11-يوليو-2018

صورة توضيحية: سيارات ألعاب الأطفال تنتشر في غزة ومن يدفعها أطفال أيضًا - gettyimages

تنتشر سيارات أطفالٍ مزينةٍ بقطعٍ من القماش والحِبال البراقة؛ في المنتزهات العامة في غزة، وهي تُخصص ليركبها الزبائن من الصغار، لكن من يدفعها؟ إنهم أطفالٌ أيضًا، بعد أن يجتهدوا في دفعها فارغة أمام أقرانهم ذهابًا وإيابًا من أجل جذبهم، فيُصبح الطفل هنا في خدمة طفل مثله، يختلف عنه فقط بالفارق الاقتصادي.

الطفل خالد (10 سنوات) وقفَ على مسافة قريبة من طفلين برفقة والدهما، يَرفع صوت سيارته الصغيرة التي تصدح بأغنية (شخبط شخابيط) محاولاً إغراء الصغار للركوب فيها، فإجراء جولتين متواصلتين لمسافةٍ لا تزيد عن 200 متر ذهابًا وإيابًا، يعني أنه سيحصل على شيقل إضافي.

سيارات تُستخدم للترفيه عن الأطفال في المنتزهات العامة بغزة، من يدفعها؟ إنهم أطفالٌ أيضًا

التفتَ الطفلان إلى خالد، فاندفعَ باتجاههما ينادي بصوتٍ ناعمٍ حاد "اللفة بشيقل"، حتى إذا صارَ أمامهم مباشرة وجه سؤاله للأب: "ترَّكب ولادك يا عم؟". نظرَ الرجل إلى طفليه اللذين أخذهما بريق العربة في سواد الشاطئ على الأطراف الغربية لحي تل الهوا غربَ مدينة غزة، فأركَبَ الأصغرَ ذو البنطال البني والقميص الأبيض، والحذاء الرياضي، وصارَ خالد يدفع العربة ونعله البلاستيكي الأسود الواسع يرتطم في الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: السلاح الأبيض.. جريمة في جيوب أطفال غزة

خالد طوله مترٌ ونصف تقريبًا، كانَ يرتدي "شورت" من الجينز أطرافه غير مهذبة، فهو على الأغلب مقصوص من بنطالٍ طويل، و"بلوزته" المخططة باللونين الزيتي والأخضر، اثنان من أزرارها الأربعة عند الرقبة مفقودان، ووجهه المحروق من الشمس يبدو أنه كانَ حِنطيًا قبلَ أن يتغير للأسمر.

كانَ الطفل حريصًا على عدم التحدث مع زبائنه، عليه فقط أن يَدفع السيارة للأمام، كما رفضَ أن يُجيبَ على أسئلتنا، واكتفى بالنظر لنا بوجوم ثم أدار وجهه مغادرًا.

على مسافة 300 متر من خالد، كانَ شقيقه الأكبر يونس يدفع سيارة مماثلة تصدح منها هذه المرة أغنية "يا عم يا صياد". يونس (11 سنة) كان أكثر استجابةً للأسئلة، غير أنه اشترطَ أن نُرافقَ أحد رُكاب السيارة ليتمكنَ من الرد، "فالعين عليه واسعة" كما قال.

والد الطفلين يعمل في نقل الخضار والفاكهة للسوق، وهما يعملان معه منذ التحقا بالمدرسة، غير أن ذلك لا يحقق ربحًا إضافيًا، "وكل شيقل يسعف العائلة" كما أخبرهما أبوهما وهو يعرفهما على "أبو محمود".

"أبو محمود خُلقُه ديّق، ولو شافنا بنحكي مع حد ببهدلنا، وبيقول إنه مش ناقصه دواوين الصحافيين"، قالَ يونس مبتسمًا، ثم واصلَ كلامه، "أنا وخالد اخترنا البحر عشان يوميتنا 7 شيقل، في الجندي - ساحة الجندي المجهول - بالعافية بيعطينا 5 شيقل، بيحكي إنه الاثنين شيقل هدول مواصلات، بس احنا بنروح مشي".

