18-نوفمبر-2018

غزة الجريح تُخضع إسرائيل

شكّلت التطورات الأخيرة محطة جديدة في المواجهة مع إسرائيل، حين اكتشفت المقاومة في قطاع غزة، وحدة إسرائيليّة خاصّة شرقيّ خانيونس، فاشتبكت معها وقتلت قائدها وأصابت مساعده، فيما تمكّن باقي عناصر القوّة من الفرار مدعومين بغطاء جويّ إسرائيليّ، ما أسفر عن استشهاد سبعة مقاومين. 

ورغم أن اكتشاف تلك القوّة الإسرائيليّة يعدّ إنجازًا أمنيًا للمقاومة، إلّا أنّ دخولها على عمق ثلاثة كيلومترات، يُشكّل اختراقًا أمنيًا حسّاسًا، بالتالي أصبحت أجهزة أمن المقاومة ومعها الأجهزة الأمنية الحكومية في القطاع، مطالبة بالإجابة على الأسئلة الغامضة حول الكيفية والزمان والمكان الذي دخل منه أفراد المجموعة، والجهة التي قدّمت لهم المساعدات؛ من تأمين وسائل النقل والإقامة والعتاد والعدة وغيرها. ما قد يؤشّر إلى وجود بنية لمجموعات من العملاء، يُفترض أن يتم البحث عنهم، لاجتثاثهم، لتضاف ضربة قوية جديدة للمنظومة الأمنية الإسرائيلية.

ومن المؤكد أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هو من أعطى التعليمات للوحدة بعد موافقة وزير الجيش الإسرائيلي المستقيل أفيغدور ليبرمان، وقادة الشاباك والجيش، وذلك لأهمية العملية التي يراد تنفيذها في غزة والتي لا زالت مجهولة، وهذا ما أكده نتنياهو حين وصف القتيل بـ "البطل الذي كان في مهمة عظيمة لخدمة أمن دولة إسرائيل". 

  حاولت إسرائيل في البداية أن تخفي حقيقة ما حدث .  

حاولت إسرائيل في البداية أن تخفي حقيقة ما حدث، والادّعاء بأن وحدة خاصة إسرائيلية اغتالت المسؤول العسكري الشهيد "نور بركة" ومقاومين آخرين، وكأنّها قد حققت نجاحًا أمنيًا كبيرًا، وأنّ مصير التهدئة أصبح في يد حركة حماس إن كانت سترد على عملية الاغتيال أم تواصل الالتزام بالتهدئة. ولكن سرعان ما تغيّرت الرواية الإسرائيلية التي اتّسمت بالإرباك والكذب. 

وفي ظلّ غياب رواية إسرائيلية رسمية لما حدث، تابع الإسرائيليون المواقع الإعلامية الفلسطينية، إلى أن خرج الناطق العسكري الإسرائيلي لنفي شائعات وقوع جندي إسرائيلي في الأسر، ثم الاعتراف التدريجيّ عن وقوع الوحدة الإسرائيلية في ورطة قاسية، وفشلها في استكمال مهمّتها بعد اكتشافها من قبل المقاومة، والتي اعتقد إسرائيل أنها في حالة استرخاء بعد التهدئة. 

المقاومة من جهتها، استغلت الخرق الإسرائيلي لصالحها عبر صياغة قواعد جديدة للتهدئة، بضرورة الردّ العسكري المباشر العلني على أي خرق إسرائيلي، حتى وإن كان غير مرئي للجمهور، ولم تكتف بقتل قائد الوحدة واعتباره في إطار الدفاع عن النفس  فقط. 

   تابع الإسرائيليون المواقع الإعلامية الفلسطينية في البداية، مع غياب رواية رسمية إسرائيلية لما حدث!   

وتُرجمت تلك القواعد بإطلاق مئات الصواريخ على التجمّعات الاستيطانية، وما حملته من رسائل مهمّة، أبرزها تعطيل القبة الحديدية وإظهارها بالفاشلة، ورسالة صاروخ الكورنيت الموجّه الذي استهدف حافلة الجنود وحوّلها إلى كتلة لهب، كما ظهر بالفيديو الذي نشرته كتائب القسام، كتأكيد على أنّ التزامها بالتهدئة ليس ضعفًا وإنما قوة. ما أدى لتراجع التهديدات الإسرائيلية والعودة للتهدئة، والتي بدت فيها إسرائيل ضعيفة أمام المقاومة.

