قول

غزة ترحّب بكم!

11 فبراير 2025
غزة ترحب بكم .jpg
غزة ترحّب بكم!
هداية حسنين
هداية حسنين

"غزة ترحب بكم".. تبدو هذه الجملة التي تتزيّن بلافتة على مدخل مدينة غزة على بسطاتها، كالحلم الذي راود النازحين في قطاع غزة لقرابة 16 شهرًا. ومع تزايد الضخ الإعلامي عن اقتراب توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، والحديث عن أنّه في لمساته الأخيرة، يشتعل الحنين الذي لم ينطفئ يومًا في لواعج النازحين، الذين أجبروا على النزوح قسرًا من مدينة غزة والشمال، إثر تقسيم الاحتلال لقطاع غزة بمحافظاته الخمس في هذه الإبادة الجماعية إلى منطقتي شمال وادي غزة والتي تضم محافظتي غزة والشمال، وجنوب الوادي والتي تضم المحافظات الثلاث: الوسطى، وخانيونس، ورفح.

لكل الأماكن المحفورة في ذاكرتنا ولن تغيب يومًا.. حانت اللحظة، واقتربت الساعة، فمتى تدق؟!

يتخيّل النازحون -وأنا منهم وأعي ما يختلط بدواخلهم- مشهد عودتهم الذين انتظروه بفارغ الصبر، وعلى أحرّ من الجمر يتحضّرون لعودتهم، ينتظرون الوقت الذي يحين فيه الكفر بالنزوح، ومن داخل خيامهم المهترئة التي أذاقتهم مُرّ الحر والبرد طوال نزوحهم القسري الذي عاصروا فيه مختلف فصول السنة يترقّبون بزوع هلال الرجوع، ويتشوّقون لأن يلقوا حقائبهم و"بُقج" نزوحهم البائسة أرضًا في أقرب وقت، ويطرحوها عن ظهورهم المنهكة التي احدودبت من ثقل النزوح وقهره وموته، والذي كان في أغلب الأحيان هروبًا من الموت وإليه. وبأمل يبدو أنه قد شهد مخاض ولادة من رحم الوجع، ومن خاصرة القهر الممتد، ويلفظ أنفاسه من وسط الدمار والنار، حاولوا أن يربوه حيث لا خيار إلى ذلك، يتذكرون في مثل هذه الأوقات كل مرّة خاطبوا فيها أنفسهم ومن تبقى من أحبابهم التي خطفت الحرب أغلبهم وغيّبت الكثيرين منهم بمختلف الطرق، فتتردد أصداء أصوات داخلية، تلك التي لم تكف عن النطق يومًا بـ "بكرة بنرجع.. أكيد آخرتها رح نرجع" وما يشابهها من ألفاظ. وكطفل صغير تائه يبحث عن حضن أمّه الدافئ مهما صدر منها يتلهف النازحون للافتة فيها ترياق أشهر مضت، كلماتها 3 "غزة ترحب بكم".

يدرك الغزيون النازحون جيّدًا أن هذه اللافتة ربما لم تعد موجودة أصلًا من القصف والدمار الذي غيّر كل ملامح المدينة، نعم يدركون ذلك، كيف لا وهم أبناء هذا الواقع والشاهدون على هذه المقتلة التي لم تبقِ ولم تذر.

يعرفون جيّدًا أنّ أبصارهم ربما ستخذلهم للوهلة الأولى وفي كثير من اللحظات، عن تمييز اجتيازهم شوارع وطرقات هذه المدينة، وعن موقع هذه اللافتة، لكن لا يهم هذا التيه في هذه اللحظة المرتقبة بالنسبة لشعورهم. فالحقيقة أن قلوبهم بدقاتها المتسارعة وحاشاها أن تتوقّف لحظة الإحساس بتراب المدينة وركامها المخضّب بدماء شهدائها، ستكون الدليل الأصدق. وسيجد النبض في عروق أرواحهم الفانية متّسعًا له بعد حين في أن ينبض من جديد بعد توقّفه إثر الغياب التي أرغمت عليه نفوسهم وسط الإبادة، ولن تتخثر دماء أوردتهم الآن، وستتفتّح مسام جلدهم على حدس معرفة المدينة، أما ما تبقى من شرايين فسيُضخ فيها الدم المتجدد بالعودة، وعندها لن تخذلهم -وحاشاها ذلك- غزة التي ترحّب بهم، رغم قهرها، فإنها مدينة التناقضات العجيبة التي يحبُّها أهلها، مهما تغذّت غير متعمدة على أرواح ودماء أبنائها البارين بها، المقهورين فيها وعليها، لكنَ المؤكد أن أكثرهم لم ينعتقوا من الانتماء لها، الانتماء الذي لا يمكن لأبجدية أن تفسّره، ولا لحال أن يصفه. هي هكذا غزة، اسمها، وحالها، ومشاعر أهلها تجاهها، ربما سيقولون يومًا في العربية "أحبّ لدرجة فريدة، كما لو أنه تعلّق بغزة".