يعمل الطفلان خالد ويونس 6 ساعات مقابل 7 شواقل، ثم يعودان لمنزلهما مسافة نصف ساعة مشيًا على الأقدام

يقطع الصغيران أكثر من نصف ساعة مشيًا على الأقدام من ساحة الجندي حتى شاطئ بالحر، بعد 6 ساعات من العمل، من الرابعة عصرًا وحتى العاشرة ليلاً. وخلال شهر رمضان، كان عملهما يبدأ عند الثامنة والنصف مساءً حتى الواحدة والنصف فجرًا.

شاهد/ي أيضًا: فيديو | ألعاب "أيام زمان" باقية في مخيم الشاطئ 

الطفلان اللذان يخشيان أن يعرفَ أبو محمود عن حديثهما مع "الصحافة"، لا يعرفان مطلقـًا أن القانون الفلسطيني يحظر عمل الأطفال دونَ سن 15 عامًا في أعمالٍ تتسبب بضرر جسدي ونفسي، وأن أبو محمود وفقـًا للقانون عليه دفع غرامة مالية لا تقل عن ألف دينار. هما يعرفان فقط أن عائلتهما بحاجة للمال، وأنهما مضطران لتحمل صراخَ الـ"معلّم" وعقابه إن حدثَ للعربة شيء.

ونصَّ قانون 19 لعام 2012 - وهو النص المعدّل من قانون الطفل الفلسطيني رقم 7 لسنة 2004 - على حظر عمل الأطفال قبلَ سِن الخامسة عشر، وتكليفهم أو استخدامهم في مهن وأعمال من شأنها الإضرار بصحتهم النفسية والبدنية، حتى لو كانت لدى أقارب من الدرجة الأولى، وأن مخالف هذه الأحكام يعاقب بغرامة لا تقل عن ألف دينار ، ولا تزيد عن ألفين.

وللطفلينَ، العشرات من زملاء المهنة ينتشرون في المنتزهات وشاطئ البحر، لا يعرف المارون عنهم أكثرَ من شكلهم "العابر"، محمد ابن (9 سنوات) لا يهتم بمن حوله. "شو بدي بالناس، بدي آخر النهار أجيب خمسة شيقل"، قال الصغير متجاهلاً أغلبَ أسئلتنا، ومعقبـًا "تقطعيش رزقي يا خالتي"، وهو ردٌ اشتركَ فيه ثلاثةٌ من زملائه عندما حاولنا سؤالهم عن أحوال عملهم.

دائرة الأسرة والطفولة في وزارة التنمية الاجتماعية، تُدرك أن تشغيل الأطفال دونَ الخامسة عشر جريمة، غير أنها تضطر لتجاهل الأمر "لأن العائلات في غزة بحاجةٍ ماسةٍ للمال"، وفقَ منسقة شبكات حماية الطفولة في الوزارة هيام الجرجاوي.

وتقول الجرجاوي: "تعود تلكَ السيارات لأشخاص بالغينَ من أقارب الطفل بالأغلب، وأحيانًا إلى أصدقاء عائلاتهم، وتزداد ظاهرة دفع الأطفال لها في الإجازات المدرسية. عندما راجعنا الأطفال تبينَ أن بعض عائلاتهم يأخذون مساعدات من وزارة التنمية الاجتماعية، وبعضهم رُب عائلاتهم يعمل في مهنٍ حرة أو حكومية".

وأوضحت لـ الترا فلسطين أنها وأثناء متابعتها للأطفال العاملين في دفع السيارات، أخبرها أغلبهم أنهم يساعدون في مصروف المنزل، وأن عملهم لا يؤثر على دراستهم. وعندما نفذت الوزارة حملة في شهر آب/أغسطس 2017 لوقف عمل الأطفال في الشوارع والميادين العامة بالتعاون مع الشرطة، كانت عائلات الأطفال ترفض أن "يُقطعَ رزق أبنائهم" كما قالوا.

