15-أبريل-2018

ذابت عينا لؤي تمامًا.. تلاشتا عن الوجود ولا أحد يعلم إذا كانتا ما زالتا قادرتين على الأبصار في مكان آخر بعيدًا عن لؤي. مضى على الفراق بين الطفل وعيناه تسع سنوات الآن، لا بد أن الطفل أصبح شابًا، لا بد أن به رغبة مجنونة للإبصار.

في العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة  عام 2009 صعد نجم الطفل لؤي صبح الذي كررت وسائل الاعلام آنذاك بثّ مقابلته، كان يتحدث بهدوء لا يناسب طفلا فقد قدرته على الإبصار للتو. كانت أفكاره مرتّبة وكان صوته خفيضًا، بل إنه وبلغة فصحى شكر المذيع في ختام كلامه.

 أي سلوك أنانيّ يجعل الإنسان يتغنى بصبر إنسان آخر على الألم! الفكرة هنا أننا كجمهور متفرّج على الحرب نشوش علاقة الموجوع بوجعه لأننا جعلناه مصدرًا لمديحه! 

 لم يقنعه أحدٌ بالبكاء أو محاولته، بل بارك الناس صلابة الطفل وإيمانه وبدا لهم أنه إشارة من الله على قرب النصر. لأنه لا يمكن أن يكون وراء هذه القوة سوى إيمان عظيم، هكذا يقولون. في هذا الوقت لا أحد يريد أن يتحدّث عن الأمراض النفسية لأن الوقت ليس مناسبًا لمزيد من الخسائر.

"الطفل البطل" كان أمام خيارين ربما، إمّا أن ينهار كطفل أو أن يصمد كرجل، ورغم أنه ليس رجلًا بعد، إلا أنه إختار أن يردد الكلمات التي تجعل منه رجلًا، الكلمات التي يرددها من حوله، الكلمات التي يصفّق العالم كلّه لأهل غزة لأنهم يرددونها. فأهل غزة  يخبرون العالم فعلًا وقولًا أنّهم أبطال وأنهم قادرون على تحمّل المزيد، وأنهم مستعدون دائمًا للتضحية. ونحن -أي الآمنون في بيوتنا- نصفّق لهذه الشجاعة ونباركها.

الغزيّون أبطالٌ بالإجبار، ونحن البعيدون عن حربهم نحمل ذنب هذا. كلهم مثل لؤي، يخافون التحوّل إلى مجرد ضحايا للحرب يشفق الناس عليهم لبرهة ثم ينسونهم، يخافون أن تُفقدهم دموعهم الشيء الوحيد الذي منحتهم اياه هذه الحرب "البطولة". وإذا كانوا عالقين في هذه الحرب بلا تاريخ انتهاء فليكونوا أبطالًا إذًا؛ يذكرهم التاريخ للأبد.

أي سلوك أنانيّ يجعل الإنسان يتغنى بصبر إنسان آخر على الألم! الفكرة هنا أننا كجمهور متفرّج على الحرب نشوش علاقة الموجوع بوجعه لأننا جعلناه مصدرًا لمديحه، فإن هو احتجّ على الألم وإن هو أعلن نفاذ صبره وبطولته فإنه عندها لن يفقد لقبه كبطل فقط، بل سيتحوّل إلى مخرّب على جيرانه وأهله المستمرين بالبطولة. سيتحول مع الوقت إلى كائن منبوذ بسبب ضعفه، وحتى التعاطف معه كضحيّة لن يجده في زحمة التغني ببطولات الضحايا الآخرين الذين لم ينهاروا بعد.

يُستخدم اللون الأزرق للتدليل على الاكتئاب والمزاج السيّء، حتى إن الاستفسار عن حزن أحدهم يكون  بسؤاله "لماذا تبدو أزرقًا اليوم؟" بالتأكيد لم يخطر على بال مؤسس الفيسبوك ذلك وهو يختاره لونًا لوقعه، ولكنّه –فيسبوك-  ولا أعلم إذا كان اللون الازرق هو السبب، بات مصدرًا للحزن والقلق وخيبات الأمل. تبدو الأخبار والصور فيه حزينة أكثر مقارنة بمشاهدة ذات الصور على التلفاز، ربما لأنّها مصحوبة بتعليقات الناس؟ ربما. ربما لأن تجاور الصور المؤلمة للغرباء يأتي مع كلمات مديح افتراضية من أصدقاء نعرف أنّهم لن يتحملوا أن يصيبهم ذات الألم؟ ربما.  وأيضًا ربما لأنّ هذا العالم الأزرق بات يجبر الضحية أن تبدو قوية حتى وإن لم تكن كذلك، أن تبدو راضية حتى لو لم تكن تشعر بذلك.  

يمر لؤي على بالي كثيرًا، ربما لأنني لم أرَ في حياتي عينان ذائبتان تمامًا هكذا؟ ربما.


اقرأ/ي أيضًا:

في تطريزِ أنفسنا عبر الذاكرة

قرب المكان المنقرض: غزة وممكنات مخيّمها

الاحتلال والمراهنة على الوقت في حلّ أزمة غزة