا "الكيبوتس" قدّم كثيرًا لـ"إسرائيل"، وفي المقابل بعض ما قدمه للفلسطينيين والسود في جنوب أفريقيا، "مدفع المياه العادمة" لتفريق الاحتجاجات السلمية.

قبل عدة أسابيع، عندما كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير أصدر تعليماته للقائد العام للشرطة باستخدام "مدافع المياه" ضد المحتجين على التعديلات القضائية، أعرب قادة معسكر اليسار والوسط -الذي كان يسمى في العقدين الماضيين في وسائل الإعلام العربية "معسكر السلام"- عن صدمتهم، ويائير لابيد، زعيم المعارضة ورئيس حكومة الاحتلال الماضية قال إن ذلك "قمة التوحش".

تسارعت الأحداث، وبالفعل استخدمت الشرطة "مدفع المياه" في قمع المحتجين، لكنها لم تستخدم نفس المياه العادمة التي تستخدم في قمع الفلسطينيين التي تم تطويرها خصيصًا لهم بإضافة مركبات كيماوية مركّزة تضفي رائحة "براز بشري" حادة جدًا على المياه، ومن يُصاب بها يصعب عليه التخلّص من هذه الرائحة. حتى جدران المنازل والسيارات وكاميرات الصحفيين تكون بحاجة لأيام طويلة بعد غسيل متواصل للتخلّص من الرائحة التي تزكم الأنوف، بينما الملابس لا حل لرائحتها إلا إلقاءها في القمامة.

معظم المتظاهرين في شوارع "دولة تل أبيب" -كما تُسمى سخريةً في السجال الداخلي الإسرائيلي- ينتمون إلى الطبقة العليا والجزء العلوي من الطبقة الوسطى، ومن الناحية العرقية، هم من اليهود الغربيين العلمانيين "الأشكناز"، وهولاء هم  أحفاد زعماء الحركة الصهيونية وآباؤها. في المقابل، رجال الشرطة هم في الغالب من أبناء الطبقات الاقتصادية الأضعف، وجزءٌ كبيرٌ منهم من الطبقات التي جلبتها الحركة الصهيونية قبل إنشاء "إسرائيل" بفترة وجيزة من الدول العربية وأوروبا الشرقية، بسبب حاجتها الماسّة للعنصر البشري، ليكونوا جنودًا أو عُمّالًا. كما أن المتظاهرين من بيئة تحتقر الشرقيين ونمط حياتهم ومعتقداتهم الدينية.

مفهوم "قوى اليسار" في أي سياق خارج "إسرائيل" يختلف عنه داخلها. فاليسار في هذه الحالة هي حركة استيطانية تحالفت مع الاستعمار لبناء دولة بعد تهجير الفلسطينيين من بلادهم عنوة، وتشييد مجتمع طبقي في أعلى هرمه اليهود الغربيون من حيث علاقات الإنتاج، بينما اليهودي الشرقي عامل في المصنع، وحرّاث في الحقل وجندي في الميدان. أما السيد والجنرال ورجل الأعمال والمفكّر فهو الأبيض الأشكنازي.

في "كيبوتس ألفا"، وهي قرية تعاونية معظم المستوطنين فيها من اليهود الغربيين من أصول نمساوية وألمانية، ومن اليساريين بالمفهوم الصهيوني، بدأت شركة "بيت ألفا  لصناعة المقطورات" -التي غيّرت اسمها لاحقًا إلى بيت ألفا تكنولوجيز- في إنتاج مدفع المياه والسيارة التي تحمله، ويُسمى باللغة العبرية "همتختاز".

في عام 1986، تم بيع 14 مركبة مياه عامة في غضون عام ونصف للشرطة الإسرائيلية ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والنظام القمعي في تايلاند. كان تسويق هذا المنتج في العالم يديره نائب القائد العام للشرطة، المتقاعد أمنون هالبر، من خلال شركة "أمنون إنترناشيونال" التي أسسها في "إسرائيل". تم استخدام المدفع لأول مرة لتفريق مظاهرات اليهود الحريديم في القدس، عندما احتجوا على افتتاح دور السينما أيام السبت.

مع بداية الانتفاضة الأولى جرت محاولةٌ لبيع مدفع المياه للجيش الإسرائيلي، بهدف تفريق المظاهرات في الضفة الغربية، لكنه قرر عدم شرائها، ففي تلك الفترة كان قرار رئيس حكومة الاحتلال اسحق رابين تفريق المظاهرات الفلسطينية باعتماد سياسة تكسير العظام

مع بداية الانتفاضة الأولى جرت محاولةٌ لبيع مدفع المياه للجيش الإسرائيلي، بهدف تفريق المظاهرات في الضفة الغربية، لكنه قرر عدم شرائها، ففي تلك الفترة كان قرار رئيس حكومة الاحتلال اسحق رابين تفريق المظاهرات الفلسطينية باعتماد سياسة تكسير العظام.

وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بسبب زيادة الاحتجاجات المدنية في جميع أنحاء العالم،  بات الكيبوتس اليساري يصدِّر مدفع المياه الذي يُنتجه لأنظمة استبدادية مثل الصين وزامبيا.

تعرض المصنع المملوك للكيبوتس لانتقادات بسبب بيعه معدّات لتفريق المظاهرات للأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء العالم. وردًا على ذلك، اعتاد مُؤسس المصنع جدعون زيمان أن يقول "من الأفضل أن يرشوا الماء على المحتجين بدلًا من قتلهم".

وفي عام 2008، تم تكثيف استخدام مدفع المياه بعد تطوير نوع جديد من المياه العادمة ذات رائحة الكريهة جدًا التي تلتصق بالأجسام والملابس والأدوات ضد الفلسطينيين المحتجين على تشييد جدار الفصل العنصري. حينها، اعتبر نشطاء السلام الإسرائيليين أن مدفع المياه هذا يُستخدم في الضفة الغربية كوسيلة للعقاب الجماعي، لأن قوات الاحتلال تستهدف الجدار والمنازل والشرفات التي لا علاقة لها بالاحتجاجات.

لم يتم استخدام "مدفع كيبوتس ألفا" اليساري لرش الإسرائيليين بالمياه ذات الرائحة البرازية شديدة الكراهة، واقتصر استخدامه في قمع مظاهرات الحريديم والأثيوبيين عندما احتجّوا على العنصرية ضدهم، لكن قبل أيام وبعد استخدام مدفع المياه هذا ضد اليسار في "تل أبيب"، انطبق المثل العبري على اليسار الإسرائيلي: "ليأكلوا العصيدة التي طبخوها".