خليطٌ من المشاعر الذي يسيطر على المشهد، دموع لطالما حبُست مرغمة بين سجن جفون متعبة مرهقة متصلبة سينطلق سراحها فور الإعلان. بكاء الفرج المنتظر ربما سيفيض حتى أنه لن يسعه بحر غزة على امتداده على الساحل، والأعصاب التالفة أصلًا بسبب هذه المحرقة ستعود لشيء من طبيعتها لتشتد مجددًا وهي تتلهف وتترقب. تستطيع أن تتحسس الآن ندبات ذواتنا أو ما تبقى منها، وتلمسها عيانًا وحقيقة ومجازًا.

مسك رائحة شهدائنا الآن يفوح في كل أروقة الانتظار، وكأنهم قد ارتقوا في هذه اللحظة، ولك أن تتخيّل وتسرح في شعور من تبقى من ذويهم. كل مفقود نشعر وكأنه فُقد الآن، وحان وقت إدراك غيابه. ثمة رغبة غير منقطعة بتقبيل تراب كل شبر في المدينة حال وطء أقدامنا المجروحة من مواصلة السعي، وحالة من الامتنان الكبير لـ "حرّاس الشمال"، لكل ثابت صامد بقي هناك. لولاهم -بعد الله- لهُجّرت المحافظتين (غزة وشمال القطاع) كذلك، ولكلّ المقاومين الذين لم يقصّروا لحظةً وقد أعجزوا الاحتلال على بساطة ما يمتلكون عتادًا وسلاحًا، وعلى عظم ما يحملون في قلوبهم من إيمان ويقين، هم المعلومون مهما جهلناهم، وما أكثر من قضى منهم.

حالة من الشبع الروحي تلوح في الأفق بمجرد العودة رغم كل تجويع إسرائيلي ممنهج، مزيج أصوات لقاءات مؤجلة بين شتات من تبقى من الأحبة وأبناء القلوب شمالًا وجنوبًا يبدو طيفها قد حان. لن تنام العيون التي لم تهدأ منذ قرابة عام وثلث إلا بتحقيق حلم الانتظار للعودة حتى وإن كان المصير إلى الركام، وهنا يأتي وقت تنفيذ الوعد الذي لطالما احتضنته جدران المدينة المدمرة وقد خطتها أيدي المكلومين المقهورين "وعد حنعمّرها" و"رح تبقى أرضك يا غزة". وغيرها من مزيج أحاسيس لن أفلح مهما حاولت في إيصالها، فهي كما أقول: "مشاعر تعاش وأبلغ من أن توصف، أو تقال"، وما بالك عندما تكون خليطًا عجيبًا كهذا!

ومن بين أزقة مخيمات النزوح التعيسة هنا جنوبًا، ستحاصرك أصوات بسيطة، تحمل في طيّات نبراتها توقًا وصبابة لا تخلو من حذر مترقب، وستخرج من أفواه هؤلاء الأحياء مجازًا، وعلى قيد الحياة العجيبة، وتقول "اسمع عن قريب بأشوفك ع مفترق السرايا"، وآخر يخاطب نازحًا بائسًا مثله قائلًا "يعني بنلتقي عند الساحة يخو"، ومن هناك صوت يتردد "اللقاء عند دوار الشجاعية يا خال"، بلهجة غزية عنيدة أحدهم يقول "تقلقش خلص ما ضل قد ما مضى، من عند دوار الصاروخ رح نقول وصلّني على الشمال".