الرسالة الأخرى التي أوصلتها المقاومة، أنّه وفي حال اختيار إسرائيل للمواجهة، فإنّ الفصائل جاهزة، ولن تبقى غزة لوحدها ساحة الاشتباك، بل كل التجمعات الإسرائيلية. 
 
إسرائيليًا، تسارعت الأحداث والتداعيات، وجرت الرياح بما لا يشتهي نتنياهو، حيث فشل في إقناع المجتمع الإسرائيلي  والأحزاب بالتهدئة، وخرجت مظاهرات ومسيرات كبرى في مدن إسرائيلية رفضًا للتهدئة باعتبار أنها "هزيمة واستسلام"،  وهو ما عبّر عنه رئيس مركز أبحاث الأمن القومي ورئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق "عاموس يادلين"، حين قال: حُق لحركة حماس أن تتباهى بانتصارها على إسرائيل. 

في آخر استطلاع للرأي العام، عبّر ثلاثة أرباع الإسرائيليين عن عدم رضاهم لأداء الحكومة والجيش في الجولة الأخيرة، فيما اعتبر نصف المجتمع اليهودي أنّ إسرائيل تلقّت هزيمة كبرى. وفقط اعتبر 14% أن إسرائيل انتصرت. 

وفي مقابل ذلك انطلقت مسيرات فلسطينية في قطاع غزة ابتهاجًا بانتصار المقاومة في هذه الجولة، في مشهد تاريخي ظهر فيه الجيش الإسرائيلي منهزمًا بعد أن أطلق عليه المجتمع الإسرائيلي سابقًا "البقرة المقدسة"، وحرّم المساس به أو نقده. 

   جاءت استقالة وزير الجيش الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان لتعمّق الأزمة   

وحرصت إسرائيل على التهدئة مع غزة لأسباب عدة، منها ما هو مرتبط بمستقبل الضفة والقطاع والانقسام الفلسطيني، ومنها ما يخصُّ التطبيع مع بعض العرب وخاصة السعودية، كما المواجهة مع إيران وحزب الله، إلا أن رفض المجتمع الإسرائيلي بأغلبيته لوقف إطلاق النار والعودة للتهدئة، وهذه المظاهرات الغاضبة، واعتبارها هزيمة وخنوع إسرائيلي للمقاومة الفلسطينية، وشعور الفلسطينيين والعرب بنشوة الانتصار عبر الكفاح المسلّح، يعتبر خطرًا استراتيجيا وفق العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي صاغها دافيد بن غوريون، ومفادها أن شعور الفلسطيني أو العربي بالانتصار يعني أن العرب اقتنعوا أنه بالإمكان هزيمة إسرائيل عسكريًا، وهذا ما يؤدي إلى خلق بيئة قوية للمقاومة. الأمر الذي وضع الحكومة واليمين والجيش في موقع الضعيف المهزوم أمام المجتمع اليهودي وأمام أعداء إسرائيل على السواء. 

هذا الوضع، قد يدفع إسرائيل للهروب باتجاه مغامرات خطيرة، في محاولة لإعادة ما يسمى "هيبة الجيش الإسرائيلي"، مع  دعم اليمين الأمريكي المُطلق للخيارات العسكرية، وخوف اليمين الإسرائيلي من فشل شعار أنّ اليمين ونتنياهو هم فقط القادرين على جلب الأمن. 

    قد تُقدم إسرائيل على "مغامرات خطيرة" لرد الاعتبار لجيشها   

وتزامنت هذه التطورات مع قرب إنهاء غادي ايزنكوت لرئاسة أركان الجيش الإسرائيلي، والذي سيحاول تغيير الصورة   كي لا يخسر مستقبله السياسيّ، لذلك بات مطلوبًا من الكل الفلسطيني عدم المبالغة في قراءة المشهد العام، مع عدم التقليل من الانتصار النوعي، الأمر الذي يفرض على المقاومة  الحذر واليقظة، كما كانت في ليلة خانيونس، في وقت تتسلل فيه وحدات القتل الإسرائيلية لدول سيادية ذات جيوش قوية تبعد آلاف الكيلومترات عن إسرائيل وتختطف وتقتل وتعود سالمة. 

لقد أثبتت غزة المحاصرة الجريحة أنّها تمتلك مخزونًا هائلًا من الكبرياء والعزة وأدوات جارحة لإيلام إسرائيل، في زمن تتودد فيه أنظمة عربية وإسلامية تقرّبًا من إسرائيل.


اقرأ/ي أيضًا: 

الفلسطينيون على “Netflix”.. الحلقة الثانية
المقاومة تُخضِعُ الدّولة
 أعود لأكتب