تؤكد منى العجلة، رئيس دائرة الأسرة والطفل في وزارة التنمية الاجتماعية، أن الوزارة لا تتكفل بحماية الأطفال ماليًا، وقالت: "لا يوجد لدينا قانون أو قرار لصرف مخصصات مالية للأطفال العاملين في الشوارع أو عائلاتهم لمنعهم من العمل، دورنا توعية العائلات بأن عمل أطفالهم دون الخامسة عشر جريمة يمكن أن يحاسب عليها القانون".

وزارة التنمية الاجتماعية: مشاركة الأطفال عائلاتهم في العمل صيفًا ثقافة اجتماعية وليس عملاً يتسبب بضرر للأطفال

واعتبرت أن خالد ويونس وأمثالهما لا يعلمون بالمعنى الحقيقي للعمل، مضيفة، "يشارك الأطفال عائلاتهم في العمل صيفًا، وهذه ثقافة اجتماعية وليسَ عملاً يمكن أن يتسبب بضررٍ للأطفال" على حد قولها.

وفق تقرير نشره الجهاز المركزي للإحصاء، فإن عدد الأطفال العاملين في سوق العمل المحلي في الضفة وغزة بأجرٍ وبدون أجر دون السادسة عشر؛ بلغت 3.9% من إجمالي عدد الأطفال في الفئة العمرية من 10- 17 عامًا، بواقع 1.9% من نسبة الأطفال العاملين في غزة، وقد بلغَ معدل ساعات عملهم اليومية 44 ساعة عمل أسبوعية بالمتوسط في عام 2016.

الجهة الحكومية المُخولة - وزارة التنمية الاجتماعية - بحماية هذه الفئة من الأطفال لم تمارس سلطتها في متابعة مشغلي الأطفال ومعاقبتهم، فأبو محمود الذي كان يزهو بحذاءٍ بُني لامع يعرفُ أنه لا خطرَ عليه، إذ أن عائلات الأطفال تتصدر الواجهة، وحجة الظروف الاقتصادية السيئة دائمًا تأتي في صالحهم، وعلى حساب الأطفال الذينَ باتوا على قناعةٍ بأن عملهم طبيعي حتى وإن انتهكَ حقوقهم.

الناطق باسم جهاز الشرطة في غزة أيمن البطنيجي، قال لـ الترا فلسطين إنهم ينفذونَ حملات لمنع عمل الأطفال، بالتعاون مع جهات حكومية مخوله بمتابعتهم، "فدور الشرطة تنفيذي ليسَ إلا، فيما تقع مهمة الرقابة والمتابعة على عاتق الوزارات المعنية" وفق قوله.

وأضاف، "مجتمع غزة لا يساعدنا في حماية حقوق الأطفال، إذ أن صورة واحدة فقط لشرطي يضبط طفلاً يمكن أن تقلب الرأي العام، عائلات الأطفال ترى الأمر اعتداء على رزقهم ولا يؤمنون بأن عمل الأطفال انتهاك لحقوقهم".

ذلكَ التراخي الرسمي في حماية الأطفال نفسيًا وجسديًا من العمل في سن مبكرة، دفع بقوة لانتشار سيارات الدفع للأطفال في المرافق العامة؛ كالمنتزهات البلدية، وميناء غزة وشاطئه، ووسطَ المدينة، والتي يمارس الأطفال العاملونَ عليها أقسى أنواع ضبط النفس، فيرغبونَ بركوبها ولا يستطيعون، لأنهم فقط عُمال لا حقوقَ آدمية لهم، لا يراعي أحد طفولتهم المتسربة من أثوابهم القديمة وأحذيتهم البالية.


اقرأ/ي أيضًا:

فيديو | تالا وراما.. "جيتار" وطرب على شاطئ بحر غزة

فيديو | موسيقى لأطفال غزة المهمشين

"الحجلة".. رائحة طفولة قديمة تفوح في حارات غزة