إلى كل بقعة ورقعة، وزقاق ورواق، وطريق وحي ودوار وشارع في غزة وشمال القطاع، إلى الشيخ رضوان، والسرايا، والجلاء، والصاروخ، والنصر، والرمال، والوحدة، والمخابرات، وتل الهوا، والزيتون، والشجاعية، والساحة، والتفاح، وحي الدرج، والشيخ عجلين، والشاطئ، واليرموك، والسامر، والنفق، والصفطاوي، وجباليا، مخيمها، والبلد، والمعسكر والنزلة، وبيت لاهيا، وبيت حانون، وتل الزعتر، وبير النعجة..وغيرها، لكل الأماكن المحفورة في ذاكرتنا ولن تغيب يومًا.. حانت اللحظة، واقتربت الساعة، فمتى تدق؟!

 

الكلمات المفتاحية

نتنياهو والشرق الأوسط الجديد

الأرض مقابل الاستسلام.. نتنياهو مبشرًا بـ"الشرق الأوسط الجديد"

ما لا يقوله نتنياهو صراحة، ربما يقوله سموتريتش، الذي تحدث بشكلٍ متكرر عن "العقاب" بالأرض


تشغيل الشرائح الاسرائيلية في طوفان الاقصى_0.jpg

لجان التحقيق في "إسرائيل": أداة للشفافية أم وسيلة للتهرب؟

تواجه لجان التحقيق الرسمية في "إسرائيل" انتقادات بأنها وسيلة لتنفيس الضغط الشعبي. ورغم تشكيل لجان بارزة إلا أن محاولات عرقلة تشكيل لجان جديدة، كما حدث بعد 7 السابع أكتوبر، يثير التساؤلات


ميتا وفلسطين.jpg

ميتا…إلى اليمين دُر!

لم تكن التغييرات في سياسات وإدارة المحتوى على منصات ميتا، التي أعلن عنها مارك زوكربرغ، استجابةً للمطالب الحقوقية المتزايدة، بل جاءت في سياق التماشي مع التحولات السياسية في الولايات المتحدة بعد فوز دونالد ترامب برئاسة البلاد


تبرير جرائم الإبادة الجماعية.png

خطاب تبرير الإبادة الجماعية: ما هو؟ وما أبعاده؟

يتّصل خطاب تبرير الإبادة وإلقاء اللَّوم على الضحية بشكل وثيق بخطاب آخر لا يبتعد عنه كثيرًا وهو خطاب معايرة الناس بمشروع الإبادة أو التدمير

رمضان بلا مساجد في غزة
تقارير

صور | رمضان في غزة بلا مساجد

استهدفت صواريخ الاحتلال المساجد في قطاع غزة بشكل مباشر، بما في ذلك قصفها على رؤوس المصلين، وتعرضت مساجد أثرية، مثل المسجد العمري الكبير، للتدمير، ووثّق جنود الاحتلال بهواتفهم إحراق المصاحف وتدنيس المساجد

رونين بار وبنيامين نتنياهو
أخبار

المحكمة العليا الإسرائيليّة تجمّد قرار إقالة رئيس الشاباك مؤقتًا

أصدرت العليا الإسرائيلية أمرًا مؤقتًا بتجميد قرار إقالة رئيس جهاز الشاباك، رونين بار، بعد تقديم التماسات من المعارضة وجمعيات مدنية، وقد منعت المحكمة تعيين بديل له حتى النظر في الالتماسات


القاضي المتقاعد أهارون باراك، الرئيس الأسبق للمحكمة الإسرائيلية العليا
راصد

الرئيس الأسبق للمحكمة العليا: "إسرائيل" على حافة الحرب الأهلية

حذر القاضي أهارون باراك من خطر انزلاق إسرائيل نحو حرب أهلية بسبب التوترات الداخلية المتفاقمة، ودعا إلى التهدئة والتفاوض لتجنّب العنف، منتقدًا محاولات إقالة مسؤولين كبار

نتنياهو طلب تدمير غزة
أخبار

بعد 48 ساعة من بداية العدوان.. نتنياهو طلب تدمير المنازل وقصف كل غزة

كشف الصحفي الإسرائيلي، ناحوم برنياع، عن حوار بين رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، طالب خلاله نتنياهو في تدمير قطاع غزة

الأكثر قراءة

1
قول

الأرض مقابل الاستسلام.. نتنياهو مبشرًا بـ"الشرق الأوسط الجديد"


2
راصد

خبراء إسرائيليون: الحرب لن تعيد الأسرى واستئنافها دوافعه سياسية


3
راصد

نتنياهو انتهك وقف النار ودفع ترامب للتنازل عنه.. انقسامات في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية